26 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

أنطونيو سكوراتي

المراسل ومتعاونون

19 نيسان 2023

العدد الثالث
يتخذ سكوراتي موقف أولئك الذين يشعرون بأنهم ملزمون سرد الحيوات والأحداث التاريخية الكبيرة (المراسل)

أعِدَّ النص بالتعاون مع أستاذ الأدب الإيطالي الحديث
في «جامعة نابولي فيدريكو الثاني» أنطونيو ديل كاستيلّو

 

في أيلول/سبتمبر 2022، وصل إلى المكتبات الإيطالية Gli ultimi giorni dell’Europa [أيام أوروبا الأخيرة]، الجزء الثالث من سلسلة الروايات التوثيقية M التي يروي فيها أنطونيو سكوراتي تاريخ الفاشية الإيطالية عبر أقوال وأفعال بينيتو موسوليني وحلفائه وقادته ومساعديهم، وكذلك عبر خصومه ومعارضيه. صدرت الرواية بعد عامين على الجزء الثاني L’uomo della provvidenza [رجل العناية الإلهية]، وأربعة أعوام على الجزء الأول Il figlio del secolo [فتى القرن] الذي بيعت منه أكثر من 600 ألف نسخة في إيطاليا فقط، فيما حاز الكاتب عليه جائزة Strega الأدبية المرموقة. وحالياً يُصوَّر مسلسل تلفزيوني يستند إلى هذه الثلاثية في استوديوات Cinecittà في روما، التي أعيد فيها بعظَمة تذكِّر بالسنوات الذهبية للسينما الإيطالية بناءُ شوارع ميلانو على صورة ما كانت عليه في عشرينيات القرن الماضي، حين أسس موسوليني الذي يؤدي دوره لوكا مارينيللي، حركة i Fasci di combattimento [الروابط المقاتلة]، ونشر نشاطاتها في أعمدة صحيفته اليومية Il popolo d’Italia [شعب إيطاليا] التي صدر عددها الأول في تشرين الثاني/نوفمبر 1914.

ولِد أنطونيو سكوراتي في نابولي عام 1969 لأم من هذه المدينة وأب من ميلانو، ونشأ في البندقية. بعد حيازة إجازة في الفلسفة من جامعة ميلانو، تابع تحصيله العلمي في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريس، ثم حاز درجة الدكتوراه من جامعة برغامو بإيطاليا، وقد دارت أطروحته حول نظرية النص. اهتم، منذ بداية نشاطه باحثاً قبل نحو عقدين، بدراسة سرديات الحرب والعنف في وسائل الإعلام الرقمية، وصار يعلِّمها في جامعة IULM في ميلانو، بعدما أدار بضع سنوات في برغامو المركزَ البحثي حول لغات الحرب والعنف.

تناول هذه المسائل في نتاجه غير الروائي، ومن ذلك Guerra. Narrazioni e culture nella tradizione occidentale [الحرب، روايات وثقافات في التقاليد الغربية] 2003، وLa letteratura dell’inesperienza, [أدب اللاتجربة] 2006، وGli anni che non stiamo vivendo  [السنوات التي لا نعيشها] 2010. ورغم انشغاله بالكتابة الأدبية منذ البدايات أيضاً، بدءاً بـ Il rumore sordo della battaglia [هدير المعركة] 2002، وIl sopravvissuto [الناجي] 2005، فإن الثلاثية M تبقى الأهم في سيرته. فهي تعكس بوضوح شخصية الروائي المشتبكة مع محيط محلي وأوروبي تزدهر فيه شيئاً فشيئاً أعتى حركات اليمين المتطرف وسط تقوُّض الأنظمة السياسية الديمقراطية التي قامت على أنقاض الحرب العالمية الثانية.

يتضح دافعه إلى هذا المشروع الروائي الضخم في مقابلة أجراها مع صحيفة Il Manifesto في نيسان/أبريل 2019، إذ قال إنه بتقادم السردية التاريخية التي سادت عقوداً بعد الحرب وكانت تحمل في جوهرها تصوراً أيديولوجياً مسبقاً يناهض الفاشية لكنه يعرقل بشدة فهمها، غدت هناك ضرورة لـ«رواية عن موسوليني... لتجديد الأسباب الموجِبة لمناهضة الفاشية تحديداً»، ولسردٍ من داخل ذلك العالم لا يخشى استرجاع وجهة نظر الفاشيين، لا ليتماهى ويتعاطف معهم من يقرأ بل لاستعادة الشعور الكامل بمسؤوليتهم التاريخية.

