10 كانون الأول 2024
9 أيلول 2024
من ملف ثالث المنافي، الوجود الفلسطيني في تونس (1974-1994)
يدخل الشتاء تونس دفعةً واحدةً. كانت سماء المدينة توشك أن تمطر مساء الخميس الحادي والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 1947. أما في دبي، فالإمارة الوليدة ما زالت تحتفظ ببقايا دفء الصيف. يلج الكابتن في الخطوط الجوية البريطانية جيم فوتشر بوابة المطار واضعاً بدلته على ساعده الأيسر متوجهاً لاستقبال الرحلة رقم 870 الآتية من لندن. بعد إعادة تزويد الطائرة VC-10 بالوقود، كان من المقرّر أن يتولى وطاقمه مسؤولية رحلتها المستمرة إلى الشرق الأقصى، ووجهتها النهائية في سلطنة بروناي وكلكوتا وسنغافورة، لكن توقف الطائرة في دبي سيقلب مساره ومصائر ركابها إلى الأبد.
خلال التوقف القصير، غادر أربعة رجال متنكرين بزي عمال المطار صالة الركاب وركضوا نحو الطائرة، وأطلقوا النار أثناء اقترابهم فأصابوا مضيفة كانت تقف بجانب درجات الطائرة برصاصة في ظهرها لكنها نجت. ما إن صعدوا على متن الطائرة، أدرك الخاطفون أنه لا طيار، وهددوا بإطلاق النار على الركاب إذا لم يصل أحدهم فوراً. لم يتردد فوتشر في الصعود إلى الطائرة، وأقلعت VC-10 وعلى متنها 27 راكباً وثمانية من عمال المطار (كانوا ينظفون الطائرة) وطاقم من 10 أفراد[1].
غادرت الطائرة مطار دبي بعد ساعتين ونصف من التوقف نحو المجهول. سارعت حكومات المنطقة إلى إغلاق مطاراتها كافة: الكويت والظهران في السعودية والمنامة في البحرين، لكن الخاطفين كانوا قد أمروا فوتشر بالسفر مباشرةً نحو بيروت ليكتشفوا فوق سماء العاصمة اللبنانية أن السلطات قررت إغلاق المطار وحاصرته بالقوات الأمنية، لتبدأ الرحلة رقم 870 طوافها الطويل نحو مصير مجهول، فنزلت الجمعة على السابعة في مطار طرابلس الغرب لتتزود بالوقود وتقلع بعد ساعتين لتدخل الأجواء التونسية.
في تونس، كانت السلطات مستعدةً لهذا السيناريو كما يروي وزير الداخلية طاهر بلخوجة في مذكراته: «اتخذنا كل التدابير الأولية المعهودة وأغلقنا كل مطاراتنا، المنستير وجربة وتوزر وتونس، في وجه كل نشاط جوي وعززنا الأمن بطاقم من الحرس وآخر من الجيش. أعلمت رئيس الدولة والوزير الأول بكل الاحتمالات، وتحولت نحو التاسعة إلى المطار وصعدت برج المراقبة». يقول: «في أجواء تونس، وقبل أن تصل الطائرة إلى المطار اتصل طاقمها بالبرج يطلب النزول بإلحاج، وكان الجواب أن المطار مغلق وأن ميادين الهبوط مسدودة. فازداد إلحاحه معلناً أن في الطائرة جريحين في حالة خطرة وأن الطائرة تفتقد البنزين مؤكداً أن التزويد في طرابلس كان لطيران قصير إلى البلدان القريبة فقط، وأنذر أن طائرته ستنفجر في كبد السماء إن لم تتمكن من الهبوط قبل الحادية عشرة»[2].
