29 آذار 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

عن رئيس على الأريكة

محمود مروّة

19 نيسان 2023

العدد الثالث

«هي قصة كتاب، أو بالأحرى قصة إعادة اكتشافه»، يقول أستاذ التاريخ المعاصر برونو كابانس في مستهل مقالته: «ويلسون، رئيس على الأريكة» التي نُشِرت في عدد آذار/مارس 2023 لمجلة L’Histoire الفرنسية، ودارت حول الكتاب الذي أنجزه بداية ثلاثينيات القرن الماضي سيغموند فرويد، ومعه الدبلوماسي الأميركي السابق ويليام س. بوليت، عن الرئيس الثامن والعشرين للولايات المتحدة، وودرو ويلسون.

يروي كابانس أنه في صيف 2014 عثر أستاذ التاريخ في Yale Law School، والباحث الأول في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي CNRS، باتريك فايل، مصادفة في مكتبة لبيع الكتب المستعملة في نيويورك على نسخة من سيرة ويلسون تلك، Thomas Woodrow Wilson; A Psychological Study[توماس وودرو ويلسون؛ دراسة نفسية] (1967).

لكنْ فوجئ فايل بعد اطلاعه على المخطوط الأصلي للكتاب والرسائل التي تبادلاها بوليت وفرويد، في أرشيف ممثل الرئيس الأميركي الشخصي في مؤتمر باريس للسلام عام 1919، باكتشافه إدراج 300 تعديل على المخطوط «بلا موافقة فرويد طبعاً» الذي كان قد رحل عام 1939. فقد نُشِر الكتاب بعد نحو ثلاثة عقود على الانتهاء منه، وقبل وفاة بوليت بعام واحد، فيما قوبل بنقد لاذع خاصة أن «الفرويديين شكُّوا في مساهمة أبي التحليل النفسي شخصياً في المشروع، إذ لم يعثروا لا على نهجه ولا على أناقة أسلوبه».

كان بوليت الذي سيصير في عام 1933 أول سفير أميركي في الاتحاد السوفياتي، عضواً عام 1919 في الوفد الذي تفاوض حول معاهدة فرساي لإنهاء الحرب العالمية الأولى لكنه استقال بعدما اطلع على مشروع المعاهدة، وعاد إلى الولايات المتحدة «خائباً بشدة، مثل كثيرين غيره، بسبب إخلال الحلم الويلسوني بوعوده». كان «الحلم» يقوم في صلبه على إعادة تشكيل النظام العالمي بعد الحرب بصورة النموذج الديمقراطي والليبرالي الأميركي، قبل أن يحيد ويلسون عنه في المفاوضات، ثم يطيح بتصديق مجلس الشيوخ على المعاهدة لرفضه القاطع أي تعديل أو تحفظ.

عمل الرجلان على فهم الدوافع النفسية لأفعال الرئيس الأميركي وسط استحواذ «إخفاق الويلسونية» على بوليت واهتمام فرويد بسيكولوجيا ويلسون منذ وقت طويل. كما كان الثاني يحمِّل ويلسون المسؤولية عن مآسي أوروبا الوسطى (Mitteleuropa) بسبب خضوعه لمطالب الحلفاء الأوروبيين وإهانة ألمانيا، ما ساهم في صعود النازية.

كانت دوافع الرئيس الأميركي العميقة تشكلها، وفق فرويد (كما ينقل كابانس)، الشخصية الطاغية لوالد مشيخي نسبة إلى الكنيسة الإنجيلية المشيخية التي ينتمي إليها، وهلوسات مسيحانية تمنحه الشعور بأنّه وكيل الله. ويقول فرويد: «جهله بالعالم أتاح له الإفادة من السياسة الخارجية أكثر من الداخلية ليطلق العنان لرغباته اللاواعية».

إذا كان الكتاب لا يزال يثير الاهتمام، فهو لأنه يلفت الانتباه إلى «هشاشة بلد تتهدده انحرافات مسؤوليه، كما تؤكد حالة دونالد ترامب»، في رأي كابانس. فيما يذهب فايل أبعد من ذلك قائلاً في كتابه[1]: «من السهل فك رموز الديكتاتوريين. أما الرؤساء الذين انتخِبوا ديمقراطياً وبلغوا السلطة بالوعود والخطب المغرية، فهم أقل قابلية للتوقُّع، لكنهم قد يكونون على القدر نفسه من اللاتوازن ويمكنهم أن يلعبوا دوراً مدمِّراً بحق في تاريخنا».

قد يحاجج البعض فوراً بأن ثمة أريكة ناقصة في قصر يطل ببهاء على جنوبي الأبيض المتوسط (تتجسد في ساكنه إرادة الشعب بأكمله، فيما ينمو الخونة الداخليون من حولهم). لكن بانتظارها، إنْ وجِدت، يدعو فايل إلى اليقظة الدائمة لضمانات الديمقراطية: تقوية البرلمان كسلطة مضادة، وتحديد مدد الولايات، ونهاية الاعتقاد الساذج برجل العناية الإلهية.

من أجل ذلك، ولمحاولة الإسهام في مناهضة رجال يحلمون (بيننا) بمثل هذه «العناية»، أو سبق أن ابتذلوا اللبوس فعلاً، يخصص العدد الثالث لمجلة «المراسل» زاوية «أهل الهوى» للروائي الإيطالي أنطونيو سكوراتي الذي ألَّف في السنوات الأخيرة سلسلة روايات توثيقية حول موسوليني، معلِّم «العناية» الأول. فكان هدفه «تجديد الأسباب الموجِبة لمناهضة الفاشية» في وقت تتقوَّض الأنظمة الأوروبية الناشئة بعد الحرب العالمية الثانية، وتغدو، وفق الكاتب أنطونيو ديل كاستيلو، «سلطة الإعلام السياسي بيد الحركات الشعبوية الجديدة التي تعكس مزاج فئة واسعة تكافح فردياً للصمود أمام انحدار الرفاهية، بعيداً عن أي مشروع جماعي للتحول الإيجابي للمجتمع».

تغيّر الأمزجة وصناعة الأعداء الداخليين، مثل ما فعلت الفاشية، هما ما يعالجهما أيضاً ريبورتاج العدد عن مدينة كاليه شمالي فرنسا، حيث يظهِر الكاتب أحمد نظيف كيف «تبني الأحزاب اليمينية المتطرفة الأوروبية، ذات النزعة الشعبوية القومية، برنامجاً سياسياً متماسكاً في الذريعة المواجهة للخصم الليبرالي أو اليساري، لكن بأفق يبدو عديماً إلى أبعد الحدود»، ربما كالخلاصة التي سيؤول إليها تشخيص تلك الأريكة الناقصة.

 


[1] صدرت أبحاث باتريك فايل في كتاب حمل عنوان ?Le président est-il devenu fou [هل غدا الرئيس مجنوناً؟] (2022)، فيما ستصدر النسخة الإنكليزية في أيار/مايو المقبل عن Harvard University Press بعنوان The Madman in the White House [الرجل المجنون في البيت الأبيض].

محمود مروّة

محرِّر موقع المراسل. عمل في الصحافة المكتوبة في جريدتي السفير والأخبار اللبنانيتين وفي وكالة الصحافة الفرنسية.

×