 

لن يكون بطلاً تراجيدياً

كل من نشأ في إيطاليا بين سنوات السبعينيات والثمانينيات، مثل سكوراتي، نشأ في مناخ عام كانت لا تزال تحركه بشدة الأحزاب السياسية (الشيوعي، الاشتراكي، الديموقراطية المسيحية) التي أسست الجمهورية، والتي قادت في حال الحزبين الأولين نضال التحرير في الحرب العالمية الثانية. بالنسبة إلى هذه الأحزاب، ومن ثم إلى وسائل الإعلام الحكومية والتعليم العمومي، شكلت مناهضة الفاشية، القائمة على أسطورة المقاومة، شرطاً أيديولوجياً أساسياً مشتركاً لا تحفُّظ فيه.

غير أن المناخ السياسي والثقافي في البلاد تغير منذ قرابة ثلاثين عاماً. فورثة الأحزاب التاريخية التي قادت المقاومة وصاغت الدستور أخذوا يفقدون سيطرتهم على المجتمع، فيما تغدو سلطة الإعلام السياسي بيد الحركات الشعبوية الجديدة التي تعكس مزاج فئة واسعة تكافح فردياً للصمود أمام انحدار الرفاهية، بعيداً عن أي مشروع جماعي للتحول الإيجابي للمجتمع. لإيطاليا هذه، البلد الذي لم يُجرِ تصفية حساب حقيقية مع الفاشية ولم يتحمل المسؤولية عنها أبداً، يخصص سكوراتي ثلاثيته المصنفة ضمن «الروايات التوثيقية»، والتي بدأ بحثه التوثيقي والتاريخي من أجلها عام 2015.

على غرار الأفلام الوثائقية المخصصة للتاريخ، التي لا تتضمن ممثلين، تكتفي M بـ «المواد الأرشيفية» من آثار ووثائق مختلفة جداً في التصنيف. وحمل الغلاف الخلفي من الجزء الأول إعلان «عدم إخلاء المسؤولية»، هو أيضاً بمنزلة بيان لمشروع أدبي: «الوقائع والشخصيات في هذه الرواية التوثيقية ليست من نسج خيال المؤلف. على العكس، كل حدث أو شخصية أو حوار أو خطاب يرد هنا هو موثَّق تاريخياً و/أو مشهود عليه من أكثر من مصدر. مع ذلك، يبقى صحيحاً أن التاريخ هو ابتكار يوفِّر له الواقع مواده. غير أنه ليس اعتباطياً».

لم يتبنَّ أياً من الأدوات المعتادة في الرواية التاريخية. لم يخترع أي شخصية، حتى لو كانت بسيطة (سكرتير شخصي، أو صديق). كما يندر استخدامه أسلوب الخطاب غير المباشر الحر الذي يتيح للقارئ سبر أغوار الشخصيات. ولم تُقدَّم أي حوارات خيالية، مع أنها غالباً ما تكون العمود الفقري للروايات التاريخية. فالحوارات المذكورة هي تلك التي تم توثيقها عبر التنصت الهاتفي، أو جلسات نقاش البرلمان، أو تلك «التي شهد بها أكثر من مصدر رسمي».

غلاف الجزء الأول للسلسلة


أراد سكوراتي ألا يجعل ذلك من موسوليني «بطلاً تراجيدياً». فالكتابة الروائية التي تستتبع تبني وجهة نظر مستلبة وتورط القارئ عاطفياً عليها أن تتجنب خطر إعادة التأهيل «التعاطفية» مع الفاشية، بل عليها تدعيم إدانتها عبر الوثائق وشهادات الماضي؛ بالتالي، ليس على أساس التصور الأيديولوجي المسبق فحسب، وإنما في ضوء مغامرة روائية توصل القارئ عبر الوقائع إلى اكتشاف أو توطيد قناعاته المدنية والجمهورية والديموقراطية، ومن ثم الدستورية، المناهضة للفاشية. «أردت أن يعزِّز القارئ نفوره من الفاشية، إنما في ختام الكتاب، لا في بدايته»، يقول.

