13 أيلول 2024
28 حزيران 2024
من ملف ثالث المنافي، الوجود الفلسطيني في تونس (1974-1994)
في مساء العاشر من كانون الثاني/يناير 1974، عبَر معمر القذافي النقطة الحدودية مع تونس في منطقة رأس جدير، واتخذ وجهة فندق قصر أوليس بجزيرة جربة. ومع وصوله، بعث إلى الرئاسة التونسية يطلب عقد لقاء عاجل ومهم مع الرئيس الحبيب بورقيبة، الأمر الذي سيلبيه الأخير مع حلول الصباح وينضم إلى خلوة طلبها الزعيم الليبي. ثم بعد ساعة لا غير، سيتلقى وزير خارجية تونس محمد المصمودي إعلاناً مكتوباً بخط القذافي، ويفيد بأنّ الزعيمين ملتزمان بدمج دولتيهما في دولة واحدة تسمى: الجمهورية العربية الإسلامية. ورغم الاتفاق على تبنّي هذه الدولة دستوراً واحداً وأن يكون لها جيش واحد ورئيس واحد وعلم واحد، فإنّ المفاجئ كان في التزام إجراء استفتاء شعبي في كلّ من البلدين بعد أسبوع، أي في 18/01.
نبأ وقع كالصدمة على نخبة الحكم في تونس، في وقت كانت زوجة الرئيس وسيلة بورقيبة ذات اليد الطولى في السياسة المحلية في جولة في الشرق الأوسط، فيما يؤدي الوزير الأول الهادي نويرة زيارة رسمية إلى إيران. وفور العودة سيرفض «أبو النهضة الاقتصادية»، على ما دأبت الدعاية الرسمية في تصويره، المشروع علانيةً، وسيقود بصفته الرجل الثاني تيار رفض قوي داخل النظام.
نجح النويرة في مسعاه وأقنع بورقيبة بالتراجع، لكن هذه النهاية السريعة للوحدة لم تؤسِّس لتوتر في العلاقات مع طرابلس حتى رحيل بورقيبة عن السلطة عام 1987 فحسب، إنّما أيضاً عرَّضت شعبية الهادي نويرة إلى انتكاسة كبيرةٍ. فقد كان هناك قطاع شعبي واسع مؤيد لها خاصةً في صفوف الطبقة العاملة والقواعد النقابية، في وقت ارتفعت شعبية وزير الخارجية المصمودي وعُدَّ عروبياً وحدوياً بعدما أطيح به لاتهامه من بورقيبة ونويرة بتدبير المشروع مع القذافي.
بهذه الخلفية تأججت النزعات المعادية لحكومة الهادي نويرة داخل القواعد النقابية. فبين عامي 1974 و1977، ستظهر تباعاً تأثيرات سلبية لبرنامج الانفتاح الاقتصادي الذي قادته الحكومة، فيما ستشرع النقابات العملية في توسيع مطالبها الاقتصادية والاجتماعية. وكانت قطاعات واسعة من هذه النقابات تعتقد أنّ فشل الوحدة شكّل أحد أسباب تدهور أوضاعها وخسارتها لمنافع اقتصادية.
أما أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل، الحبيب عاشور، فقد كان متحفظاً بشأن الوحدة، ولكنه كان مؤيداً بشدّة لحركة المطالب النقابية وداعماً لها في داخل المكتب التنفيذي للمنظمة النقابية.
«خبيلة مشكشكة»
في المنفى الليبيّ، استشعر وزير الخارجية المُقال محمد المصمودي أنّ الصدام بين النقابات وبين السلطة آتٍ، وأنّه يجب أن يدعم الحبيب عاشور لإضعاف موقف وموقع نويرة الذي كان يضع التحركات النقابية في خانة المؤامرة الإقليمية التي يدبرها القذافي انتقاماً من فشل مشروع الوحدة، ويشارك فيها المصمودي والحبيب عاشورة باعتباره طامحاً لخلافة بورقيبة في الحكم[1].
