27 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

العدو في سماء تونس، مجزرة حمّام الشطّ

أحمد نظيف

5 حزيران 2023

من ملف ثالث المنافي، الوجود الفلسطيني في تونس (1974-1994)
سقط من جراء الغارة خمسون شهيداً فلسطينياً وثمانية عشر شهيداً تونسياً ومئة جريح

هل نسينا شيئاً وراءنا؟

نعم،

نسينا تلفت القلب

وتركنا فيك خير ما فينا.

تركنا فيك شهداءنا الذين نوصيك بهم خيراً.

* محمود درويش – كيف نشفى من حب تونس

 

ما زال طاهر الشيخ، مدير مكتب «وكالة الأنباء الفلسطينية» (وفا) في تونس، يتذكر صباح الأول من تشرين الأول/أكتوبر 1985، لمّا وصل إلى ضاحية حمّام الشطّ في جنوب العاصمة، ليلمح ياسر عرفات واقفاً على ركام مكتبه يبث شعارات الصمود والتحدّي في وجه مراسلي وكالات الأنباء العالمية، فيما غرق مرافقوه وعناصر الدفاع المدني التونسي في انتشال الأجساد الممزقة. كانت الطائرات الإسرائيلية قد فرغت لتوّها من إلقاء حمولتها المتفجرة على المربع الأمني في حمّام الشطّ، الذي يضم مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية وبيت قائدها أبي عمار، ثم تبخرت وسط الدخان الكثيف مخلّفةً وراءها خمسين شهيداً فلسطينياً وثمانية عشر شهيداً تونسياً ومئة جريح، إلى جانب خسائر مادية قدرت يومذاك بنحو 8,5 مليون دولار.

اعتقد طياروها أنهم أصابوا هدفهم الرئيسي في مقتل وطَمروا نهائياً وإلى الأبد قيادة الثورة الفلسطينية. لكن جاء الردّ سريعاً، إذ عمّمت القيادة الفلسطينية الخبر على الوكالات العالمية، وكان واضحاً ومختصراً: «نجا عرفات من محاولة اغتيال صهيونية». كان طاهر الشيخ أول من أذاع الخبر عبر الهاتف.

 

حمّام الشطّ مقراً

يروي الشيخ تفاصيل الثلاثاء الدامي: «كنت في مكتب وكالة الأنباء الفلسطينية في ضاحية المنزه السادس. قبل العاشرة بدقائق قليلة، وصلتنا أخبار مفادها أن طائرات حربية قصفت مقر الرئيس عرفات في ضاحية حمّام الشطّ. في المنزه، وبعيداً عن مكان الهجوم، أحسسنا بصوت الطيران الحربي. كنا قد تعودنا هذه الأصوات منذ كانت الثورة الفلسطينية في لبنان. كان هناك في المربع الأمني في حمّام الشطّ عدد من المقرات التابعة للمنظمة: مكتب الرئيس عرفات، بيته الخاص، مقر القوة 17، الحرس الرئاسي، الإدارة العسكرية التي تحتفظ بأرشيف مقاتلي الثورة الفلسطينية، الإدارة المالية، بعض بيوت مرافقي أبو عمار والموظفين في مؤسسات المنظمة»[1].

يضيف الشيخ: «وصلت إلى هناك بصعوبة شديدة، فقد كانت السلطات التونسية فرضت حصاراً محكماً حول الضاحية. وصلت لأعيش أسعد لحظة في حياتي لما وجدت أبا عمار واقفاً فوق ركام مكتبه يتفقد آثار العدوان. كان متماسكاً كعادته وبدا على قسمات وجهه الغضب وكثير من التحدّي. طوال الطريق كنت أعتقد أن أبا عمار استشهد. كانت نجاته نصراً عظيماً، رغم أننا فقدنا رفاقاً وإخوةً أعزاء. لكن نجاة أبي عمار كانت تعني فشل المخطط الإسرائيلي الرامي إلى القضاء على المقاومة».

