7 تشرين الأول 2024
16 آذار 2024
من ملف المعركة
وصلت إلى شواطئ غزّة الجمعة سفينة Open Arms الإسبانية وعلى متنها 200 طن من المواد الغذائية لسكان القطاع. وهي أول سفينة تسلك الممر البحري من ميناء لارنكا القبرصي نحو رصيف غزّة العائم الذي تقوم الولايات المتحدة بإنشائه عند شواطئ منطقة البيدر جنوبي مدينة غزّة في الشمال، في مشهد يثير القلق من احتمال استخدامه في أغراض سياسية بعيدة عن الدوافع الإنسانية.
يأتي ذلك في وقت تلاحق المجاعة سكان قطاع غزّة، وبخاصة في منطقة الشمال حيث يعانون من حصار عسكري إسرائيلي مطبق. ويعيش الغزيون تحت قصف جوي وبحري، وفي ظلّ اجتياح عسكري بري وعملية إبادة جماعية استغلّت فيها إسرائيل تجمعات المواطنين الساعين إلى تلقّي المساعدات التي تُسقط جواً، لاستهدافهم وقتل المئات منهم.
وتستمر إسرائيل بفرض إغلاق المعابر البرية الخمسة التي تسيطر عليها، وبرفض دخول المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح مع مصر حيث تتكدس آلاف شاحنات المساعدات في انتظار الإذن الإسرائيلي بالدخول. وهو ما يترافق أيضاً مع تساهل جيش الاحتلال مع ناشطين متطرفين يتجمعون منعاً لإدخال المساعدات عبر معبر كرم أبو سالم الذي تسيطر عليه إسرائيل.
وكان رئيس الولايات المتحدة جو بايدن قد أعلن في السابع من آذار/مارس بدء جيش بلاده بناء رصيف عائم قبالة شواطئ غزّة، حتى يكون ممراً إنسانياً جديداً لإدخال المساعدات إلى القطاع المحاصر، وذلك بعد عمليات الإنزال الجوي للمساعدات التي شاركت فيها دول عربية وغربية. ووفق المقرّر، ستسلك سفن المساعدات مسارها بدايةً نحو الميناء القبرصي لإجراء عملية تفتيش من قبل جيش الاحتلال، ثم تتوجه إلى القطاع بمرافقة سفن حربية إسرائيلية.
وكان الترحيب الإسرائيلي بالاقتراح الأميركي، على غير العادة، قد زاد من الشكوك حول دوافع أخرى لبناء هذا الرصيف. والأرجح أنّ الولايات المتحدة تضرب عدّة عصافير بحجر واحد. فأولاً يتم استخدام هذا الرصيف في مواجهة الاحتجاجات المتزايدة داخلياً على الدعم غير المشروط لعملية الإبادة، وهي مسألة غدت ذات تأثير ملحوظ في مراحل ما قبل الانتخابات الأميركية المزمع إجراؤها في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.
كذلك، سيمنح هذا الرصيف البحري الولايات المتحدة منفذاً مباشراً إلى قطاع غزّة من دون الاعتماد على الجيش الإسرائيلي. فسيشارك قرابة ألف من عناصر الجيش الأميركي في بنائه، ومن غير المتوقع رحيلهم بعد المهمة. بينما تشارك الدول الأوروبية والعربية في الممرّ البحري بعيداً عن الرصيف، إذ سيتمثّل دورها في شراء المساعدات وإيصالها إليه. وسيمثّل هذا الرصيف-الميناء ارتكازاً عسكرياً أميركياً يمكن استخدامه في المدى القريب في تنفيذ بعض المهام العسكرية المبرّرة في الداخل الأميركي، على غرار التدخل في تحرير الأسرى الاسرائيليين ذوي الجنسية الأميركية.
ولا شيء يمنع أن يتطوّر هذا الحضور على المدى البعيد ليغدو قاعدة عسكرية أميركية في شرق المتوسط، على غرار القواعد الأميركية في سوريا التي أُنشئت في البداية بهدف محاربة تنظيم «داعش» قبل أن تتحوّل إلى قواعد عسكرية تضم مئات الجنود والعتاد.