وما زاد الوضع احتقاناً وغضباً خاصةً عند رموز السلطة أنّه في خريف عام 1977 توجّه الحبيب عاشور إلى ليبيا من أجل حضور مؤتمر نقابي في طرابلس، وقد استقبله القذافي مصحوباً بالمصمودي فيما البلاد ترزح تحت وطأة إضرابات واحتجاجات عمالية يتطرِّد نسقها على نحو غير مسبوق. لكن ذلك كله لم يقف حائلاً أمام ارتفاع نجم المصمودي وشعبيته.
وقبل انفجار غدا على وشك الحدوث، حطت طائرة سلام وطلب راكبها عبر صديقه وزير الداخلية طاهر بلخوجة لقاء الرئيس بورقيبة، الذي سيستقبله بالفعل. كان الراكب القيادي البارز في حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية صلاح خلف، أبو إياد. «أتى من ليبيا للقاء بورقيبة»، على ما ينقل مدير الحزب الدستوري الحاكم محمد الصياح في مذكراته الفاعل والشهيد، عن الهادي نويرة.
يضيف أنّ أبو إياد جاء يخبر الزعيم التونسي بأنّه «كان ثمة اجتماع في طرابلس دعت إليه القيادة الليبية، وحضره الرئيس الجزائري هواري بومدين وآخرون، وقد دار الحديث حول تونس، وقال الحاضرون إنّ هذا البلد يعيش أزمة وإنّ الوقت جاء كي لا نفاجأ».
يضيف: «فرأيتُ (أبو إياد) أنّه من الأنسب أن آتي وأتحدث معكم في هذا الموضوع، فتونس حنينة ورائعة، ولها تجربة رائدة، ولها أيضاً تأثير في العالم وهي الباب الذي دخلنا منه إلى أوروبا. وبما أننا مدينون لكم فإنني أردت أن أقول لكم، إذا سمحتم لي، بأن هناك أموراً لا يجب أن تكون على النحو الذي هي عليه، فالمصمودي مثلاً يجري استعماله، لذا أليس من الأفضل أن نأتي به إلى هنا؟». وهو ما أجاب بورقيبة بشأنه: «اذهب لسي الهادي نويرة وقل له هذا الكلام»[2].
بالفعل، نجح أبو إياد في أن يقتلع عفواً للمصمودي في مقابل أن يلتزم بيته. ولم تمضِ أيام حتى عاد عبر مطار قرطاج وكان القيادي الفلسطيني في استقباله. وفي الواقع إنّ تدخل أبو إياد لم يكن شيئاً جديداً، إذ إنه جزء من نهج شرع فيه هو وجهاز أمن الثورة الموحد، الذي يقوده منذ بداية السبعينيات. فيعمل الأخير ضمن شبكة أمنية عربية، قوامها الأساسي تبادل المصالح والمعلومات مع أجهزة المخابرات العربية ولعب دور الوسيط بين هذه الأجهزة في ما بينها، وبينها وبين المجموعات الحزبية والثورية والمعارضات العربية. وقد بلغ نشاط الجهاز وقائده مستوى كبيراً في العمل داخل ساحات عربية، أكثر من عمله في صلب الثورة الفلسطينية.
لكن مع تزايد «وساطة الفلسطيني» بين أطراف النزاع، الحبيب عاشور والهادي نويرة ووزير الدفاع عبد الله فرحات ووزير الداخلية طاهر بلخوجة ومدير الحزب الحاكم محمد الصياح، كان هناك من لم يعجبه هذا التدخل «السافر» في شؤون بلاده. فالصياح مثلاً، ووفقاً لما نقله في مذكراته، لم يتورع عن إهانة أبو إياد، لتدخله في قضايا «لا علم له بها»، طالباً إليه «الذهاب أولاً للدفاع عن بلده».