كانت حمّام الشطّ ضاحية هادئة ترقد عند الساحل الجنوبي للعاصمة تونس، وتبعد عن وسط المدينة نحو 25 كلم. اختارتها القيادة الفلسطينية مقراً لكوادر منظمة التحرير الإدارية والإعلامية، ومركزاً للقيادة، منذ وصولها في 1982. اتخذت فندق «سلوى» في الضاحية مقراً رئيسياً، وجعلت محيطه ما يشبه مربعاً أمنياً اجتمعت فيه المقرات الإدارية كافة، إلى جانب مكتب الرئيس أبي عمار وبيته الخاص. أما المقاتلون، فاستقروا في معسكر وادي الزرقاء بين ولايتي باجة وجندوبة، إلى شمال غرب العاصمة، قرب الحدود الجزائرية.

وفقاً لرواية الشيخ، إنّ «أربع طائرات إسرائيلية F-15 نجحت في دخول المجال الجوي التونسي عند العاشرة، وقصفت المربع الأمني كاملاً لمدة تجاوزت عشر دقائق. وكانت تعضدها طائرات مقاتلة تحسباً لأي عملية اعتراض جوي، كما تزودت بالوقود في طريق الوفود والعودة خارج المجال الجوي التونسي في سماء البحر الأبيض المتوسط».

تروي مصادر أمنية تونسية عملت ضمن خلية الاتصال الأمني التونسي - الفلسطيني، أنّ رئيس الحكومة الإيطالية، الاشتراكي بيتينو كراكسي، أبلغ السلطات بوجود طائرات حربية مجهولة الهوية بصدد التزود بالوقود فوق البحر المتوسط وتتجه في طريقها إلى السواحل التونسية. كان الوقت قد أزف، ولم تعد هناك إمكانية للمناورة أو الاعتراض الجوي لجهة اختلال موازين القوة الكبير بين سلاح الجو الإسرائيلي المتطور والدفاعات التونسية المتواضعة.

 

كان ضباط سلاح الجو الإسرائيلي بقيادة عاموس لابيدوت يرافقهم عناصر «الموساد» بقيادة ناحوم أدموني يستعدون لفتح زجاجات الشامبانيا في تل أبيب وشُرب النخب احتفالاً بالمجزرة، حتى أُسقط في يدهم. فجأة، ظهر لهم أبو عمار متصدراً الشاشات واقفاً على رُكام بيته المدمر ومتوعداً إسرائيل بالرد القاسي. من دون مبالغة في التوصيف، وبدقة يعرفها كلّ من عاشوا في لبنان وتونس، كان أبو عمار كما طائر الفينيق في الأساطير الكنعانية، ينبعث حياً في كل مرة من تحت رماد خلّفته نيران العدو. كانت تلك آخر محاولة اغتيال جسديّ تعرّض لها بسلاحٍ تقليدي.

كانت الحكومة الإسرائيلية قد أعطت موافقتها النهائية على العملية في 2/9/1985. في مراجعة لكتاب شلومو ألوني Israeli F-15 Eagle Units in Combat [وحدات F-15 Eagle الإسرائيلية في القتال] [2]، ينقل محرر شؤون الطيران العسكري داريو ليون أن «الطاقم الجوي المعني بالمهمة أجرى جولة تدريبية معقدة في اليوم التالي من أجل ممارسة تدريبات التزوّد بالوقود أثناء الطيران. مع اكتمال الاستعدادات، توجهت أطقم العملية في صباح الأول من تشرين الأول/أكتوبر إلى طائراتهم لتنفيذ أطول مهمة قصف للجيش الإسرائيلي على الإطلاق»[3].

يكمل: «أقلعت الطائرات العشر من نوع F-15 في الثامنة بالتوقيت المحلي، وبعد ساعة من الطيران، تم الانتهاء بنجاح من مرحلة التزود بالوقود أثناء الرحلة (...) انقسم التشكيل إلى رحلتين من أربعة مسارات، مع فاصل زمني مدته أربع دقائق. بعد دقائق، أصاب عطل تقني الطائرة رقم 3 عندما انقطع نظام توصيل القنابل بالطائرة. ولأن لكل طائرة نقطة هدف خاصة بها داخل مجمع مقر منظمة التحرير، لم يكن هناك دعم متاح يمكنه قصف الهدف رقم 3. ناقش الطاقم بسرعة إعادة تخصيص الهدف، ولكن تقرر الاحتفاظ بالأشياء كما هي، لأن الأطقم الفردية كانت على دراية وثيقة بالأهداف الخاصة بكل منها».

