13 أيلول 2024
2 أيلول 2024
من ملف ثالث المنافي، الوجود الفلسطيني في تونس (1974-1994)
على أبواب صيف عام 1994 شرع الفلسطينيون في جمع أغراضهم والعودة إلى جزء صغير من الوطن. لم تكن مغادرة تونس كعمّان أو بيروت، تحت تهديد السلاح. على العكس تماماً، كانت بمنتهى الأناقة والهدوء، عبر طائرات فخمة إلى القاهرة ومنها براً إلى قطاع غزة أو إلى عمان ومنها نحو بلدات ومدن الضفة الغربية. في المقابل كان الانقسام حاداً في التعاطي مع هذه العودة بين معارض لاتفاقية أوسلو ومن بين مؤيد لها. اعتقد الجميع أن الكفاح المسلح والثورة الفلسطينية، أصبحا جزءاً من ماضٍ قد مضى وتاريخ لن يعود. فيما تسلح البعض الآخر بالأمل ونثروا أطروحات التبرير: «تخلى الجميع عنا، تركنا العرب وحدنا. وجدنا كوةً صغيرة نعود منها إلى الوطن، فهل نبقى في المنفى البعيد؟».
بارتياح كبير استقبل النظام في تونس مسألة الرحيل وخروج منظمة التحرير من البلاد. كانت ثقلاً أمنياً كبيراً على دولة تخوض حرباً داخليةً شعواء ضد الحركة الإسلامية، دولةً لا طاقة لها بحروب الشرق الأوسط السرية. فقد شكّلت الحوادث السابقة للخروج، بدايةً من اغتيال أبو جهاد وصولاً إلى كشف العميل الموسادي عدنان ياسين مروراً باغتيال أبو إياد ونشاطات منظمة أبو نضال، أحمالاً ثقيلةً كان بن علي لا يرغب في حملها.
مباشرةً بعد توقيع «إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي» بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية بواشنطن في 13 أيلول/سبتمبر 1993، أعلنت تونس أنها ساهمت في المحادثات السرية التي سبقت الاتفاق بين الطرفين والتي جرت في مدينة أوسلو النرويجية منذ عام 1991، كما احتضنت تونس قبل ذلك الحوار الدبلوماسي بين الولايات المتحدة الأميركية ومنظمة التحرير، والذي وقفته عملية شاطئ تل أبيب التي نفذها فدائيو جبهة التحرير الفلسطينية بقيادة أبو العباس، إذ كان يرى في الحوار تكريساً لمسار التسوية ومحاولات لإنهاء الثورة وحصاداً مبكراً لثمار انتفاضة الحجارة.
سبع سنوات عجاف
في أعقاب أوسلو، انتشرت موضة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي على نحو وبائي. نهاية الأحلام الثورية أوجدت مناخات خصبة لانتشار هذه الموضة. كانت التسعينيات عشرية الخيبة، عقداً كالحاً على الجبهات كلها. في هذا السياق، ولجت تونس لعبة السلام مع إسرائيل، ففي أعقاب رحيل منظمة التحرير الفلسطينية وجد النظام نفسه يمتلك المبررات الكافية لإعلان ما كان يُحضَّر له منذ توقيع إتفاق أوسلو، فمنذ عام 1993 بدأت إسرائيل تفتح قنوات اتصال مع تونس بعدما أعلنت وزارة الخارجية التونسية أنها «لا ترى مانعاً من إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل بعدما وقعت اتفاق سلام مع الجانب الفلسطيني»، وقد حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين زيارة تونس يومها، غير أن النظام رأى في الزيارة خطوةً مبكرةً لم يستعد لها سياسياً ولا شعبياً.