ثأر أحمد عبد الغفور
كان الخاطفون ينتمون إلى مجموعة فلسطينية مسلحة تسمى الألوية الثورية العربية، أسسها عام 1973 القائد الفلسطيني في شمالي لبنان أحمد عبد الغفور (أبو محمود) وأبو مصطفى قدورة، اللذان انشقا عن حركة فتح، وتبنت خط العمليات الخارجية. يذهب علي بدوان في كتابه العنب والرصاص إلى أنّ عبد الغفور أسّس تنظيمه من تشكيلة قتالية من بعض كوادر حركة فتح بدعم من ليبيا وقد اتخذ مقراً رئيسياً له في طرابلس لكن اغتياله في الثاني عشر من أيلول/سبتمبر 1974 في بيروت بالقرب من سور الجامعة العربية[3]، أي قبل أيام قليلة من اختطاف الطائرة البريطانية، أضعف التنظيم.
يكمل الوزير التونسي: «كنت متصلاً بالوزير الأول (الهادي نويرة) من برج المراقبة، فشككنا أولاً في مزاعم قائد الطائرة لأنه كان يتحدث تحت إمرة قادة الخاطفين، فقررنا التروي بعد أن عرفنا أن القراصنة جماعة انتحارية وأن أقرانهم المعتقلين في هولندا أحرقوا طائرة بريطانية من نفس الشركة في أمستردام في مارس 1974، وأن عبد الغفور (أبو محمود) قتل في بيروت بعد العملية بشهر إثر مطاردة عنيفة من مجهولين والأرجح أن يكونوا إسرائيليين أو من تبعهم».
يتابع: «خشينا أن المجموعة تريد أخذ الثأر والانتقام مهما كانت التكاليف، كما أثّر فينا عنصر ثانٍ تمثل في نداء ملحّ وصلنا من الحكومة البريطانية وجهته إلى البلدان المعنية كي تقرأ حساباً إنسانياً للرهائن»[4]. لكن بعد ساعة واحدة من بداية الأزمة، أخذ الهادي نويرة طريقه نحو قصر قرطاج لإعلام الرئيس بورقيبة. في مطار قرطاج، أعطى بلخوجة الأمر لبرج المراقبة بفسح المجال لهبوط الطائرة على الحادية عشرة، فربضت في مسار خاص بعيداً بــ500 متر عن المباني وعلى مرأى جيد من البرج حتى تُراقب جميع التحركات. كما جرى تطويقها بحزام أمني من بعد 30 متراً، فخشى الخاطفون هجوماً على الطائرة فأطلقوا أعيرة نارية من نافذة القيادة. وعندما اكتشفوا غياب أيّ ردّ من القوات التونسية، أوقفت الطائرة محركاتها وساد صمت لم يدم طويلاً.
بعد نحو ساعتين، بدأ الكلام سجالاً بين المجموعة الخاطفة والسلطات، ثم في الواحدة والنصف، طالب أحدهم بقدوم الصحافيين لتبليغ مطالبهم «الشرعية». صعد الطاهر بلخوجة إلى برج المراقبة وشرع في مخاطبة قائد المجموعة، طوني مروان: «أعلمته في البداية بصفتي فلم يقتنع، ثم طالبته بأن نتعاهد مواصلة اتصالاتنا في جو من الصدق والأمان، والوقت بيننا لتحقيق ومراجعة ما نفعله، والمعلوم أن الخشية المعتادة في مثل هذه الحالات هي الخداع أو المناورة، فأكدت لهم أن رئيس الدولة بورقيبة والحكومة جادون في إيجاد حل، وأن اتصالاتنا مستمرة مع مسؤولي البلدان المعنية بشأن المعتقلين، فاستحسنوا ذلك وتوطدت علاقتنا طوال سير الأحداث».
أخيراً اتفق بلخوجة مع قائد المجموعة على أن يمنع الصحافيين من الدخول إلى الطائرة، وأن يكون الحديث بينهم وبين الصحافة عن طريق اللاسلكي في سيارة تحملهم على بعد 20 متراً من الطائرة. تقدم شريف المعتمري من وكالة الأنباء التونسية وصحافي من وكالة الأنباء الفرنسية للمهمة، وهما يستمعان من بعد لخطاب طوني مروان الذي استهله بشكر تونس على استقبال الطائرة بعد أن أغلقت المطارات العربية أمامهم، وندد بشدة وقسوة بالأنظمة العربية، وأعلن شروطه: الإفراج عن المعتقلين في هولندا وعن 13 فدائياً آخرين معتقلين في مصر، والجواب خلال ثلاث ساعات، وعند الرفض سيقتل أحد الرهائن كل مدة.