بعد ذلك، و«عندما بدأت القاذفات الاقتراب من الساحل التونسي، شعر الطيارون بالفزع لرؤية كثير من السحب في السماء بالقرب من المنطقة المستهدفة. فقط عندما اقتربوا كثيراً من الساحل شعروا بالارتياح لرؤية المنطقة المستهدفة خالية من السحاب. ما إن دخلوا النطاق، أطلقت القاذفات الثلاث الأولى ذخائرها. بعد انتظار 90 ثانية، شوهدت ثلاث إصابات مباشرة. لقد حان الآن دور الموجة الثانية للهجوم، فأسقطت القاذفتان 5 و6 ذخائرهما الدقيقة. كانت القذائف التي أطلقتها الطائرة الأولى هي الوحيدة التي سجلت إصابة مباشرة، لكن القاذفة 6 أخطأت الهدف».

يتابع ليون: «نجح قائد الطائرة رقم 8 في ضرب هدفه وأطلق ست قنابل Mk 82 سعة 500 رطل محمولة على رف القاذف العمودي السفلي للطائرة. ومع ذلك، منع الدخان الكثيف فوق الهدف طيار الطائرة 7 من تحديد نقطة هدفه بصرياً، فدار وقائد التشكيل حول تونس مرة أخرى قبل العودة للقيام بعملية قصف ناجحة من اتجاه مختلف».

 

الدوافع المعلنة

في خريف 1985، كان قد مضى على الوجود الفلسطيني في تونس ثلاث سنوات، وكانت منظمة التحرير قد جاءتها من لبنان في أعقاب اجتياح إسرائيلي ترافق مع صمود وحصار وسعي للقضاء على المقاومة كما اغتيال عرفات ورفاقه. نجا عرفات والمنظمة بنفسيهما إلى تونس، لكن إسرائيل كانت قد قررت التخلص من الأخيرة أين ما حلّت في جهات الأرض الأربع، وكانت يدها طويلة.

لكنّ للمقاومة يداً أيضاً، فرغم وجود المنظمة في تونس، لم تتوقف العمليات العسكرية ضد العدو. فجر 25/9/1985، احتجزت مجموعة فدائية فلسطينية اليخت الإسرائيلي First وطاقمه من ثلاثة عناصر. كان راسياً في ميناء لارنكا القبرصي، وقالت عنه المنظمة إنه محطة متنقلة لجهاز الاستخبارات الإسرائيلية «الموساد»، ويرصد عبره عمليات نقل المقاتلين الفلسطينيين إلى لبنان عبر البحر. فأسرتهم وطالبت بإطلاق عدد من الأسرى في سجون الاحتلال.

ردّت إسرائيل بإرسال قوة خاصة في محاولة لاقتحام اليخت لكنها فشلت بعدما صفّى الفدائيون العناصر الإسرائيلية وسلّموا أنفسهم للسلطات القبرصية. التقطت الحكومة الإسرائيلية بقيادة شمعون بيريز الحدث، واتخذته ذريعةً لاستئناف حملات الجنون الجوّي التي بدأتها خلال حصار بيروت، فكانت المقاتلات الإسرائيلية متعطشة لدمهم، وكان لها ما أرادت.

إنما في بداية أيلول/سبتمبر 1985 هذا، كانت «جبهة التحرير الفلسطينية» بقيادة محمد عباس (أبو العباس) قد عقدت مؤتمرها في معسكر وداي الزرقاء التابع لمنظمة التحرير في شمال غربي تونس. ألقى عرفات خلال المؤتمر خطاباً كشف فيه أن «جهات صديقة نقلت إليه معلومات خطيرة مفادها أن مجلساً وزارياً إسرائيلياً مصغراً قد اجتمع وقرر شن غارة جوية على مقرّات المنظمة في تونس». وأضاف: «في طريقي إلى هنا، تحدثت مع المسؤولين التونسيين وأبلغتهم بالموضوع، فأعلنوا حالة الاستنفار في الجيش».

سبق حديثُ أبي عمار عن نية إسرائيل قصف تونس عمليةَ يخت لارنكا بخمسة وعشرين يوماً، أي كان القرار الإسرائيلي جاهزاً منذ وقت طويل ومنتظراً أي ذريعة كي يدخل حيز التنفيذ. ويؤكد طاهر الشيخ في شهادته هذه المعلومات: «أذكر جيداً صيف 1985: جاءت إشارات من أجهزة أمن صديقة محذرةً من إمكانية وقوع عمل عسكري ضد المنظمة في تونس. كما تلقت أجهزة أمن الثورة معلومات من داخل فلسطين المحتلة بأن إسرائيل تُحضّر لشيء ما في تونس من دون تحديد ماهيته».