تحجج الصياح بأن تدخل أبو إياد في قضيتهم التي هي «خبيلة مشكشكة»، يمكن أن يؤلب جناحاً من النظام ضد منظمة التحرير الفلسطينية، «وهذا ليس من مصلحة القضية في شيء»[3]. لكن منطلقه كان انعزالياً، إذ إنّه يشارك بورقيبة رؤيته الانعزالية، بخاصة حذره وتحفظه من أي تدخل آتٍ من الشرق. فقد كان يرى أنّ «كل بلادٍ ذهبوا إليها (الفلسطينيون) خرجوا منها على خلاف». ويضيف: «أعرف كيف ذهبوا إلى الأردن الذي احتضنهم وقبلهم بموجب اتفاق كان بورقيبة طرفاً فيه، إذ كانت الإستراتيجية إعطاءهم فرصة للمقاومة لا غير، أما البلدان العربية فلا ينبغي لها أن تبدو كما لو أنّها في حرب مع إسرائيل».
ويتابع: «كانت وساطة أبو إياد عملية حشرية (...) وألفت النظر هنا إلى أنّه عندما عُرِضَ الأمر على سي الهادي نويرة، علق بالقول: المشكلة ليست مشكل فلوس، إنما أبو إياد جاء للتوسط في مشكلة الحبيب عاشور ومحمد المصمودي»[4].
وساطة في مهبّ الريح
جمع أبو إياد فرقاء الأزمة في منزل الوزير الأول الهادي نويرة في أيلول/سبتمبر 1977، في وقت كانت بعض النقابات تستعد للمطالبة بزيادات غير متوقعة، وتهدد بالإضراب وتعطي الحكومة مهلة أيام معدودة للاستجابة. في الاجتماع، كانت رؤية الحبيب عاشور أنّ هناك مؤسسات لها مطالب لو استجابت لها الحكومة، لانتهت المشكلة. وفي معرض الحديث، اقترح أبو إياد أن يؤمن مبلغ أربع مليون دينار من بعض «الإخوة الخليجيين»، فاستشاط نويرة غضباً، إذ إنّ «تونس لا تطلب الصدقة، وهي قادرة على حل مشكلاتها بمفردها».
وهكذا فشلت وساطة أبو إياد في حلّ الأزمة، وربما أيقن أنّ ما قاله الصياح أجدى، أي «ألا تدخل في هذه العملية، لأنّنا نحن في تونس لا نفهم السياسة مثل ما يفهمها أهل الشرق»[5]. غير أنّ هذا الإخفاق سيسهم في ترسيخ علاقات أبو إياد بأحد أجنحة النظام في تونس، أي الجناح الذي كانت تقوده وسيلة بورقيبة، وكان أحد رموزه وزير الداخلية الطاهر بلخوجة. وقد قفز الأخير من المركب على مشارف مجزرة 26 كانون الثاني/يناير، أي يوم ستنفجر الأزمة ويسقط مئات الضحايا من العمال والمواطنين برصاص الشرطة والجيش، في مشهد سيُدخل البلاد في حالة طوارئ لم تُرفع إلا بعد 25 شباط/فبراير.
كما أنّ أبو إياد احتفظ بعلاقات وطيدة مع الرجل الذي سيخلف الهادي نويرة في رئاسة الحكومة، محمد مزالي. فقد عرفه باكراً في 1969، عندما كان الأخير وزيراً للدفاع، وكان أبو إياد على رأس وفد لـ منظمة التحرير بقيادته، من أجل طلب السلاح للفدائيين في قواعد الأردن. فأمر مزالي رئيس الأركان الجنرال محمد الحبيب السوسي بالاستجابة لطلبهم دون الرجوع في ذلك إلى الرئيس أو الوزير الأول. وكانت أسلحة خفيفة ومدافع رشاشةٍ[6].
وكان مزالي قد لعب دوراً أساسياً في ربط أبو إياد بالمخابرات الفرنسية بداية من عام 1980، عندما اضطر القيادي الفلسطيني إلى التوقف في مطار باريس في إطار في رحلة إلى الكويت. كلّف مزالي مديرَ المخابرات التونسية، أحمد بنور، بربط الصلة بفرانسوا قروسوفر المستشار الخاص لدى الرئيس ميتران، لتسهيل هذا التوقف الخاطف في باريس، لأن أبو إياد كان مطلوباً بسبب «عملية ميونخ» 1972.