كانت عبارةُ «لن تكون فلسطيناً أكثر من الفلسطينيين»، الأكثر تداولاً عند أنصار السياسية الرسمية يومذاك، في مواجهة كل المعارضين و«المشككين واللا واقعيين والحالمين». في العام نفسه أجرى نائب وزير الشؤون الخارجية الإسرائيلية يوسي بيلين زيارة غير مُعلنة إلى تونس، بحث خلالها خطوات التطبيع. لكن تونس بقيت تنتظر خروج منظمة التحرير النهائي والرسمي، كي تعلن رسمياً تطبيع العلاقات، وكان ذلك باتفاق مع القيادة الفلسطينية. بموازاة ذلك فتحت السلطات المجال للسياح الإسرائيليين وبخاصة زوار كنيس «الغريبة» بجزيرة جربة خلال الحج السنوي.
بعد مغادرة ياسر عرفات في 11 تموز/يوليو 1994 إلى غزة، أعلنت تونس فتح سفارة لها في القطاع، وبالموازاة كشفت عن قيام أول علاقات رسمية بينها وبين إسرائيل من خلال «فتح قنوات اتصال عبر السفارتين البلجيكيتين في تونس وتل أبيب». شكلت هذه الخطوة صدمةً للأوساط السياسية والشعبية المحلية، لكن لم تخرج المظاهرات المعارضة ولم تحتل الجماهير الرافضة الشوارع.
كان النظام قوياً يومذاك، فيما كانت مشاعر الهزيمة والخيبة تمكنت من قطاعات واسعة من الشعب، فما حصل في حرب الخليج وآثار الحصار على العراق التي بدأت تظهر يومها والحصار على ليبيا، إلى جانب سيطرة النظام على المجال العام وترسيخ شرعيته القسرية بعد انتخابات آذار/مارس، رسخّت كلها مشاعر اليأس وأخرجت الخطوة التونسية في مد الجسور مع كيان ضرب قبل أقل من عشر سنوات ضاحية حمام الشط وقتل كثيراً من التونسيين، في مظهر الأمر الواقع.
لم يكن باليد حيلة. في الخارج استغلت المعارضة، وبخاصة الحركة الإسلامية، هذه الخطوة كي تشن مزيداً من الهجوم على النظام، فيما وصلت تحليلاتها إلى أن بن علي ضربها من أجل فتح العلاقات مع إسرائيل! بيد أن الحركة نفسها رفضت سن قانون يجرِّم التطبيع عندما وصلت إلى السلطة في 2012. لم يواصل أعضاء الحركة الهاربون في أوروبا، المُزايدة بالقضية، فقد كانت مطالب اللجوء التي أودعوها لدى أجهزة الأمن الأوروبية تمنعهم الحديث كثيراً في هذا الملف الحساس.
عام 1995 التقى وزير الخارجية التونسي الحبيب بن يحيى، وزير الخارجية الإسرائيلي إيهود باراك في إسبانيا على هامش مؤتمر برشلونة الأوروبي-المتوسطي، وخلال اللقاء قرر الطرفان تطوير العلاقات الدبلوماسية لتخرج من السفارة البلجيكية إلى إقامة مكتب اتصال ورعاية مصالح في كل من تل أبيب وتونس. لاحقاً وفي بداية 1996 أعلنت واشنطن رسمياً على لسان وزير خارجيتها وران كريستوفر «أنه للمرة الأولى إسرائيل وتونس ستنشئان مرافق رسمية تسمى رعاية المصالح في كلا البلدين».
ووصف كريستوفر وهو محاط بإيهود باراك والحبيب بن يحيى، الخطوة بأنها «خطوة مهمة لتوسيع دائرة السلام»[1]. لم يمضِ وقت طويل على هذا الإعلان حتى فتحت إسرائيل مكتباً لها في العاصمة تونس منتصف نيسان/أبريل 1996، وبعدها بشهر أرسلت تونس وفداً دبلوماسياً كي يفتتح مكتباً لها في تل أبيب. كانت مهام المكاتب المُعلنة «المشاورات السياسية، والسفر، والتبادل التجاري بين البلدين». جاءت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أيلول/سبتمبر 2000، لتضع نهايةً لمكاتب التمثيل الدبلوماسي، لكنها لم تُنهِ العلاقات التونسية الإسرائيلية. كانت سبعٌ عجاف من العلاقات لم تجنِ منها تونس سوى حفنة من السياح فيما كسبت فيها إسرائيل "اعترافاً" ومغانم أخرى.