غير أن الرغبة الكامنة في «عمل شيء لإعادة بناء مناهضة الفاشية وأسسِها الديمقراطية على وطائد جديدة»، كما قال في حديث إلى الصحافية الإيطالية آنا مومغليانو في نيسان/أبريل الماضي، قابلتها انتقادات ذات طابع تاريخي من شخصيات أكاديمية مناهضة للفاشية، من بينها أستاذة التاريخ الإيطالية في جامعة لوزان ستيفانا برزيوسو التي أعدت مقالة تذهب إلى اختزال M إلى مجرد «إدانة أخلاقية للفاشية»، إلى جانب إعرابها عن الخشية من أن السلسلة قد تنتهي إلى عكس المراد منها، أي إثارة العاطفة تجاه موسوليني.

سلطت هذه الانتقادات الضوء على «الفرق بين دراسة علمية حول الفاشية والافتقار إلى الصرامة في الروايات»، وفق أستاذة التاريخ المعاصر في جامعة تيرامو الإيطالية مادالينا كارلي. وقد أجاب الروائي الإيطالي، خاصة في محاججته أستاذ التاريخ المعاصر إرنتسو غالي دي لا لوجيا في مقالتين لهما صدرتا في صحيفة Corriere della Sera، بأن الزمن الحالي يحتاج إلى «تضافر بين فن الأدب الروائي والصرامة العلمية».

كذلك، سيقول في مقابلة صحافية: «أؤمن بالرواية كأداة معرفة كبرى، والتي بعيداً عن منازعة أشكال أخرى للمعرفة، تاريخية أو علمية خصوصاً، تتضافر معها».

 

الجيل «الأكثر حظاً»

يتخذ سكوراتي، ككاتب، موقفاً ملحمياً هو موقف أولئك الذين يشعرون بأنهم ملزمون سرد الحيوات والأحداث ذات الأهمية التاريخية الكبيرة، كالأيام الخمسة في ميلانو عام 1848، في رواية Una storia romantica [قصة رومانسية] (2007)، أو حياة أستاذ الأدب الروسي في تورينو ليوني غينزبورغ في Il tempo migliore della nostra vita [الوقت الأفضل من حياتنا] (2015)، والتي يروي فيها حياة أجداده الأربعة الذين عاشوا في نابولي وميلانو تحت الديكتاتورية وغارات الحرب العالمية الثانية، بالتوازي مع حكاية مناهض الفاشية الكبير.

هو يشبك في مثل هذه الأعمال حيوات قدوات بحيوات ناس عاديين لاكتشاف القواسم المشتركة العميقة في ملحمة جماعية وأفق مشترك للتاريخ، مولياً أهمية للبعدين الأخلاقي والأنثروبولوجي للنضال ضد الفاشية، إذ يعتقد أن استمراره هو ما يجنِّب «الحنين العبثي الذي يتملكنا... حين نفكر في المقاومة»، كما يذكِّر الكاتب-الراوي نفسه في نهاية Il tempo migliore della nostra vita.

«نحن، من ولدنا ونشأنا بعد عقود على انتهاء الحرب العالمية الثانية، في أكثر الفترات التي عرفتها أوروبا الغربية استقراراً وازدهاراً، نحن أبناء أكثر جزء محمي وثري ومعمِّر من البشرية عرفته الأرض، ونحن أنفسنا من نشعر بالحنين إلى تلك الحقبة المأسوية، وإلى ذلك الصراع، ليس الهائل فحسب، بل الرهيب، الذي لم نختبره»، يقول.

ويضيف: «إنها فكرة طائشة دون شك، وربما تتضمن حتى قلة احترام لآلام الآخرين، لكن تلك هي فكرة أولئك الذين عاشوا حيوات خاملة؛ إنها الخطأ الفادح الذي يمثلنا، والمرآة التي تعكس رفاهيتنا المزعومة الخائنة، التي يتعين علينا التعامل معها».