في الداخل الإسرائيلي، كانت الدولة العبرية تعيش أزمةً، واقتصادها على وشك الانهيار في أعقاب التضخم المتفشي. لم تسفر حرب حزيران/يونيو 1982 عن أي اختراق دبلوماسي مع جيران إسرائيل، ولم تضع حداً للتهديد الذي تشكله المقاومة الفلسطينية واللبنانية، ولذلك أقرّت الحكومة في 14/1/1985 انسحاباً محدوداً من لبنان، جرى الانتهاء منه بحلول حزيران/يونيو. كما اكتشف الإسرائيليون، في أعقاب الهجوم الفلسطيني في قبرص، أن تحطيم البنية التحتية لمنظمة التحرير في لبنان لم يكن كافياً لمنع التهديدات. لذلك اعتبرت الحكومة الإسرائيلية أن الضربة الجوية الانتقامية الضخمة هي الطريقة الوحيدة لردع المنظمة، واختير مقر المنظمة الجديد في تونس على بعد 1280 ميلاً من إسرائيل.

 

الضيف الذي أنقذ أبا عمار

وصل أبو عمار إلى مطار تونس–قرطاج في العاصمة وافداً من المغرب في ليلة المجزرة. كان في استقباله وزير تونسي وعدد من كوادر منظمة التحرير كالعادة. على الأرض، رصد عناصر «الموساد» موكبه يتحرك نحو مقر قيادة المنظمة في حمّام الشطّ. إلى جانبه في سيارته، جلس حكم بلعاوي، وهو السفير الفلسطيني في تونس، وأخبره بأن ضيفاً عربياً مهماً ينتظره في مقر إقامة السفير، في ضاحية مرسى النسيم، شمالي العاصمة تونس. فوراً، أمر أبو عمار سائقه بالخروج عن سرب السيارات الطويل، والانزواء يميناً نحو مرسى النسيم، فيما واصل الموكب طريقه العادي نحو حمّام الشطّ، في تغيير مفاجئ لم ينتبه إليه عملاء «الموساد». في مقر إقامة حكم بلعاوي، اجتمع عرفات مع «ضيفه العربي» وتواصل اللقاء حتى ساعة متأخرة من الليل، فقرر في أعقابه المبيت هناك، وفق رواية.

لكن في مذكراته «نصيبي من الحقيقة»، يقدم رئيس الوزراء التونسي حينذاك، محمد مزالي، رواية أخرى حول هوية هذا الضيف: «في 30 سبتمبر (أيلول) حوالي الثامنة مساءً تلقيت مكالمة هاتفية من حكم بلعاوي، ممثل منظمة التحرير في تونس، يعلمني بأن عرفات عاد من المغرب منذ ساعات قليلة ويرغب في مقابلتي في أقرب وقت ممكن. بعد ساعة حلّ في بيتي قادة فلسطينيون منهم أبو جهاد وأبو إياد وفاروق القدومي ومحمود عباس أبو مازن وحكم بلعاوي. نقل إلي رسالة شفوية من الملك الحسن الثاني يبلغني فيها أن جنوداً ليبيين يتهيؤون لدخول التراب التونسي بزيّ الجيش التونسي، فاتخذت فوراً الإجراءات التي يفرضها الوضع وأخطرت وزيري الدفاع والداخلية ليكون فوج الصحراء على أهبة الاستعداد، وكذلك الحرس الوطني والشرطة»[4].

ويروي الضابط في جهاز حماية الشخصيات والمنشئات التونسي ورئيس فرقة المرافقات والحراسات للقيادة الفلسطينية نوري بوشعالة[5]، أنه بعد الخروج من منزل مزالي، اتجه أبو عمار نحو بيت السفير الفلسطيني، حيث أشرف هناك على بعض الاجتماعات إلى ساعة متأخرة من الليل. ورغم اقتراح بلعاوي المبيت عنده، فإن عرفات أصر على المبيت في حمّام الشطّ. غير أنه قرر فجأةً، وهو في الطريق، الاتجاه صوب مكتب أبي جهاد (خليل الوزير) بضاحية المرسى ليقضي بقية ليلته.