منبوذون في الهيلتون
في 15 نيسان/أبريل 1996 وصل إلى مطار تونس-قرطاج قادماً من تل أبيب، شالوم كوهين، الرئيس الجديد لمكتب الاتصال الإسرائيلي، يرافقه 4 دبلوماسيين إسرائيليين هم نائبه ودبلوماسي ثانٍ ومسؤولة إدارية ومسؤول أمني. استقروا جميعاً في جناح داخل فندق الهيلتون في حي نوتردام الراقي، متخذين منه مقراً مؤقتاً لهم، ريثما يجدوا مقراً دائماً. بيد أن مُقامهم في غرف الفندق الضيقة تواصل لسنوات. بدوافع شتى: خوفاً من المسؤولية الأمنية ورفضاً للتطبيع وبُعداً عن المشكلات.
رفض التونسيون تأجير فيلاتهم وشققهم ومكاتبهم لإسرائيل كي تقيم عليها مكتبها الدبلوماسي. وحتى القلة القليلة التي قبلت ذلك واجهت رفضاً حكومياً، فبعد سنتين من السكن في فندق الهيلتون عثر الإسرائيليون عام 1998 على فيلا في حي المنزه كانت تشغلها سفارة إحدى دول أوروبا الشرقية، وقبل صاحبها تأجيرها لهم غير أن الخارجية التونسية رفضت التصديق على عقد الإيجار. كانت السلطات التونسية تُفضل بقاء الدبلوماسيين الإسرائيليين في الفندق ولا ترغب في حدوث مشكلات أمنية معهم، فانتقالهم إلى مقر مستقل وسكن خارجي سيضع السلطات أمام مسؤولية أمنية ثقيلة كما سيضع النظام في حرج بعد أن يُرفع العلم الإسرائيلي على مبنى المكتب، فيما سيعجز الدبلوماسيون عن رفع علمهم فوق مبنى الفندق.
يتحدث تقرير إخباري نشر في الصحافة عام 1997، أي بعد سنة من تطبيع العلاقات رسمياً بين تونس وإسرائيل، عن ظروف حياة الدبلوماسيين الإسرائيليين في تونس: «رغم مرور أشهر عدة على وصول البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية إلى تونس، فإن أعضاءها لا يزالون يقيمون في فندق دون أن يتمكنوا من تأجير أي محل، مع أنهم يعرضون أسعاراً مغرية على التونسيين. ويعيش الدبلوماسيون الإسرائيليون في شبه عزلة، فصلاتهم مع المواطنين التونسيين ضعيفة جداً. ويواجه أعضاء البعثة الدبلوماسية، إضافة إلى التجاهل المطلق من الناس تجاهلاً حتى في أوساط الدبلوماسيين المعتمدين في تونس. وفي معظم الحفلات التي يدعو لها السفراء إلى مناسبة أعيادهم الوطنية أو مناسبات أخرى، لا يرى أثر الدبلوماسيين الإسرائيليين الذين لا يدعون عادة إلا ما قل وندر ومن قبل ممثلي الدول الغربية وحدهم. ويؤكد سفير غير عربي أنه لم يعترض قط أي من الدبلوماسيين الإسرائيليين في أي مكان، كما أن هؤلاء لا يدعون أيضاً في المناسبات الرسمية، وهو ما لا يسبب أي حرج باعتبار أن هذا الفريق من الدبلوماسيين لا يرقى إلى مستوى عالٍ من التمثيل الدبلوماسي. ويبدو أن الدبلوماسيين الإسرائيليين قبلوا بالأمر الواقع ولم يعد ذلك يمثل أمراً حارقاً لهم، خصوصاً أن هناك قناعة كبيرة بأن السلطات الإسرائيلية لا تفعل شيئاً لتغيير موقف الناس تجاه إسرائيل أو تطويرها على اعتبار أن القرارات المتخذة تصدم الشعور الشعبي وحتى الرسمي»[2].