يقول بلخوجة: «عند التثبت علمنا أن معتقلي القاهرة احتلوا سفارة السعودية في الخرطوم في مارس 1973، وكانت لهم عملية ثانية في مطار روما في 15 أفريل 1947، وتبين أن المجموعات الثلاثة في القاهرة وأمستردام وتونس هي واحدة في الأصل، وأن أفرادها من أشد الإرهابيين، فأخبرت الوزير الأول بهذه التطورات واتفقنا أن نلتقي عند رئيس الدولة، ثم في مكتبه تداولنا سريعاً في جميع الاحتمالات وخشينا أن يقع تفجير الطائرة كما فعل أقرانهم في هولندا».
يضيف: «أخذ الرئيس على نفسه مخاطبة رؤساء الدول وطلب من الوزير الأول الاتصال بالسفراء وأوصاني بالحذر للخروج من الأزمة بأقل التكاليف خاصة على حياة الرهائن، وأوفدت بريطانيا مسؤولاً رفيعاً من وزارة الخارجية، وتجمع في قاعة الشرف عدد من السفراء بينهم ممثلون عن ألمانيا وهولندا وبلجيكا وبريطانيا والنمسا وكانوا في حيرة بخصوص مواطنيهم في الطائرة، فيما أصدرت منظمة التحرير بلاغاً يندد بالعملية، كما اتصل بورقيبة بأنور السادات طالباً أن يساعده في إيجاد حل إنساني بصورة سريعة والإفراج عن المعتقلين في مصر، بل طلب من الرئيس الجزائري هواري بومدين والملك الحسن الثاني التأثير في الرئيس المصري».
مناورة بين تونس والقاهرة
في القاهرة، تلقى صلاح خلف (أبو إياد)، وهو رئيس جهاز الأمن في منظمة التحرير، مكالمةً عاجلةً من الخارجية المصرية صباح 22 تشرين الثاني/نوفمبر، تطلبه للقاء مع وزير الخارجية إسماعيل فهمي. وصل أبو إياد إلى مبنى الخارجية ليجد الوزير غارقاً في اجتماع مع وزير الداخلية ممدوح سالم.
يقول أبو إياد في مذكراته فلسطيني بلا هوية: «حدث لدي انطباع أنني أمام مجلس حرب، فالوجوه منطوية والجو متوتر، وأبلغني إسماعيل فهمي بالمشكلة بإيجاز: اختطفت طائرة بوينغ تابعة للخطوط الجوية البريطانية هذا اليوم إلى تونس على يد مجموعة فلسطينية تطالب بإطلاق سراح الفدائيين الخمسة عشر المعتقلين في مصر، ومن بين هؤلاء خمسة من الذين ارتكبوا محاولة مطار روما في 5 نيسان/أبريل 1973، كما بينهم ثمانية آخرون هم المسؤولون عن عملية الخرطوم في آذار/مارس 1973 ضد سفارة السعودية، فكان الرئيس بورقيبة يريد تلافي مأساة في مطار تونس ويلحّ أن نلبي مطالب قراصنة الجو».
يكمل أبو إياد: «قال لي إسماعيل فهمي: لن نستطيع الإذعان للابتزاز، ليسألني بعد هذا: هل تستطيع مساعدتنا؟ كنت أرى طلب إخلاء سبيل الرهائن دون مقابل غريباً وصعب التلبية، وبينما كنت أتردد في العمل، اتصل بي السادات هاتفياً وألحّ عليّ للذهاب إلى تونس عارضاً أن يضع طائرة خاص في تصرّفي»[5].