تعدُّ هذه المعضلة الفكرية واحدة من أسباب سرد التاريخ الكامل للفاشية في M. يضاف إليها طبعاً نضوج رفضه الرواية التخيلية البحتة، الأمر الذي يشترك فيه «جزء كبير من الأدب الأوروبي الأكثر إثارة للاهتمام (...) والذي يعيد سرد تاريخ القرن العشرين على أساس توثيقي متين» (وفق ما ورد في مقابلة معه نشرت على موقع ilLibraio.it في 12 أيلول/سبتمبر 2018)، في إشارة صريحة إلى كاتبات وكتَّاب معاصرين مثل: ليتيل، سيركاس، بينيه، كارير، بيتروفسكاجا، يانيتشيك، عدا معلم الرواية التاريخية الأوروبية في القرن التاسع عشر أليساندرو مانزوني.

غير أن شخصية سكوراتي برزت معالمها أيضاً في خضم الحدثين اللذين أحدثا هزة في الأفق السياسي والاجتماعي المعاصر، بما في ذلك في أوروبا العجوز المحمية. ففي 11 آذار/مارس 2020، بعد أيام قليلة من الإغلاق العام الأول بسبب الأزمة الوبائية، وفي مقالة Coronavirus, prova di maturità per una generazione baciata dalla sorte [فيروس كورونا اختبار لنضج جيل حباه القَدَر]، كتب أن الوباء هو لحظة «الاختبار» والمسؤولية التي آنت (أخيراً) لجيله «الأكثر حظاً في تاريخ البشرية»، جيل «La jeunesse dorée [الشباب الذهبي] في تاريخ العالم»، الذي ولِد متأخراً جداً عن معرفة الحرب الأخيرة أو المشاركة فيها شخصياً، وعن الحقبة الثورية الأخيرة في إيطاليا والعالم (ستينيات القرن الماضي وسبعينياته). جيلٌ لم يعرف الحروب إلا كـ«لا تجربة».

بعد عامين تماماً، في 11 آذار/مارس 2022، أي بعد أسبوعين من بدء غزو جيش بوتين أوكرانيا، نشر سكوراتي في جريدة Corriere della Sera، التي سيبدأ الكتابة فيها بصورة دورية منذ 2019، مقالة بعنوان Il senso della lotta [معنى النضال]، يعظِّم فيها دور المقاتلين الأوكرانيين المسلحين وقوَّتهم المعنوية، ويعزو أهمية تاريخية لتضحياتهم من أجل حياة الأجيال الحالية وأجيال المستقبل؛ إنه، وفقاً له، الفرق بين الاستسلام غير المشروط والسلام المنتزع بالتفاوض، وبين العبودية للاستبداد الروسي والحرية، ليس لأوكرانيا فقط، وإنما لأوروبا كلها دون شك.

 

يمكن أن تموت أوروبا

لقد اهتم أنطونيو سكوراتي في كتاباته وأعماله بالأحداث ذات الأهمية العالمية التي تشمل فيها السيرورة التاريخية أجيالاً وطبقات اجتماعية بكاملها وتدعو الأفراد إلى تحمل مسؤولية تاريخية. فأي ظاهرة تاريخية هي أكثر مصيرية ومأسوية على تاريخ وحدة الدولة الإيطالية (المستمرة حتى اليوم لما يزيد عن مئة وخمسين عاماً) من الفاشية؟

لكنه رأى دوماً، كباحث في تاريخ الفاشية، أن من الهراء الخشية الدائمة من عودة الفاشية إلى إيطاليا، حتى مع وجود حكومة تدعمها اليوم غالبيةٌ حزبها الرئيسي هو Fratelli d’Italia [إخوة إيطاليا]، الوريث المباشر لحزب الحركة الاشتراكية الإيطالية، الذي كان بدوره استمرارية مباشرة لتجربة الجمهورية الاشتراكية الإيطالية لموسوليني بين 1943 و1945، مع الإشارة إلى أن هذا الحزب كان خارج المجلس التأسيسي للجمهورية التي ولدت على أنقاض النظام الفاشي بين 1946 و1947.