شالوم كوهين سائحاً في La Fayette
بلا موكب رسمي ولا حراسة مُكثفة، باستثناء سيارات الشرطة التونسية التي تراقبه من بعيد، يأتي شالوم كوهين، رئيس مكتب الاتصال الإسرائيلي في تونس يومياً عدا السبت، إلى شارع مدريد في حي لافايات بالعاصمة، ليجلس إلى اثنين من أصدقاء والده، وهم تجار من يهود تونس يبيعون المكسرات والحلويات ويحتلون محلاً كبيراً في الشارع. ولد كوهين في تونس عام 1955، ثم غادر مع عائلته عام 1960 نحو إسرائيل ليعود إليها بعد أربعة عقود سفيراً منبوذاً. كان محلّ المكسرات ملاذه الوحيد، يأتي إليه لتمضية الوقت هرباً من غُرف الهيلتون الباردة والموحشة يرافقه أحياناً نائبه جدعون بيهار. كان شهر أيار/مايو من كل عام متنفساً كبيراً لكوهين ورفاقه السجناء في جناح الهيلتون، حيث يقام الحجّ السنوي لمعبد الغريبة وخلاله يمارس المكتب نشاطاً كبيراً في تسهيل قدوم آلاف الحجاج الإسرائيليين واليهود من كل العالم، وخلاله يتمكن الدبلوماسيون الإسرائيليون من لقاء المسؤولين التونسيين، وزيرَي الداخلية والسياحة وغيرها من القطاعات ذات الصلة.
في مذكراته «قبس من الذاكرة، مذكرات ضابط أمن»، يروي الضابط المتقاعد من جهاز الأمن الرئاسي، النوري بوشعالة ذكرياته عن كوهين وزملائه، من موقع المعايش قائلاً: «لم يتمكن (كوهين) رغم جهوده المضنية ومحاولاته المتكررة من تأجير مقرات للمكتب والسكن بالضاحية الشمالية، وقد توافق التونسيون من السياسيين على ألا تتاح له فرصة الاستقرار بمنطقة تحتضن أغلب رموز الدولة. وكان كلما عثر على محل للإيجار وسعى لتأجيره تتعثر مساعيه، ولم يفلح في النهاية إلا في تأجير محل بأحد الأحياء القريبة من العاصمة، بعيداً عن الأماكن التي حرص على الاقتراب منها. وكما فشل في هذا الأمر فإنه لم يفلح في مسائل أخرى، من ذلك أنه سعى طويلاً لإرساء قاعدة للتطبيع الثقافي، فقد حصل مرةً على الموافقة لإلقاء محاضرة على إحدى المدارج بجامعة منوبة، لكن واجهته احتجاجات طلابية واسعة واعترضت موكبه حواجز أمنية حالت دون وصوله إلى الجامعة. كان والده يملك شقةً بشارع لندرة في منطقة الباساج بالعاصمة، ومنزلاً بالقرب من المحطة الأخيرة لخط القطار بالمرسى. زار كوهين البيت وتبرك بجذع نخل يقول إن والده غرسه هناك يوم ولادته. وزار أيضاً بيتاً بالمدينة العتيقة بنابل يقول إنه كان على ملك. ثم أدى زيارة إلى بعض الدكاكين بالمدينة العتيقة بنابل، التي كان البعض منها ملك عائلته، وقد استدل على ذلك ببعض الأحرف اللاتينية التي لا تزال بارزة على الواجهات الحديدية للنوافذ. كما كان يقضي كامل الصيف لدى خالته ببيت لها بضاحية الكرم، تحل به خلال الصيف ثم تعود إلى إقامتها الدائمة بفرنسا. وفي سنة 1998، حدثت له واقعة ألمته، حيث أراد أن يزور معبد الغريبة بجربة بمناسبة الاحتفال السنوي لليهود، لكنه لم يكن محلّ ترحيب من الحاضرين فغادر متأسفاً قائلاً لمرافقيه: إسرائيل ليس لها مكان بالغربية»[3].