عودة إلى تونس حيث طلبت السلطات من طوني ضمان أمن ممثل منظمة التحرير، حكم بلعاوي، الذي سيصعد إلى الطائرة، فرفض في أول الأمر متهماً المنظمة. بعد جدل طويل اقتنع أخيراً ليصعد بلعاوي ولم يمكث إلا ربع ساعة وعاد ليقول للسلطات وللصحافيين وقد بلغ عددهم قرابة مئة، إن مختطفي الطائرة يعملون ضد الثورة الفلسطينية ولا يخدمون إلا مصلحة العدو، وصرح أن الأمر يتعلق بعملية انتحارية محضة وأنهم غير مستعدين لأي اتفاق، لكنه نسي أن الفدائيين يستعمون للأخبار من داخل الطائرة.
أثار تصريح بلعاوي غضب طوني ورفاقه وصار الاتصال عسيراً لشدة اغتياظ المجموعة. رغم ذلك، قبل تمديد الإنذار أملاً في الوصول إلى صفقة تنتهي بالإفراج عن رفاقه في السجون. بعد ساعات قليلة وصل أبو إياد إلى تونس على متن طائرة خاصة. كان في استقباله طاهر بلخوجة ووزير الخارجية، الحبيب الشطي. وفي القاعة الشرفية، أطلع بلخوجة أبا إياد على آخر المستجدات، ثم استمع لتسجيل المحادثات بين الطائرة وبرج المراقبة، ليتوجه نحو البرج ويشرع في التواصل مع الخاطفين.
في البداية، استهل حديثه بتبرير ساحة منظمة التحرير، وكانت التساؤلات عدة عن وقائع فلسطينية سابقة فسرها أبو إياد بمهارة، فاقتنع طوني، وأراد الفصل بين أبي إياد المناضل الحقيقي وعرفات والتباساته، فكان من الأول أن فسر معنى الثورة ووجوب الاتفاق حول مبادئها، وأعلمهم بإطلاق سراح المعتقلين في مصر وأنهم سلموا لمنظمة التحرير، فلم يقتنعوا واشتد غيضهم وطالبوا أن يلتحق أولئك بهم في الطائرة وهددوا بقتل أحد الرهائن.
«كانت المفاوضات صعبةً ووصل التوتر إلى الحدة لأول مرة في محادثتي مع رئيسهم طوني»، يكمل أبو إياد روايته، «فتوجهت إليهم وأنا أحثهم على الإصغاء إليّ، فذكرت العلاقات الممتازة التي كانت تجمعني بأحمد عبد الغفور قبل أن ينفصل عن فتح، ثم تولى بلخوجة الكلام وعرض بدء المفاوضات، وتناهى صوت أجشّ يقول: إننا لا نثق بأبي إياد، فنحن نعلم أنه رجل ماكر. طلبوا منا مهلة نصف ساعة لكن الانتظار طال واستغرق الليل كله وكنا بدأنا نيأس حتى سمعنا في الصباح صوت رئيس المجموعة ويدعى مروان وهو يطلب الكلام مع الأخ أبو إياد، فتنهدت تنهيدة ارتياح طالما أنهم يدعونني للمرة الأولى باسم الأخ».
في السادسة والنصف من مساء السبت، أدرك طاهر بلخوجة أن المفاوضات دخلت مرحلة الخطر، فأمر بإغلاق المطار وتحويل الطائرات إلى المطارات الأخرى، ثم استؤنف الاتصال. يقول بلخوجة: «تحدث لي طوني معرباً عن تقديره الشخصي ثم أعلن بكآبة اتخاذ تدابير مفزعة حسب ضمير الشهداء لم يفصح عن فحواها، وفي الثامنة و25 دقيقة وقع المحظور: فُتح الباب الخلفي للطائرة وألقي بكومة داكنة تبين سريعاً أنها جثة. كان بجانبي أبو إياد وقد اصفر وجهه وقررنا كف المفاوضات إلى حين. كان علينا إعلام الرأي العام العالمي والمحلي حتى نتجنب تأويل الفاجعة وتهويل المأساة، فدعونا الصحافة وكنت مع وزير الخارجية الحبيب الشطي وأعلمناهم أن القتيل ألماني ويدعى غوستاف ورنار وهو مولود سنة 1931 ويعمل مدير بنك بزيورخ في سويسرا».
