7 تشرين الأول 2024
16 تشرين الأول 2023
من ملف المعركة
بضع ساعات من تجوّل «كتائب القسّام» داخل الأراضي المحتلة المحيطة بقطاع غزة كانت كافية في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي للعودة نحو القطاع بعدد أسرى أوشك أن يحطم الرقم القياسي الذي سجلته القوات المصرية في حرب أكتوبر 1973.
حتى الساعة لا نعرف العدد النهائي لهؤلاء الأسرى، ولا طبيعة المهمات التي كانوا يقومون عليها في محيط القطاع ولا الرتب العسكرية التي يحملونها أو المواقع المدنية التي يشغلونها، غير أن عدد المفقودين الذي أعلنته حكومة الكيان يبدو في ارتفاع متواصل كل يوم، شأنه شأن عدد القتلى.
الضباب الذي يكلل تفاصيل الأسر وعدد الأسرى لا يقلل أبداً من كون هذا الملف حاكماً وحاسماً في المدى المتوسط لقواعد الاشتباك، بوصفه ورقة المقاومة الرابحة وكعب أخيل إسرائيل في الوقت نفسه.
بين العرب وإسرائيل مسار طويل من تبادل الأسرى عمره عمر الصراع، فقد لعبت هذه الورقة دوراً حاسماً في كف أذى الكيان الصهيوني عن آلاف الأسرى العرب، وكان اختطاف جندي هنا أو احتجاز جثة هناك كفيلاً أن يمنحهم حياةً جديدةً بعيداً عن ضيق المعتقلات.
هذه التبادلات الكثيرة كانت دائماً مختلة التوازن بين حفنة من الإسرائيليين أو أقل، وبين عدد هائل من الأسرى العرب، ما أوحى باستمرار أنّ قيمة حياة الإسرائيلي أعلى من العربي، مع أنّ ذلك كان دائماً في مصلحة المفاوض العربي.
لكن لماذا تبدو حياة الأسير الإسرائيلي باهظةً إلى حد أن يقبل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي عُرف سابقاً برفضه الشديد التفاوض حول الأسرى، مبادلة جندي في الجيش مقابل إطلاق سراح 1027 أسيراً فلسطينياً في سجون الاحتلال عام 2011؟
موجز تاريخ التبادل
خلال أربعين عاماً، أي منذ اجتياح بيروت عام 1982، أطلقت إسرائيل سراح ما يقارب 7000 أسير عربي مقابل 19 إسرائيلياً واستعادة جثث ثمانية آخرين. كانت جميع عمليات التبادل هذه بين حكومة الكيان ومنظمات المقاومة الإسلامية والقومية واليسارية.
قبل ذلك، بين النكبة وحرب 1973، جرت غالبية عمليات التبادل مع الدول، مصر وسوريا أساساً، وبعض العمليات كانت مع حركة فتح. في جميع العمليات، كان عدد الأسرى العرب يفوق الإسرائيليين بشكل كبير إلى درجة تجعلنا من الصعب أن نفهم الثمن الذي دفعته إسرائيل مقابل جندي مثل شاليط.
في كتابه بأي وسيلة ضرورية (2009) حول الحرب السرية التي تخوضها إسرائيل من أجل أسرى الحرب، يذهب الكاتب الإسرائيلي المتخصص في شؤون المخابرات رونين برغمان إلى أنّ أول من أدرك مدى حساسية الرأي العام الإسرائيلي تجاه قضية الأسرى، ومدى قوة هذا الأمر كسلاح، هو زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أحمد جبريل.
عام 1979، وافقت إسرائيل على مضض على أول تبادل غير متناسب لها مع إحدى منظمات المقاومة عندما أصرّ جبريل على إطلاق 76 من أعضاء منظمة التحرير مقابل رهينة واحدة، وهي ما عرفت آنذاك بعملية جبريل الأولى.
النجاح الأكبر الذي حققه جبريل جاء في منتصف الثمانينيات عندما طالب مقابل ثلاثة جنود إسرائيليين بإطلاق 1150 أسيراً كان بينهم كوزو أوكاموتو، العضو في «الجيش الأحمر الياباني» الذي شارك في عملية مطار اللد عام 1972 (نفذتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين).
إثر طلب جبريل حاولت إسرائيل ممارسة ضغوط مضادة عليه باختطاف نجل أخته مراد بوشناق الذي استدرجه عملاء إسرائيليون إلى بيروت، لكن جبريل رفض رفع سعر الصفقة بهدوء ليشمل ابن أخته.