يقول مزالي: «علاوة على ذلك، كان الاقتراح التونسي يتمثل في الدخول في حوار بين الطرفين. وفي هذا السياق لفت نظرنا موفدٌ من المخابرات الفرنسية هو: العقيد دي. ل، في خصوص الخطر الذي يمثله كارلوس وتهديدات موجهة ضد ابنة الرئيس ميتران، مازارين، فأبى أبو إياد إلا التعاون لمواجهة هذه المخاطر، وواصل اتصالاته بالمسؤولين الفرنسيين لما فيه مصلحة الطرفين حتى اغتياله في تونس»[7].
تونس في نقطة اللاعودة
في نهاية عام 1977، اشتعل المشهد إذ عمت البلاد إضرابات واسعة واحتجاجات نقابية أنذرت بأنّ الصدام الكبير والنهائي آتٍ[8]. وهذا ما كان... ففي 20 كانون الثاني 1978، صوتت اللجنة المركزية للحزب الدستوري الحاكم على قرار يدعو إلى «تطهير» قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل. في الوقت نفسه أرسل الحزب ميليشيات غير نظامية لمهاجمة مقرات الاتحاد في توزر وسوسة وتونس العاصمة. وبعد يومين اعتُقل الأمين العام للفرع الجهوي للاتحاد بصفاقس، عبد الرزاق غربال.
وإلى نقطة اللاعودة، وصلت القطيعة بين السلطة وبين القيادة النقابية، عندما دعا الحبيب عاشور أمام حشد من المتجمعين في ساحة محمد علي، إلى إضراب عام يومي 26 و27 كانون الثاني/يناير، قائلاً: «لا يوجد مجاهد أكبر من الشعب»[9]، في إشارة إلى اللقب الذي أطلقه الرئيس بورقيبة على نفسه (المجاهد الأكبر). نجح الإضراب العام، لكن ثمنه كان غالياً، إذ تجاوز عدد القتلى الـ300، بينما لم تعترف السلطات إلا سقوط 52 قتيلاً و325 جريحاً.
كان نصيب «الوسيط الفلسطيني» الذي كان ميله واضحاً لحلّ الأزمة في البداية عبر سحب المصمودي من ليبيا وحلّ الإشكال بين الحبيب عاشور والهادي نويرة، طعناً في خلفية الوساطة ودموية في المشهد السياسي. رغم أنّ سياسته كانت نقيض سياسة معمّر القذافي التي كانت تريد زيادة التناقضات داخل معسكر النظام في تونس. فلقد كان أبو إياد دائم التحفظ والرفض لنهج العقيد الليبي، وربما تعبّر نهايته في عام 1991 على يد «تنظيم أبو نضال»، بدعم ليبي وعراقي مزدوج، عن ذلك بوضوح، لتكون نهاية «حمامة السلام» في مقبرة الشهداء بتونس.
[1] محمد مزالي، نصيبي من الحقيقة: وزير أول في رئاسة بورقيبة يشهد، دار الشروق، القاهرة 2007، ص 418.
[2] محمد الصياح، الفاعل والشاهد، حاوره المولدي الأحمر، دار سراس للنشر، تونس عام 2012، ص 176.
[3] محمد الصياح، ص 177.
[4] محمد الصياح، ص 177.
[5] محمد الصياح، ص 178.
[6] محمد مزالي، ص 270.
[7] Didier Le Saout et Marguerite Rollinde, Émeutes et mouvements sociaux au Maghreb : perspective comparée, Karthala, Paris, 1999, p. 113.
[8] الطاهر بلخوجة، الحبيب بورقيبة: سيرة زعيم، الدار الثقافية للنشر، القاهرة 1999، ص 180.
[9] مزالي، ص 591.
كاتب صحافي تونسي، وباحث مهتم بالعلوم الاجتماعية، صدر له: بنادق سائحة: تونسيون في شبكات الجهاد العالمي (2016)؛ المجموعة الأمنية: الجهاز الخاص للحركة الإسلامية في تونس (2017)؛ عشر ساعات هزّت تونس.. حريق السفارة الأمريكية ونتائجه (2019)؛ التاريخ السرّي للإخوان المسلمين في تونس (بالإنجليزية 2020).