يستدرك: «لم يكن لنا تفسير لاختياره من جملة الرهائن، والحال أننا كنا نتوقع أن الجماعة احتجزوا من أول وهلة جوزات الرهائن وربما كان اختيارهم لنسبته اليهودية وربما لمشاكسة مع أحد الفدائيين. بعد نصف ساعة اتصل طوني بالبرج طالباً التحدث معي فأعلمه مدير الأمن أنه يعوضني في ذلك، فرفض طوني التحاور معه وطلب أن أرجع في مكالمة مهمة، واخترت ألا أجيب بعجالة حتى يشعروا بالمأزق الذين هم فيه حينئذ».
بعد خمس ساعاتٍ من الصمت، استأنفت السلطات حديثها مع الخاطفين الذين طلبوا الماء والغذاء ومحركاً لتغذية بطاريات الطائرة لتجديد الهواء داخلها لأن درجة الحرارة داخل الطائرة لا تطاق فقبلت السلطات طلباتهم حسب الترتيبات الأمنية التي فرضتها. في هذا الجو من الانشراح النسبي طلب طاهر بلخوجة من طوني أن يولي الحكومة التونسية الثقة الكاملة، وألا يقدم على أي مبادرة أخرى تقطع العلاقة بين الطرفين.
كان بلخوجة وأبو إياد ينتظران قدوم الفدائيين من مصر. وفي ساعات الصباح الأولى من الأحد، نزلت الطائرة المصرية في مطار تونس، ونزل منها خمسة مع أن طوني طلب إطلاق سراح مجموعة مصر بأكملها المؤلفة من 13. صعد الفدائيون الخمسة برج المراقبة وشرعوا في الاتصال برفاقهم عن طريق اللاسلكي. كانت لحظة ملحمية بين الخوف والرجاء والحب والتوتر. اغتنم بلخوجة الفرصة وطلب منهم الإفراج عن النساء والأطفال، فتشاوروا قليلاً من الوقت وقبلوا العرض.
في العاشرة ليلاً، خرج أول دفعة من الرهائن: خمس نساء وطفل ورجل مريض يحمل الجنسية الفرنسية. نزلوا حسب الترتيبات الأمنية المشددة راجلين وكان مشيهم قرابة 50 متراً ثم ركبوا إلى سيارات الإسعاف على مرأى من الصحافيين والقنوات الأجنبية، ثم جاءت الدفعة الثانية بإطلاق ست نساء أخريات. بحسب إفادة الرهائن، كان الفدائيون أربعة ويحملون بندقية رشاشة وقنابل يدوية وأربعة مسدسات.
استمر التفاوض سجالاً صعباً حتى وصول الطائرة التي تقل الفدائيين الاثنين المعتقلين في هولندا بعد تدخلات عدة وملحة لدى الحكومة الهولندية من تونس وبريطانيا وعدد من أصدقائهم الغربيين، الأمر الذي جعل التفاوض أكثر مرونةً. لكن السفير الهولندي رفض أن ينزِلَ الفدائيين من الطائرة قبل الإفراج عن بقية الرهائن فتدخل أبو إياد بحزم لدى المجموعة فقبلوا إطلاق سراح المضيفات ونزل الفدائيان والتحقا برفاقهم داخل الطائرة.
تشبيك العمل الاستخباري
كانت المرحلة الأخيرة هي التفاوض حول ترتيب نزول الفدائيين ثم طاقم الطائرة، فكان المطلب الأساسي لطوني ورفاقه هو اللجوء السياسي في تونس وعدم تسليمهم لمنظمة التحرير. في التاسعة صباحاً، تقدمت ست سيارات على بعد 50 متراً من الطائرة ونزلت المجموعة نحو العاشرة من الخلف حتى لا تكون هناك فرصة لتصويرهم، ثم نزل طاقم الطائرة يقوده جيم فوتشر. في ردهةِ فندق الهيلتون تجمع صحافيون حول فوتشر فقال كلمات قليلة: «تملكنا الخوف عندما أجهز الكوماندوس على الرهينة الألماني، وكانت اللحظة الرهيبة مساء الأحد عندما هددوا بتفجير الطائرة»، ليعود إلى بريطانيا ويصبح قائداً للطائرة الملكية. أما طوني ورفاقه، فاختفوا عن الأنظار. فيما يشير أبو إياد في مذكراته إلى أنهم التحقوا بحركة فتح.