يعتقد برغمان أنّ جبريل هو مصدر إلهام لمنظمات المقاومة في استغلال سلاح الأسر. أما في الجانب الإسرائيلي، فكانت مريم غروف، وهي والدة أحد أسرى جبريل الإسرائيليين واسمه يوسف غروف، نموذجاً لعائلات الأسرى. فمن دون أي خبرة في التعامل مع وسائل الإعلام، ابتكرت غروف غريزياً إستراتيجيات استخدمها أقارب أسرى الحرب الإسرائيليين والمفقودين العسكريين.
لقد أدركت تلك الأم أنّ الضغط الشعبي على الحكومة هو نتيجة لكونها عدوانية استباقية: أنت تقدم مطالب لا طلبات، وتركز على ما هو مهم لك، وليس لمصلحة البلد. وهنا يتذكر أحد الأعضاء السابقين رفيعي المستوى في الجيش الإسرائيلي قولها إنّ نصف البلاد يمكن أن يحترق طالما عاد يوسف إلى منزله آمناً.
ينقل برغمان عن إيتان هابر، وهو مراسل عسكري صار أحد كبار مساعدي إسحاق رابين، قوله: «من الصعب أن أشرح ذلك، ولكن الشخص الذي التقى بتلك المرأة فقط يمكنه أن يفهم كيف ملأت الجميع بإحساس عميق يغلي بالدم ويشل الحركة. نحن نتحدث عن ثلاثة رجال أقوياء للغاية (رابين، بيريز، شامير) لم يجدوا صعوبة في قول لا، لكنهم ببساطة لم يستطيعوا الوقوف في وجه غروف».
يضيف: «ما قلبَ الموازين لم يكن دموعها أو صراخها أو صرير أسنانها - كل ذلك أتذكره بوضوح - بل الحزمة بأكملها؛ كان هناك شيء خطير فيها يهدد بأنّ العالم يقترب من نهايته، وعدوانيتها لم تكن من هذا العالم؛ لقد كسرتهم جميعاً».
إلى حد كبير، كانت معركة غروف من أجل ابنها هي التي سمحت لجبريل بالحصول على صفقته: إطلاق 1150 فلسطينياً، وكان أحدهم الشيخ أحمد ياسين الذي كان مُقعداً على كرسي متحرك، والذي أسس في ما بعد وقاد حركة حماس.
هكذا شكّل النموذج الذي اشتغل عليه جبريل في اللعب على تناقضات الداخل الإسرائيلي واستغلال ضغط ذوي الأسرى، الوصفة الناجحة التي اعتمدها حزب الله في لبنان بعد سنوات في صفقة 2004 حين إطلاق 435 أسيراً لبنانياً وفلسطينياً مقابل جثث ثلاثة جنود إسرائيليين قُتلوا في كمين على الحدود الشمالية، بالإضافة إلى العقيد في جيش الاحتياط، إلحانان تاننباوم.
حدث ما حدث رغم تشدد أرييل شارون الذي خضع في النهاية لشروط المقاومة في لبنان في سبيل الحفاظ على حياة الأسير الإسرائيلي، وهو نفس ما فعله نتنياهو بعد سنوات حين كان يعاني من ضغوط شعبية وإعلامية قادتْها عائلة جلعاد.
المفارقة أنّ نتنياهو نفسه كان قبل عقود من أشد المعارضين لتبادل الأسرى مدفوعاً بمقتل أخيه الأكبر جونثان في عملية عنتيبي التي نفذتها مجموعة وديع حداد عام 1976، عندما كان يقود مجموعة كوماندوس إسرائيلي وجاء إلى أوغندا لتحرير ركاب طائرة الخطوط الفرنسية من اليهود.
مع ذلك، الضغط الشعبي وحسابات السياسة ليست وحدها الدافع وراء الأثمان الباهظة التي يدفعها الإسرائيليون في كل مرة يخوضون فيها عملية تبادل.
الجذور التوراتية
يشكل فداء الأسرى (ميتزفاه رباح) عاملاً تكوينياً في الروح اليهودية، وهو مرتبط بالخروج من مصر ثم السبي البابلي، إذ يجعله موسى بن ميمون، وهو واضع القانون التلمودي، على رأس أوكد الفرائض: «فداء الأسرى يسبق إعانة الفقراء وكسوتهم، وليس لديك منفعة أعظم من فداء الأسرى، لأنّ الأسير عموماً هو الجائع والعطشان والعريان». أما الحاخام يوسف كارو، فيقول في قانونه التوراتي المسمى شولشان أروش: «كل لحظة تتأخر في خلاص الأسرى فكأنك تسفك الدماء».
هذا التراث الديني تسرّب إلى سياسات الدولة العبرية منذ ولادتها، لكن عالمة الاجتماع الإسرائيلية إيفا إيلوز تفسر ذلك بكونه مرتبطاً بمفهوم الجماعة والتضامن الأقلّوي الذي يختص بإسرائيل.
