29 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

حين عزم بورقيبة على طرد ياسر عرفات

أحمد نظيف

6 نيسان 2024

من ملف ثالث المنافي، الوجود الفلسطيني في تونس (1974-1994)
ياسر عرفات والحبيب بورقيبة ومعمّر القذافي في طرابلس في 2 أيلول/سبتمبر 1973

لم ينم في تلك الليلة البعيدة من عام 1985. الأرق رفيقه منذ نهاية الستينيات، ولكنّها كانت ليلة استثنائية بالفعل. بقي الحبيب بورقيبة في خلالها صاحياً وغاضباً وخائفاً، حتى إذا دخل عليه مدير الديوان الرئاسي منصور السخيري مع بزوغ ساعات الصباح الأولى للخامس من تشرين الأول/أكتوبر، بدا واهناً، منحني الرأس فوق مكتبه، بالكاد يردّ التحية.

طلب على الفور استدعاء الوزير الأول وزير الداخلية محمد مزالي، ومدير الأمن الوطني زين العابدين بن علي. ولمّا بلغ المسؤولان قصر قرطاج عجولين، دعاهما بلا مقدمات إلى إعداد تقرير مفصل حول الغارة الإسرائيلية التي كانت قد استهدفت مقرّ منظمة التحرير الفلسطينية في الضاحية الشمالية لتونس العاصمة في مستهل الشهر.

كان رئيس تونس وزعيم الدولة الوطنية قد ناهز الـ 82 سنة، وفي مرحلة يفقد معها السطوة شيئاً فشيئاً، حين نفذت المقاتلات الإسرائيلية غاراتها في ذلك اليوم. نشأ أمامه مشهدٌ عزّز لديه الخشية من مصير لبناني أو أردني لتونس في ظلّ استضافتها منظمة التحرير وقادتها، ودفعه أبعد في مسار تقييم قراره بالاستقبال في عام 1982 إبّان الخروج من بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي والحصار.

بدا بورقيبة موجِزاً حاسماً في اجتماعه مع مزالي وبن علي. كان الاجتماع من نوع الاجتماعات التي تنفضّ سريعاً. ثم بالكاد مضى يومان حتى تفاقمت حسابات قرطاج وتعقدت أكثر مع خطف السفينة الإيطالية السياحية MS Achille Lauro على يد أربعة عناصر من فصيل جبهة التحرير الفلسطينية، المنضوية في منظمة التحرير ويقودها محمد عباس (أبو العباس)، القريب إلى ياسر عرفات والمؤمن بخيار الكفاح المسلّح.

 

كانت السفينة في المياه المصرية بعد أربعة أيام من إبحارها من مدينة جنوة، وقبل ساعات من توجّهها إلى إسدود المحتلة. أراد الفدائيون الخاطفون نقلها إلى طرطوس السورية، وهدّدوا بإعدام من هم على متنها إذا لم يُطلق سراح 50 أسيراً، من بينهم اللبناني سمير القنطار الذي كان قد أسِر في عام 1979 في عملية لـ جبهة التحرير.

لكن بمجرّد بلوغ السفينة مياه سوريا، ومنعها من العبور إلى الميناء، نفّذ الخاطفون تهديدهم بقتل الرهينة الأولى، ليون كلينغهوفر Leon Klinghoffer، ذي الجنسية الأميركية. وقبل عملية الإعدام الثانية، تلقوا أوامر من قادة جبهتهم بالتوجه نحو بورسعيد، حيث ستسمح الحكومة المصرية برسو السفينة وتشرع في التفاوض معهم.

وبعد الاتصال بين القاهرة وروما، أتيح للفدائيين الخاطفين الصعود على متن طائرة متجهة إلى تونس، حيث المقر الرئيسي لقائد جبهة التحرير أبي العباس، وحيث كان قد جرى التخطيط لعملية الخطف. غير أنّ الولايات المتحدة نجحت عبر عملية قرصنة جوية في تحويل مسار الطائرة المصرية إلى قاعدة Sigonella الجوية في إيطاليا، حيث توجد وحدة عسكرية أميركية. وبعد الهبوط، حاصر الجنود الأميركيون الطائرة، لكن رئيس الوزراء الإيطالي بتينو كراكسي رفض تسليم الفدائيين الأربعة إلى واشنطن، لتتم محاكمتهم في إيطاليا.