هدف آخر قد تكون الولايات المتحدة ساعية إليه، وهو إنشاء سلطة أمر واقع جديدة في داخل القطاع وتثبيتها من أجل أن تكون بديلة عن حركة حماس، ولا بدّ أن يمرّ ذلك عبر الاستثمار في عمليات توزيع المساعدات الآتية من هذا الممر البحري. ولا ريب أنّ واشنطن تهدف أيضاً إلى تهميش دور وكالة الأنوروا التي تواجه حملة أميركية إسرائيلية شديدة خاصة بعد مواقفها المناهضة لعملية الإبادة وشهادتها أمام محكمة العدل الدولية التي أدت إلى وقف واشنطن وحلفائها المساهمة في تمويلها.
وخلال الأيام الماضية طُرِح عدد من السيناريوهات حول هذه السلطة البديلة التي ستتولى توزيع المساعدات. فكان منها تولي رئيس مخابرات السلطة الفلسطينية في رام الله اللواء ماجد فرج إدارة القطاع، والتواصل مع عشرات العشائر والعائلات في غزّة لتشكيل إدارة بديلة عن حماس.
من جانب آخر، قد يكون أحد أهداف إنشاء الرصيف العائم تهميش الدور المصري في القطاع خاصة بعد مواقف عدة اتخذتها القاهرة ولم تلق رضى إسرائيلياً، على غرار الرفض العلني لاحتلال محور صلاح الدين الحدودي بين مصر وغزّة، ومنع خروج مزدوجي الجنسية من القطاع إلا بعد السماح بدخول المساعدات في بداية الحرب. ومن خلال مشروع إسرائيلي يقضي بإخلاء رفح تماماً ونقل من فيها جميعاً نحو شمالي القطاع (وليس أهل الشمال وحدهم كما تطالب حماس) بدواعي وجود ممرات بحرية وبرية إنسانية، وبالتالي إخلاء الحدود مع مصر، ستصير أسهل عملية السيطرة الإسرائيلية على المعبر وكامل حدود القطاع في سياق عزله تماماً وإحكام القبضة عليه، ما خلا المنفذ البحري الأميركي.
كذلك قد يتم استخدام هذا الرصيف في تهجير أهل القطاع عبر البحر، وهو السيناريو الذي ترى فيه القاهرة تهديداً خطيراً للقضية الفلسطينية وللأمن القومي المصري، وقد عارضته علناً في مناسبات عدّة. غير أنّ القاهرة لا تملك أن تعترض علناً على مشروع الرصيف، إذ من ناحية يجري تسويقه على أنّه مشروع إنساني لإنقاذ أهل غزّة وفتح ثغرات نحوهم، ومن ناحية ثانية هي لا تريد مزيداً من الخلاف مع واشنطن.
ثالثاً، وهو الأهم، أنّ المشروع إماراتيٌّ، فكرةً ومشاركةً في التمويل، ويأتي في وقت وفّرت أبو ظبي، عبر صفقة مشروع رأس الحكمة الذي لم يبدأ بعد، دفعة مالية ضخمة لمصر يمكن اعتبارها تاريخية ومن شأنها إنقاذ البلاد من خطر الإفلاس الذي كانت قاب قوسين منه.
ويتشابه مشروع الرصيف مع السيناريو الذي كان قد طرحه وزير خارجية الاحتلال يسرائيل كاتس خلال اجتماعه مع نظرائه في الاتحاد الأوروبي في كانون الثاني/يناير، حول تهجير سكان القطاع نحو جزيرة صناعية تكون وطناً بديلاً للفلسطينيين، وتُبنى على مسافة كيلومترات عدة من ساحل غزّة.
ربما تسعى الولايات المتحدة بخطوة الرصيف العائم إلى المشاركة المباشرة في سير العمليات داخل قطاع غزّة بعد العوائق التي اعترضتها خلال الأشهر الماضية، والتي أضرّت بها داخلياً. وهي ترى أنّ استمرار العمليات العسكرية للقضاء على المقاومة داخل القطاع يجب أن يقترن بعملية إدخال مساعدات، فتغطي مشاهد توزيع المساعدات مشاهدَ القصف. وسيتبع ذلك استخدامات كثيرة أخرى للوجود الأميركي المباشر وسيمثّل ارتكازاً عسكرياً إستراتيجياً متعدد الاستخدام في شرق المتوسط.
صحافي ومحلّل سياسي مصري.