ويعتقد الضابط التونسي أن العنصر الأكثر خطورة في طاقة المكتب الإسرائيلي كان الرجل الثاني بالمكتب جدعون بيهار، الذي كان جل تصرفاته يبعث على الاستغراب، ما دفع الأجهزة الأمنية المختصة إلى وضعه تحت المراقبة المشددة. يقول بوشعالة: «إن التعامل معه، لم يكن سهلاً، بخاصة في فهم ما يرمي إليه من خلال الزيارات التي كان يجريها وأحاديثه مع من يلاقيهم من المواطنين. كان اهتمامه خلال الزيارات مركزاً على الحالات السلبية، كالمواطن الذي تبدو عليه علامات العوز والفقر، والحيوانات التي يرى عليها ملامح الهزال والمرض، والمناطق الغابية التي طالتها بعض مظاهر التلف، لكنه كثيراً ما يهتم بمنابع المياه (...) لذلك امتدت زياراته إلى مناطق عديدة من شمال البلاد إلى جنوبها. في مدينة الكاف زار البيعة اليهودية القديمة وفي ولاية جندوبة اطلع على المعالم الأثرية بكل من طبرقة وعين دراهم وبلارجيا وحمام بياضة، المنطقة الحدودية التي لا يسمح الدخول إليها إلا لمتساكنيها. وبولاية سليانة كانت له جولات بجبل برقو وجبل الرصاص بزغوان وجبل بوقرنين بحمام الأنف، حيث تعرض لحادث لا نظنه ينساه، فقد هاجمه جمع من الكلاب السائبة لم يكتب له الإفلات منها إلا بعد تدخُّل مرافقه الأمني التونسي بإطلاق النار عليهم. وفي ولاية بنزرت زار بحيرة إشكل وسيدي علي المكي عدة مرات، حيث كانت له مع القائم على شأن المقام حوارات تردد من خلالها أن الولي الصالح المعني، من أصل يهودي، أوصى جدعون بمزيد الاهتمام به. وفي كل هذه المناطق التي زارها جدعون أتيحت له فرصة جمع الصور للغابات ومنابع المياه التي كان شديد الحرص على معاينتها والمعالم الأثرية والمظاهر التقليدية لحياة المواطنين. كان جدعون على شغف كبير بزيارة أولياء الله الصالحين مثل أبو الحسن الشاذلي بالعاصمة وسيدي علي الحطاب بالمرناقية بالإضافة إلى المعابد اليهودية بكل من المرسى والكرم ونابل، وينقل عنه مرافقه الأمني التونسي أنه طلب منه أن يصحبه إلى أحد الشوارع بالمدينة العتيقة قرب باب بنات بالعاصمة ليطلع على أحد البيوت التي كانت في الأصل معبداً يهودياً وقد تأكد من ذلك بوجود نجمة داوود على واجهة المبنى. وقد كان يستدل في تحركاته ببعض المراجع لديه من كتب وخرائط»[4].
ويلفت الضابط التونسي في مذكراته إلى حادثةٍ تعزز فكرة فقدان الثقة المتبادل بين الطرفين، عندما حاول جدعون ذات مرة مخاتلة الأمنيين التونسيين حيث عمد إلى جلب أجهزة استكشاف مرتبطة بالبث عبر الذبذبات صوتاً وصورةً فثبتها بإحدى الفوانيس ببهو مقر إقامته لتسجيل ما قد يحدث بالبيت عند غيابه، بعدما انتابه شك بأنه تحت المراقبة من المصالح المختصة للأمن.