السفينة الإيطالية تغادر بورسعيد في 10 تشرين الأول/أكتوبر (@AFP/GETTY)

 

لا عرفات في قرطاج

ستلقي حادثة خطف السفينة وما تبعها من تحقيقات صحافية وأمنية حول التخطيط لها في تونس، بظلال ثقيلة على العلاقة بين منظمة التحرير والدولة التونسية، وسط اشتداد الضغوط الغربية على الأخيرة بشأن نشاط بعض القيادات الفلسطينية على أراضيها، وعلى رأسهم أبو العباس.

لكن في مساء اليوم التالي، 08/10/1985، سيطرح الحبيب بورقيبة للمرة الأولى فكرة طرد منظمة التحرير على اعتبار أنّ وجودها غدا مصدر متاعب. كان في اجتماع ثان مع مزالي وبن علي لإطلاعه على التقرير الأوّلي الذي كان قد طلبه. وقد استشهد في معرض حديثه بالقصف الإسرائيلي لمقرّ المنظمة[1] وبحادثة خطف السفينة.

كما كان بورقيبة قد دخل في نوبة غضب عارم، بعد إطلاق ضابط أمن النارَ على مجموعة من الأشخاص بينهم يهود، في جزيرة جربة جنوبي البلاد، في صباح ذلك اليوم، ما أدى إلى مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة آخرين، انتقاماً من القصف الإسرائيلي[2].

 

كان الرئيس التونسي عاقد العزم على طرد منظمة التحرير من البلاد. وفيما برز شبه إجماع بينه وبين مجلس الوزراء على عدم السماح لأبي العباس بالعودة، فإنّ غضب الحكومة التونسية من إدارة الرئيس رونالد ريغان، يفسّر جزئياً تردّد السلطات الأمنية لاحقاً في اتخاذ أي موقف بشأن عودة القيادي الفلسطيني من عدمها.

أراد التونسيون استعمال ورقة أبي العباس للضغط على واشنطن، من أجل ضمانات إسرائيلية بتجنّب أي اعتداء في المستقبل على الأراضي التونسية، فكان قرار رفض عودته وقتياً ويهدف إلى حفظ العلاقة مع الأميركيين.

وكانت تونس قد رفضت السماح للطائرة المصرية التي تقلّ الخاطفين الفلسطينيين بدخول البلاد، إذ كان من المفترض أن تحاكمهم منظمة التحرير. مع ذلك، قال رئيس الوزراء محمد مزالي، في مؤتمر صحافي في روما، إنّ تونس قد تسمح لأبي العباس بالعودة إلى منزله، آتياً من القاهرة حيث كان يتواصل مع الخاطفين. وأضاف: «ليس لدينا شيء ضده»[3]، بخاصة أن تونس لم يكن لديها حتى ذلك الوقت أي معاهدة لتسليم المطلوبين مع الولايات المتحدة.

لكن رغم هذه المناورة التونسية بشأن أبي العباس، لم يكن موقف النظام، وبورقيبة أساساً، صريحاً حول مستقبل وجود منظمة التحرير في تونس. فقد كشف بعض المسؤولين الفلسطينيين أنّهم تلقوا إشارات ضمنية بأنّ إقامتهم غدت هشة. وكان بورقيبة قد رفض بشكل معلن مقابلة ياسر عرفات منذ الضربة الجوية الإسرائيلية، وذلك بخلاف موقف زوجه النافذة وسيلة بن عمار، الشخصية التونسية الوحيدة ذات الثقل السياسي التي التقت عرفات.

أيضاً لم تثنِ الرئيس التونسي زيارةُ نظيره الجزائري الشاذلي بن جديد ودعوته إلى لقاء أبو عمّار.