رونالد ريغان: «الغارة كانت دفاعاً مشروعاً عن النفس، وإني على ثقة دائمة بأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية» (Getty)

قبل ذلك بأيام، كانت القيادة الفلسطينية قد أبرقت إلى عدد من قادة أركان الثورة وكوادرها العسكرية في الجزائر واليمن والسودان كي يلتحقوا بالعاصمة تونس في الأول من تشرين الأول/أكتوبر لمناسبة انعقاد «مجلس الأمن القومي الأعلى». لم يكن موعد الاجتماع معلوماً إلا لحلقة ضيقة من القيادة العليا، لكنّ خرقاً أمنياً كبيراً تعرّضت له المنظمة في تونس يومذاك. «كانت إسرائيل تعتمد على شبكة عملاء مزروعة في تونس، والاختراق الأمني في مستوى عالٍ»، وفق طاهر الشيخ.

«لاحقاً اكتشفنا أن شخصاً مهماً كان يعمل في السفارة الفلسطينية بتونس ينقل معلومات المنظمة كلها إلى إسرائيل. تأخرنا حتى 1993 لنكتشف ذلك وخسرنا الكثير. فقد كان عدنان ياسين، المتعاون مع الموساد، قد سار بعيداً في طريق العمالة»، يقول الشيخ مرجحاً أن ياسين كان «متعاوناً مع الموساد من أيام بيروت، أي قبل القدوم إلى تونس في 1982».

في ذلك اليوم، وفيما كانت أجهزة الرصد الإسرائيلية تعتقد أن أبا عمار نائم في بيته بالضاحية الجنوبية، تجمّع القادة العسكريون عند التاسعة والنصف صباحاً في البهو الخارجي لمقرّ القيادة في حمّام الشطّ. استيقظ عرفات متأخراً، وطلب تأخير الاجتماع نصف ساعة لبعد المسافة بين مرسى النسيم (مكتب أبو جهاد) وحمّام الشطّ، ففضلت القيادات المنتظرة التفرق وإعادة التجمع لاحقاً. كان أبو عمار قد وصل منطقة بن عروس التي تقع على بعد ربع ساعة من حمّام الشطّ، وهناك سمع أصوات القصف العنيف. توقف الموكب قليلاً، ثم واصل سيره، فكانت الطائرات الإسرائيلية قد غادرت مخلّفةً وراءها الركام والدماء.

انتشر الخبر سريعاً. لم تشكل الغارة حدثاً صادماً للفلسطينيين الذين اعتادوا التعامل مع هذا العدو، بقدر ما أصابت التونسيين بالصدمة والذهول. يقول طاهر الشيخ واصفاً هذه الحالة: «كنا مدركين منذ وصولنا إلى تونس أن إسرائيل لن ترتاح إلا بالقضاء على المنظمة كما فعلت في الأردن ولبنان. كذلك كنا قد خبرنا هذا العدو في بيروت، وتعودنا الإغارة الفجائية والإنزالات والعمليات الخاصة التي تستهدف قيادات الثورة. لكن المفاجأة الكبرى حصلت لدى المواطن التونسي الذي عاش للمرة الأولى احتكاكاً عسكرياً مع إسرائيل، وتجلى ذلك في الرد القوي شعبياً بالمسيرات والتظاهرات الداعمة لفلسطين، ورسمياً بالعمل الدبلوماسي في مجلس الأمن».

اعتقدت الأجهزة الأمنية بدايةً أن ليبيا هي من تقف وراء الهجوم[6]. كان النقيب نوري بوشعالة متوجهاً في صباح ذلك اليوم إلى مقر عمله في المربع الأمني الفلسطيني في حمّام الشطّ، وقبل أن يصل ضاحية الزهراء ببضعة أمتار سمع من جهاز اللاسلكي في سيارته نداءً صادراً من عين المكان عن المسؤول الأمني التابع لجهاز حماية الشخصيات الضابط سالم بركات، يعلن فيه أن طائرات ليبية تقصف المنطقة. كانت العلاقات بين البلدين في ذلك الوقت في ذروة الأزمة وسط تهديدات من معمر القذافي باجتياح تونس، بعد طرده آلاف العمال التونسيين في ليبيا صيف 1985.