يقول بوشعالة: «غير أن ذكاءه لم يسعفه فوقع في زلة مهنية لم يحسب لها حساباً حيث أمضى في تركيب هذه التجهيزات فترة صباحيةً كاملة كان من المعتاد أن يخصصها للعمل بمكتبه فلفت بذلك انتباه الأمنيين المراقبين ثم إن إلقاءه العلبة الكرتونية التي كانت تحوي الأجهزة خارج المنزل عزز الشكّ لديهم بخاصة بعد أن التقطوا العلبة واطلعوا على ما هو مرسوم ومدون عليها من بيانات ويكون بذلك قد أتاح لهم فرصة ثمينة مكنتهم من الكشف عما خطط له».
وخلال رئاسته مكتب الاتصال أصدر كوهين نشرة تحمل اسم Les Perles du pays توزَّع كل ثلاثة أشهر على الصحافيين والأكاديميين والمؤسسات العلمية التونسية باللغة الفرنسية، لكنه بعد أن يئس من حالة العزلة التي يعيشها ومرافقوه وقف إصدار النشرة. بعد سنوات من العُزلة قررت إسرائيل نقل كوهين إلى قسم المغرب العربي بوزارة الخارجية الإسرائيلية في تل أبيب ثم سفيراً في القاهرة، وتعويضه ببني بنيامين أومار الذي تقلد مهامه في شهر آب/أغسطس 1999 مواصلاً العمل من فندق الهيلتون. في المقابل سحبت تونس أعضاء مكتبها في تل أبيب بعد صعود حكومة الليكود إلى السلطة بقيادة بنيامين نتنياهو، فطلبت من رئيس المكتب وزير الخارجية اللاحق خميس الجيهناوي ونائبه محمد نجيب صفر العودة إلى تونس. ثم ما لبثت أن عوضته بطارق عزوز، الذي لم يبقَ طويلاً في إسرائيل.
كانت الحكومة التونسية تنتظر أي حدث كي تنهي العلاقة الثقيلة مع الجانب الإسرائيلي. اكتشفت بعد سنوات أن هذه العلاقات لم تجنِ منها شئياً. على العكس تماماً قدمت سلاحاً لمعارضيها كي يضربوها به. بل حتى الجانب الفلسطيني الذي من أجله -بحسب الزعم الرسمي- نشأت هذه العلاقة أصبح يعاني من تهرب إسرائيل من التعهدات السابقة، بخاصة بعد صعود اليمين.
جاءت الانتفاضة الفلسطينية الثانية لتضع حداً للعلاقات الرسمية عندما طلبت تونس من الدبلوماسيين الإسرائيليين مغادرة البلاد، لكن العلاقات لم تنقطع نهائياً. في أيلول/سبتمبر 2003 كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية عن زيارة سرية أجراها شالوم كوهين الرئيس السابق لمكتب العلاقات إلى تونس وبحث خلالها مع كاتب الدولة للخارجية إمكانية إعادة العلاقات الدبلوماسية. ووفقاً للصحيفة فإن المسؤولين التونسيين «أبلغوا ضيفهم أنه سيجري فتح المكتبين في حال شهدت العملية التفاوضية بين إسرائيل والفلسطينيين تقدماً لكنهم طالبوا بإعادة السماح للسياح الإسرائيليين بالسفر إلى تونس وإلغاء التحذير الذي أصدرته الخارجية الإسرائيلية باعتبار البلد غير آمن للإسرائيليين».
نشرت هذه المقالة أول مرةٍ في حقائق أون لاين التونسية
بتاريخ 25/05/2016. هذه النسخة معدلة ومزيدة.
كاتب صحافي تونسي، وباحث مهتم بالعلوم الاجتماعية، صدر له: بنادق سائحة: تونسيون في شبكات الجهاد العالمي (2016)؛ المجموعة الأمنية: الجهاز الخاص للحركة الإسلامية في تونس (2017)؛ عشر ساعات هزّت تونس.. حريق السفارة الأمريكية ونتائجه (2019)؛ التاريخ السرّي للإخوان المسلمين في تونس (بالإنجليزية 2020).