ليس ثمة حزب في إيطاليا يمكنه اليوم تبني العنف الممنهج كأداة للنضال السياسي اليومي، لكن يمكن للديمقراطية أن تتدهور بفعل موجة رغبات استبدادية، فينبه سكوراتي من أن «الخطر الحقيقي (لدى مشاهدة هذه المجموعات النيوفاشية) ليس على ديمومة الديمقراطية، إنما على جودتها، فهي مهددة من هذه الأحزاب وريثة موسوليني لا بوصفهم فاشيين، بل بوصفهم مبتكري الشعبوية».

سينجح موسوليني خلال بضع سنوات في حشد آلاف الشباب للالتفاف حول مشروع عنيف للاستيلاء على السلطة (Getty)

من أجل المساهمة في مناهضة ذلك، يستعيد المؤلف في M قصة إيطاليا قبل مئة عام، في أوج الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الشاملة التي ضربتها إبان الحرب العالمية الأولى. في إيطاليا تلك، سيستغل بينيتو موسوليني بمهارة خوف البرجوازية المعادية للاشتراكية، واعتياد العنف اليومي الذي طبع جموع المحاربين القدامى ومشوَّهي الحرب، ليؤسس i Fasci di combattimento.

سينجح موسوليني مع هذه الحركة الجديدة، خلال بضع سنوات، من 1919 حتى 1922، في حشد آلاف الشباب للالتفاف حول مشروع عنيف للاستيلاء على السلطة واستبدال الطبقة الليبرالية القديمة الحاكمة وغير الكفؤة، مستغلاً إلى أقصى الحدود تصوُّراً للسياسة كحقلٍ مستقل عن الأخلاق.

هي سنوات «squadrismo»، أو الميلشيات الفاشية التي تنظمت خارج إطار الدولة، والهجمات اليومية التي شنّها الفاشيون على المناضلين الاشتراكيين، وأعضاء المجالس البلدية، وغرف العمل النقابية، ومنظمات الحركات العمالية الإيطالية التي افتقدت في تلك الظروف الكارثية القيادة السياسية الموحدة اللازمة لمجابهة العنف ومقاومته بفعالية. في هذا السرد الروائي التوثيقي للوقائع، تظهر بالفعل اللاواقعية القصوى لدى الزعماء الاشتراكيين الإيطاليين في ذلك الحين، فالثورة الاشتراكية التي كانوا يستحضرونها كانت مؤجلة دوماً، في حين أن الأثر الوحيد للرجوع العنيد إلى المثال البلشفي الروسي كان تقديمَ الذريعة إلى الفاشيين للإشارة إليهم، أمام البرجوازيين والمحاربين القدامى، كخونة للوطن.

يروي سكوراتي كيف سيستولي موسوليني، الاشتراكي الثوري السابق، والمناهض للعسكر، والمناهض للملكية وللإكليروس، على السلطة عام 1922، وشروعه في بناء أول نظام فاشي في التاريخ، نظام استبدادي غير ليبرالي، ومعادٍ للاشتراكية والجيش، وقومي وإمبريالي، متعاوناً مع النظام الملكي والكنيسة الكاثوليكية بصلف. فيتناول مرحلة الصراع السياسي الدموي بين 1919-1924 بتأريخ وثيق يلغي المسافة بين القارئ والأحداث ويعيد إنتاجها بدقة في التفاصيل لا يعود النظر معها قادراً على إدراك الكل. ويتتبع السرد، المكتوب كله في المضارع، قصص الشخصيات الرئيسية والمسؤولين عن ذاك الصراع عبر تحليلها في فصول قصيرة موضوعاتية تتخللها تقارير الشرطة، ومقالات صحافية، وبرقيات وزراء وكبار مسؤولين، ورسائل خاصة، وشذرات وثائقية منتقاة بعناية. «كما في دفتر يوميات حيث يُحتفظ أيضاً بقصاصات الصحف»، وفق لورينزو بافوليني في واحدةٍ من أولى المراجعات التي نشرت في الصحف الإيطالية.

أما جزء السلسلة الثاني، فيستعيد سنوات توطيد الحكم الشمولي من 1925 إلى 1932، مفرِداً مساحة واسعة للمفاوضات المعقدة بشأن الاتفاقية التاريخية عام 1929 بين الدولة والكنيسة، إذ كانت أساسية لضمان الهيمنة على الجمهور الكاثوليكي في البلاد (أحد كبار الأساقفة، رئيس أساقفة براغ على وجه التحديد، هو الذي لقَّب موسوليني بأنه «رجل العناية الإلهية»، أثناء زيارته روما).