يقول بوشعالة: «رغم وقع الخبر المفاجئ واصلت السير متعجلاً، وما إن وصلت حمّام الشطّ هالني ما شاهدته للوهلة الأولى من دمار وخراب وجثث وأشلاء وجرحى فوق الأنقاض، ومن ظاهر قوة التدمير الذي لحق بالأماكن المستهدفة بقنابل فراغية ذات قوة تدميرية عالية (...) أحدثت إحدى القنابل التي أخطأت هدفها هوةً يقدر عمقها بأكثر من ثلاثة أمتار وقطرها نحو خمسة، وقد شاهدت بقاعها نصف هيكل سيارة للمنظمة كانت رابضة بالمكان وعلق نصفها الآخر بشجرة ضخمة محاذية».

يضيف: «تتابع قدوم الأطر الأمنية والسياسية، بينهم رئيس الوزراء محمد مزالي ووسيلة بورقيبة وأبو إياد. أما زين العابدين بن علي، مدير الأمن الوطني، فحلّ بالمكان مع قدوم أبي العباس، أمين عام جبهة التحرير الفلسطينية، وللتاريخ أشير إلى ما لاحظه كل من تابع وصول بن علي إلى مسرح الحدث، حين أطل من سيارته بابتسامة وهو يقول لأحد الحراس الفلسطينيين بلهجة لا تخلو من مزح ثقيل: "ألم يكن بإمكانك إسقاط إحدى الطائرات بسلاحك هذا" مشيراً إلى بندقية كلاشينكوف كانت بيد الحارس»[7].

وزير خارجية تونس الباجي قائد السبسي في جلسة مجلس الأمن في4/10/1985  (Getty)

 

أصابع جوناثان بولارد

بعد أيام قليلة من الغارة الصهيونية، اكتشف المسؤولون في مركز الإنذار ضد الإرهاب التابع للبحرية الأميركية أكواماً من الوثائق السرية في غرفة مكتب المحلل في خدمة التحقيقات البحرية جوناثان بولارد، التي لا علاقة لها بعمله. سرعان ما تعقبه مكتب التحقيقات الفيدرالي واستجوبه في تشرين الثاني/نوفمبر 1985. بعد بضعة أيام، حاول بولارد الفرار مع زوجته، وشق طريقه إلى السفارة الإسرائيلية في واشنطن طالباً اللجوء السياسي لكن الإسرائيليين رفضوا منحه اللجوء ليجد نفسه معتقلاً لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي بتهمة «نقل معلومات سرية إلى دولة حليفة، دون نية الإضرار بالولايات المتحدة»، ليقرّ بأنه مذنب بتهمة التجسس لإسرائيل في حزيران/يونيو 1986، ويدافع عن نفسه بتأكيد أنه أراد ببساطة المساعدة في حمايتها.

كانت المهمة الأساسية التي طلبها الطرف الإسرائيلي من بولارد هي المعلومات حول المشاريع النووية والعسكرية والتقنية التي تخص الدول العربية وباكستان والاتحاد السوفياتي، وليس الولايات المتحدة وفقاً لتقدير وكالة المخابرات المركزية لعام 1987 الذي رفعت عنه السرية في عام 2012 بشأن قضية بولارد، ثم نشره أرشيف الأمن القومي في جامعة جورج واشنطن في العام نفسه.

تحت العنوان الفرعي What the Israelis Did Not Ask For [ما لم يطلبه الإسرائيليون]، يشير التقييم (ص. 43) إلى أنهم «لم يبدوا أبداً اهتماماً بالأنشطة أو الخطط أو القدرات أو المعدات العسكرية الأميركية». ويلفت أيضاً إلى أن بولارد تطوع لتقديم ثلاثة ملخصات استخباراتية يومية لم يطلبها مشغلوه لكنها أثبتت فائدتها لهم، وفي النهاية، سلم ما يقرب 1500 رسالة من ملخص الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENAS)، وملخص الاستخبارات الساحلية للبحر الأبيض المتوسط ​​(MELOS)، وملخص استخبارات المحيط الهندي الساحلي.

قدمت الوثائق التي أرسلها الجاسوس الإسرائيلي معلومات دقيقة جداً عن مقر منظمة التحرير في تونس، وعن قدرات محددة لأنظمة الدفاع الجوي التونسية والليبية، وقدرات الإنتاج الحربي الكيميائي العراقي والسوري (بما في ذلك صور الأقمار الاصطناعية التفصيلية)، وكذلك شحنات الأسلحة السوفياتية إلى سوريا ودول عربية أخرى، وتقارير حول القوات البحرية ومنشآت الموانئ وخطوط الاتصال لمختلف دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا[8].