على هامش الحادثة، يروي أبو إياد أن رجلاً قدموه إليه أنه ديبلوماسي بريطاني، وقد وقف على مقربة منه يتابع تطور المأساة. كان منزوياً قليل الكلام ولا يتحدث إلا بالإنكليزية، فلم يخطر في بال أبو إياد أنه يفهم العربية: «كم كانت دهشتي عظيمة حين توجه إليّ بعربية منقحة ليشكرني بحرارة وقال لي: نحن مدينون لك بجميل عظيم يا أبا إياد لإنقاذك رعايانا، فأجبته بأني لم أقم إلا بواجبي، وأنه إذا كان يصر على شكري، فإن في وسع حكومته أن تدفع نصف ثمن طائرة الخطوط الجوية البريطانية التي أفلحت في إنقاذها لصندوق منظمة التحرير، فانفجر الديبلوماسي ضاحكاً، وبعد ذلك ببضعة أيام تلقيت لدى عودتي إلى منزلي في القاهرة باقة زهور باذخة من شركة الطيران البريطانية».
يواصل: «راح صحافي أميركي يقول لي بفضاضة: يا مستر أبو إياد ألم يكن مكانك الطبيعي أن تقبع إلى جانب الإرهابيين في الطائرة؟ فتمالكت أعصابي وأجبته بهدوء: سيان أكان المكان برج المراقبة أو الطائرة أم سواهما من الأمكنة، لا أجد في أي حيز أنني في داري، لكن أترانا نبالغ في الطلب إليكم – أنتم الذين لكم وطن ودار ثابتة – أن تراعوا الحد الأدنى من اللياقة إزاء من ليس لهم وطن أو دار».
لكن هذه الحادثة، التي كانت عرضية، في تاريخ العمليات الخارجية للكفاح الفلسطيني في سبعينيات القرن الماضي، وضعت الأسس لتعاون مخابراتي قوي بين المخابرات التونسية وجهاز الأمن الموحّد بقيادة أبي إياد، وقد بدأ مع الطاهر بلخوجة ثم تواصل بقوة مع أحمد بنور، وهو مدير المخابرات التونسية، خاصةً مع قدوم قيادة منظمة التحرير للاستقرار في تونس بعد الخروج من بيروت في أيلول/سبتمبر 1982. لكن العلاقات التونسية مع الأمن الموحد ستتجاوز الجانب الأمني إلى التدخل في جوانب سياسية ستظهر بوضوح في الأزمة بين السلطة والاتحاد العام التونسي للشغل عام 1978.
[1] Captain Jim Futcher : British Airways pilot who showed outstanding courage when his VC-10 was hijacked by Palestinian terrorists. The Telegraph - 31 May 2008
[2] الطاهر بلخوجة، الحبيب بورقيبة: سيرة زعيم، شهادة على عصر، ص. 23، الدار الثقافية للنشر، القاهرة 1999.
[3] عليّ بدوان، العنب والرصاص: من المُحال إلى طريق الاستقلال، دار الأهالي، دمشق، 2007.
[4] الطاهر بلخوجة، ص. 24.
[5] صلاح خلف (أبو إياد)، إيريك رولو: فلسطيني بلا هوية، ص. 234، 240، الطبعة الأولى، 1978.
كاتب صحافي تونسي، وباحث مهتم بالعلوم الاجتماعية، صدر له: بنادق سائحة: تونسيون في شبكات الجهاد العالمي (2016)؛ المجموعة الأمنية: الجهاز الخاص للحركة الإسلامية في تونس (2017)؛ عشر ساعات هزّت تونس.. حريق السفارة الأمريكية ونتائجه (2019)؛ التاريخ السرّي للإخوان المسلمين في تونس (بالإنجليزية 2020).