 

لقاء كأنّه الأخير

قرّر ياسر عرفات مغادرة البلاد. وفي مطار قرطاج، طلب من السفير الفلسطيني لدى تونس حكم بلعاوي، تسليم جواز سفره الدبلوماسي إلى السلطات، فهو لم يعد في حاجة إليه، وفقاً لقوله. وفيما أخذ طريقه نحو الجزائر بجوازه اليمني، كان أبو إياد قد نجح في اليوم نفسه في اقتلاع لقاء مع بورقيبة، الذي قال لضيفه في قصر قرطاج:

«كل الذين معك أنت (عناصر جهاز الأمن) مرحب بهم، حتى تحرير فلسطين، ولكن أبو عمار لا، فمشكلاته كثيرة، ووجوده هنا يعقّد الوضع». فردّ أبو إياد: «أرجو أن تمنحني أسبوعاً أو عشرة أيام (...) كي أتصل بالأخ العقيد معمر القذافي، لأطلب منه إرسال حافلات وشاحنات لنقل الفلسطينيين من تونس نحو ليبيا»، وفق الرواية الخاصة بمدير وكالة الأنباء الفلسطينية في تونس يومها زياد عبد الفتاح[4].

كان منصور السخيري يراقب اللقاء الصاخب بصمت، ولكنّه يهزّ رأسه موافقاً كلما أشاح بورقيبة النظر عن القائد الفلسطيني وتطلع فيه. أما زين العابدين بن عليّ، فكان واقفاً لا يتحرك، وفق عبد الفتاح الذي يضيف:

«أصابت المفاجأة عقل بورقيبة، حتى كادت تشلّه... وعندما استعاد توازنه، أومأ إلى وزير أمنه (بن علي) لإدراك صلاح خلف، وإقناعه بأنّ الرئيس لا يقصد، وإن كان يقصد، فإن أركان الدولة ليسوا معه. وأضاف أنه يأمل ومعه الوزير الأول، أن ينسى أبو إياد كل ما قاله الرئيس بورقيبة، وألا يعرف عرفات بما دار (...) وقد أسرّ الرجل في تلك اللحظة لأبي إياد بأنّ الرئيس قد شاخ، وعليه ألا يأخذ كلامه بحذافيره».

كانت دوافع خشية بورقيبة من رحيل المنظمة إلى ليبيا مزدوجةً. بعضها شخصي، بسبب العداوة القائمة بينه وبين القذافي، والتي بلغت في صيف 1985 طرد حوالى 30 ألف عامل تونسي من ليبيا عشوائياً[5]. غير أنّ الدافع الأساسي كان أمنياً، إذ كان يخشى أن تتحوّل منظمة التحرير، عبر انتقالها إلى طرابلس، إلى أداة في يد القذافي، قد يستطيع عبرها تنفيذ عمليات داخل تونس، أو حتى إسقاط النظام.

فمنذ إخفاق الوحدة التونسية الليبية عام 1974، كان القذافي يحاول إسقاط النظام في تونس، سواء عبر الاستثمار في صراع الأجنحة أو عبر العمل المسلح، مثلما حدث في عملية قفصة 1980. وفي خريف 1985، قبل أيامٍ قليلةٍ من الهجوم الإسرائيلي، قطع بورقيبة العلاقات الدبلوماسية مع ليبيا. وأعلنت السلطات طرد أربعة ديبلوماسيين ليبيين بتهم إرسال أكثر من 100 رسالة مفخخة إلى صحافيين محليين، وذلك بعد طردها في آب/ أغسطس 283 ليبياً، بينهم 30 ديبلوماسياً، بتهمة التجسس[6].

 

خشية من إسرائيل

تزعزعت العلاقة بين بورقيبة ومنظمة التحرير، ولا سيما ياسر عرفات، بعد الهجوم الإسرائيلي على حمّام الشاطئ. كان الرئيس التونسي يخشى على بلاده من مصير لبناني أو أردني، وكانت أزمته الصحية والسياسية عنصراً ضاغطاً بشدّة عليه. في المقابل لم تكن منظمة التحرير قويةً بالشكل الذي كانت عليه في لبنان والأردن، وكان عرفات قد فقد السيطرة على أجزائها المتفرقة بين السودان واليمن والجزائر.