 

صراع في مجلس الأمن

في باريس، وصف السفير التونسي لديها، الهادي مبروك، الغارة بـ«إرهاب الدولة»، وقال إن هناك العديد من الضحايا بين المدنيين وقوات الأمن التونسية. ردّ السفير الإسرائيلي، عوفاديا صوفر، بأن حكومته «ليس لديها شيء ضد تونس»، لكنه أضاف: «مقر منظمة التحرير محمي من تونس، ولذلك هي تتحمل المسؤولية عن نشاط المنظمة».  أما رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، شيمون بيريز، فقال في خطاب ألقاه في تل أبيب، في اليوم التالي للعملية إنّ إسرائيل لن تنسى «هجوم لارنكا، ولن تسامح»[9].

خلال الساعات التالية للهجوم، بدأت ردود الفعل السياسية عربياً وعالمياً تصدر تباعاً. أصدر الرئيس الأميركي رونالد ريغان بياناً قال فيه: «الغارة كانت دفاعاً مشروعاً عن النفس، وإني على ثقة دائمة بأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية». فاستدعى الرئيس التونسي، الحبيب بورقيبة، السفير الأميركي طالباً منه نقل احتجاج السلطات على الخرق الإسرائيلي، ومتهماً الولايات المتحدة بعلمها المُسبق بالتخطيط الإسرائيلي.

كان بورقيبة غاضباً جداً، وحتى إنه اتصل بوزير خارجيته يومذاك، الباجي قائد السبسي، في نيويورك، الذي كان يحضر اجتماعات جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأعلمه بنيته قطع العلاقات مع واشنطن لو استخدمت حق الفيتو في مجلس الأمن في مواجهة قرار يدين إسرائيل. ردّت واشنطن على ذلك بتسليم السفير التونسي، نجيب البوزيري، مذكرةً أشارت فيها إلى عملية يخت ميناء لارنكا، التي اعتبرتها «هجوماً إرهابياً فلسطينياً واجهته إسرائيل بردّ جوّي على حمّام الشطّ»، لكن السفير التونسي رفض تسلّمها.

يروي قائد السبسي، في مذكراته، حيثيات الصراع الدبلوماسي في أروقة مجلس الأمن في أعقاب الهجوم: «كان الشيء الأساسي بالنسبة إلينا هو الحصول على قرار يدين صراحة الاعتداء، وكان هامش المناورة ضيقاً للغاية بين هذا الهدف والحدّ الذي يسمح به الوفد الأميركي. كانت صياغة مشروع القرار محل نقاشات بين ست دول أعضاء في المجلس من دول عدم الانحياز، مع مشاركة تونسية متواصلة بالإضافة إلى ممثل منظمة التحرير زهدي التارزي. الصياغة الأولى لمشروع القرار جهزت في صباح الثاني من تشرين الأول/أكتوبر منذ انطلاق أشغال المجلس. وكانت الصيغة المعتمدة تدين إسرائيل باعتبارها معتديةً وبسبب ممارستها إرهاب الدولة»[10].

حاولت واشنطن الدخول في محادثات فردية مع الجانب التونسي حول صياغة مشروع القرار عن طريق مندوبها في مجلس الأمن آنذاك، فيرنون والترز، الذي توعد برفع الفيتو في وجه المشروع بصيغته الحالية المتضمنة لكلمة «إرهاب الدولة»، ليجري تأجيل جلسة التصويت إلى الرابع من الشهر. عن هذا التفصيل، يقول قائد السبسي في مذكراته التي نُشرت تحت عنوان «الأهم والمهم»: «أعدتُ التفكير في الاعتراضات التي أثارها السفير والترز. ورأيت أنني مطالب بتحقيق نتائج لا بالتشبث بمجرد مصطلحات. وإذا كان الفيتو الأميركي مرهوناً بمجرّد تحوير شكلي، فإن إدانة إسرائيل تمكن إعادة صياغتها».