كما يمنح هذا الجزء مساحة مماثلة لتأريخ الحرب الصعبة التي خاضها الجيش الإيطالي في الصحراء الليبية خلال محاولته قمع مقاومة الليبيين للاحتلال الذي بدأ عام 1912، وهي صفحات تحاول إعادة التاريخ الكولونيالي العنيف إلى وعي الإيطاليين، كونه واحداً من الفصول التاريخية التي مُحيت غالباً بفضل أسطورة «الشعب الإيطالي الطيب».

يبدأ السرد، في الجزء الثالث Gli ultimi giorni dell’Europa [آخر أيام أوروبا]، بزيارة هتلر الرسمية إلى إيطاليا عام 1938، ويختتم بدخول الأخيرة الحرب العالمية الثانية عام 1940، الحدث الذي شهد بداية نهاية النظام الذي ستثقله كارثة الحرب وحرب المقاومة بين 1943 و1945، وهي السنوات التي انتهى فيها موسوليني، تدريجياً ودون أن ينتبه، في قبضة هتلر، فيما كان يعتقد أن الأخير من كان في قبضته.

كذلك، هي السنوات التي تبنَّى فيها النظام في إيطاليا تشريعات عنصرية كثمن يسدده للمحور العسكري مع ألمانيا. وجهة النظر المختارة هنا غالباً ما تكون للمضطهدين من اليهود لكن ليس من اليهود المناهضين للفاشية مثل ليوني غينزبورغ، بل على العكس اليهود المنضوين تحت لواء النظام مثل: رينزو رافينا، رئيس بلدية فيرَّارا السابق، والصديق الشخصي لإيتالو بالبو، القيادي الفاشي الأهم، والزعيم التاريخي المضطرب والعنيف لـsquadrismo في منطقة رومانيا شمالي البلاد، الذي اعترض على المنحى العنصري الذي اتخذه النظام.

كانت تلك السنوات الحاسمة لهزيمة «أوروبا القديمة» التي تأسست على الجدلية بين «الدولة القومية» و«الإمبراطوريات»، من آل هابسبورغ إلى نابليون وهتلر: مع حلم (أو كابوس) رؤية أوروبا كلها موحدة تحت راية إمبراطورية واحدة. فكان موت القارة الموضوع الرئيسي لـ Kaputt[1]، الرواية التي نشرها الكاتب الإيطالي كورزيو مالابارته والحرب لم تضع أوزارها بعد، عام 1944، والتي بيَّنت بتأثير مربك كم كانت الفاشية والنازية صناعة أوروبية. كان مالابارته شاهداً على الاثنين، وأيضاً فعالاً في الفاشية، وقد كتب مع نهاية الحلقة التاريخية التي أدت إلى الحرب العالمية الثانية، فيما يكتب أنطونيو سكوراتي بعد انتهاء الحقبة العظيمة للديمقراطية الاجتماعية الأوروبية التي افتتِحت بنهاية تلك الحرب ومقاومة الفاشية والنازية.

أوروبا اليوم أيضاً - هذا ما ذكره سكوراتي في مناسبات عدة في لقاءات تلفزيونية وفي مقالاته - يمكن أن تموت. قد تموت بسبب حرب جديدة في قلبها، أو بسبب التنكر لقيم لاتينية ومتوسطية مثل المبدأ القائل بوجوب إنقاذ أي إنسان يغرق في البحر. هذا الخوف المتراكم من سويات الماضي العنيف والحاضر القلق، هو ما يعيد الروائي الإيطالي إنتاجه أدباً يقل مثيله.

 


[1] يقول مالابرته في التمهيد إن العنوان Kaputt اختير في إشارة إلى معنى الكلمة باللغة الألمانية، أي ما تم كسره، وانتهى، وتحول إلى فتات، وتلاشى، مضيفاً أنه «أفضل ما يشير إلى ما نحن عليه، وما هي أوروبا، من الآن فصاعداً: كومة من الحطام».

المراسل ومتعاونون

مواضيع يعدُّها محرِّرا الموقع ومتعاونون.

×