ومقارنةً بسبعة آلاف أتوا من بيروت عام 1982، لم يكن عدد الفلسطينيين في تونس، بعد حمّام الشط، يتجاوز بضع مئات من الكوادر ، إلى جانب عدد من أطفال الشهداء الذين راحوا يواصلون دراستهم في البلاد.

وفي سياق فرض حواجز أكبر أمام أنصار عرب وأجانب يزورون مقرّ منظمة التحرير المركزي في تونس كل عامٍ، وضعت السلطات في المعابر والمطارات قائمة ممنوعين من الدخول، غالبيتهم من العناصر الثورية اليسارية الأممية والعربية. كما أنّها سحبت عدداً من جوازات السفر التونسية، التي كانت قد مُنحت لبعض مسؤولي الصف الثاني في المنظمة، وألغت تصاريح إقامة لآخرين.

من جهة أخرى، فككت منظمة التحرير حضورها العسكري تماماً، حتى على مستوى القادة والخبراء. ونقلت ما تبقى من العناصر المسلحة إلى قواعدها في اليمن والسودان، كما انتقل قطاع آخر إلى الجزائر، فيما تسلل البعض إلى لبنان من جديد، ضمن خطة عرفات وحلفائه بإعادة التموضع.

وفي الأردن الخائفة بدورها من انتقام إسرائيلي كما تونس، انتقل عشرات المقاتلين الفلسطينيين المسلحين، بخاصة الموالين إلى أبي العباس، إلى العراق، قبل انتقال المجموعة التي تدير العمليات العسكرية في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر.

وتكشف وثيقة[7] بتاريخ 8 تشرين الثاني/نوفمبر 1985، رفعت المخابرات المركزية الأميركية السرية عنها في عام 2016، نقلَ ياسر عرفات مركز إدارة العمليات العسكرية لـ حركة فتح من تونس إلى العراق. وجاءت هذه الخطوة بعدما أبلغ الجانب التونسي أبا عمّار بأنّ القيادة السياسية الفلسطينية والطاقم الإداري فقط هم الذين يمكنهم البقاء.

 

[1] HOSTAGES AND HIJACKERS; TUNISIANS REPORTED AT ODDS ON LETTING THE P.L.O. STAY - Edward Schumacher The New York Times Oct. 17, 1985.

[2] AROUND THE WORLD; Tunisian Officer Fires Into Crowd, Killing 3 - The New York Times Oct. 9, 1985.

[3] HOSTAGES AND HIJACKERS ;   TUNISIANS REPORTED AT ODDS ON LETTING THE P.L.O. STAY - Edward Schumacher The New York Times Oct. 17, 1985.

[4] زياد عبد الفتاح، ورق حرير، دار ميريت للنشر، القاهرة 2014.

[5] Emmanuel Alcaraz - Les migrants libyens en Tunisie : un enjeu majeur des dynamiques migratoires dans l’espace maghrébin - Revue internationale des études du développement 2018/4 (N° 236), pages 9 à 31.

[6] TUNISIA BREAKS OFF TIES WITH LIBYA AND OUSTS -Reuters Sept. 27, 1985.

[7] PLO'S WAR BASE MOVES TO IRAQ -Collection: General CIA Records -Document Number (FOIA) /ESDN (CREST): CIA-RDP90-00965R000100480002-0 Document Creation Date: December 22, 2016 -Publication Date: November 8, 1985.

أحمد نظيف

كاتب صحافي تونسي، وباحث مهتم بالعلوم الاجتماعية، صدر له: بنادق سائحة: تونسيون في شبكات الجهاد العالمي (2016)؛ المجموعة الأمنية: الجهاز الخاص للحركة الإسلامية في تونس (2017)؛ عشر ساعات هزّت تونس.. حريق السفارة الأمريكية ونتائجه (2019)؛ التاريخ السرّي للإخوان المسلمين في تونس (بالإنجليزية 2020).

×