ويضيف: «أخذت على عاتقي مسؤولية تعديل نصّ مشروع القرار في نقطتين: فبدلاً من عبارة "ندين إسرائيل" وضعت "ندين العمل العدواني المسلح الذي ارتكبته إسرائيل"، وحذفت من جهة أخرى عبارة "إرهاب الدولة". لم يكن السيد البوزيري (السفير التونسي) مقتنعاً، فهو يعتقد أن هذه التعديلات كانت تنازلاً لا جدوى من ورائه». أيضاً لم تعجب التعديلات الجديدة التي حرّرها قائد السبسي ممثل منظمة التحرير في الأمم المتحدة، الذي أبدى تحفظات كثيرةً حولها، لكن السبسي اتصل، وفقاً لروايته، بفاروق القدومي الذي كان في نيويورك آنذاك، وأخذ منه تعليمات لممثله بالالتزام الكامل بقرارات الوفد التونسي.

انطلقت جلسة التصويت صباح الرابع من تشرين الأول/أكتوبر، وبعد المداولات التحق السفير الأميركي بالقاعة وكان قد أجرى استشارة هاتفية من ريغان حول نيات التصويت، ونجح في إقناع رئيسه بالامتناع عن التصويت والتخلي عن استعمال حق النقض بعد التعديلات التونسية. يقول السبسي: «مرّ القرار 573 (1985) بـ 14 صوتاً مقابل صفر، وكانت المفاجأة السيئة من نصيب بنيامين نتنياهو، رئيس الوفد الإسرائيلي، إذ إن تعديل القرار الأميركي في مثل هذا الوقت القصير لم يترك له فرصة لشنّ هجوم مضاد. ولما علم في آخر لحظة بتحول موقف وفد الولايات المتحدة، هاجم والترز شخصياً بإمساكه من سترته وهو جالس على مقعد رئاسة مجلس الأمن. لقد استشاط غضباً لما أدرك أنه لم يعد لديه متسع من الوقت للتأثير في واشنطن كي تعود إلى الفيتو. ولو كان القرار الأميركي قد عُدل قبل يوم واحد فقط، لكانت تدخلات فورية قوية بُذلت لدى ريغان، وربما أدت إلى العودة لاستعمال حق النقض».

 

تنشر هذه الحلقة الثانية من سلسلة ثالث المنافي، الوجود الفلسطيني في تونس (1974-1994) منقحة ومزيدة بمعلومات جديدة عن النسخة المنشورة في عدد تشرين الأول/أكتوبر 2015 لملحق فلسطين الصادر عن صحيفة السفير اللبنانية، تحت عنوان: «ثلاثون عاماً على حمّام الشطّ».


[1] مقابلة خاصة مع طاهر الشيخ – أيلول/سبتمبر 2015.

[2] Shlomo Aloni, Israeli F-15 Eagle Units in Combat, Bloomsbury Publishing, 2013.

[3] Dario Leone, A detailed description of Operation Wooden Leg, the Israeli F-15 Baz long-range strike that destroyed PLO’s HQ complex in Tunis, The Aviation Geek Club 30/09/2020.

[4] محمد مزالي، نصيبي من الحقيقة: وزير أول في رئاسة بورقيبة يشهد، دار الشروق مصر، 2007، ص. 573.

[5] نوري بوشعالة، قبس من الذاكرة: مذكرات ضابط أمن، مركز الأبحاث - منظمة التحرير الفلسطينية، 2015، ص: 127.

[6] مزالي، نصيبي من الحقيقة، ص. 573.

[7] نوري بوشعالة، قبس من الذاكرة: مذكرات ضابط أمن، ص. 127 – 129.

[8] Jonathan Pollard: Revisiting a Still Sensitive Case, Edited by Jeffrey T. Richelson, Published: Dec 14, 2012.

[9] .ISRAELI PLANES ATTACK P.L.O. IN TUNIS - The New York Times - Oct. 2, 1985

[10] الباجي قائد السبسي، بورقيبة الأهم والمهم، دار الجنوب، تونس 2011.

أحمد نظيف

كاتب صحافي تونسي، وباحث مهتم بالعلوم الاجتماعية، صدر له: بنادق سائحة: تونسيون في شبكات الجهاد العالمي (2016)؛ المجموعة الأمنية: الجهاز الخاص للحركة الإسلامية في تونس (2017)؛ عشر ساعات هزّت تونس.. حريق السفارة الأمريكية ونتائجه (2019)؛ التاريخ السرّي للإخوان المسلمين في تونس (بالإنجليزية 2020).

×