لهذا كان الإسرائيليون مستعدين لعقد هذا النوع من الصفقات، فهذا التكوين الروحي صار ضمن شكل تعاقدي بين المؤسسة العسكرية الصهيونية والسكان. لقد أبرم الجيش عقداً ضمنياً مع المجتمع في المرحلة المعاصرة يرتبط جوهره بنموذج التجنيد الإلزامي المطبق في البلاد، وتتأكد ضمنياً كل عائلة لمواطن يهودي شاب يؤدي الخدمة العسكرية من الدعم الثابت من الجيش لضمان عودة أبنائها في حالة القبض عليهم سواء أكانوا على قيد الحياة أو ميتين.
لذلك وضع الجيش عام 1986 بروتوكول هانيبال الذي صار جزءاً من عقيدته والذي يجري تدريسه لكل جندي. ينص البروتوكول على أنّه إذا رأى جندي جندياً آخر يُختطف في ساحة المعركة، فعليه بذل كل ما في وسعه لضمان منع هرب الخاطفين مع أسيرهم.
على سبيل المثال، قبل الغزو البرّي لغزّة في عملية الرصاص المصبوب عام 2008، حذّر قادة الجيش قواتهم، وفق برغمان، من أنّ «حماس ستحاول اختطاف جنود»، مع تأكيد أنّ الجنود يجب أن يكونوا مستعدين لقتل أصدقائهم أو قتل أنفسهم لمنع القبض عليهم.
ذهب أحد الضباط في لواء جولاني إلى حد القول إنّ على الجندي أن يفجر قنابل يدوية لقتل نفسه في حالة إخفاق كل الخيارات الأخرى لتجنّب الأسر. لكن هذا البروتوكول ألغاه في 2016 رئيس الأركان غادي آيزنكوت، وعمل على صياغة أمر عملياتي جديد بدلاً منه لم يُكشف عن تفاصيله.
الأسر والحرية
لعب اختلال التوازن الواضح الذي رافق جميع عمليات تبادل الأسرى بين العرب وإسرائيل دائماً دوراً في تعميق التناقضات بين معارضي التفاوض مع المقاومة والمؤيدين للتبادل، فحتى التقليد الديني يحذر من تمادي استعمال «عقيدة الفداء» كي لا يستغلها الخصوم في الابتزاز.
على وقع الخلاف الذي جرى على هامش صفقة شاليط، وقبل إتمامها، تشكلت في إسرائيل عام 2008 لجنة شمغار (فداء الأسرى والمفقودين)، برئاسة رئيس المحكمة العليا الأسبق مئير شمغا الذي عيّنه وزير الأمن إيهود باراك لوضع «مبادئ لإجراء المفاوضات من أجل فداء الأسرى والمختطفين والمفقودين».
تقرر مسبقاً حينذاك أنّ اللجنة لن تنشر توصياتها إلا بعد إطلاق شاليط. وعليه، وفي 2012 بعد إطلاق سراحه، رفعت اللجنة توصياتها إلى وزير الأمن، وصُنفت استنتاجاتها أنّها «سرية للغاية» ولم يُنشر التقرير كاملاً. لكن بعض هذه التوصيات تسرّبت إلى وسائل الإعلام، وهي: «يجب أن تكون سرية المفاوضات تحت حراسة مشددة. تحرير جندي مخطوف مقابل عدد من الأسرى، وإطلاق جثة (أو أسير واحد) مقابل جثة. ويجب قطع التواصل بين أهالي الأسرى وأصحاب القرار على المستوى السياسي لتجنب الضغوط غير المبررة».
أيضاً جرى تحديد أربعة مستويات لالتزام الدولة تجاه مواطنيها بالترتيب التنازلي من حيث الأهمية: «جندي أُسر أثناء نشاط عملياتي، إسرائيلي أُسر بسبب نشاط إرهابي، مواطن عبَر الحدود بالخطأ وأُسر، المواطن الذي عبَر الحدود بعلمه وطوعه».
في المعسكر المقابل، تشكل عمليات الأسر خيط الأمل الذي يتعلق به الأسرى العرب في سجون الاحتلال للنجاة من الموت داخل الزنازين. إنّ الأمل الذي يربيه الأسير العربي في سجون الاحتلال، ويحرص على رعايته كل صباح هو نجاح عملية أسر هنا أو هناك. لذلك كانت البهجة التي عمت الشارع العربي بهجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر الكاسح والفريد، مضاعَفة في مهاجع الأسرى، كونها جلبت معها أخبار الأسرى الإسرائيليين الذين وقعوا في أيدي المقاومة واختفوا في غياهب غزّة تحت القصف، وقطعاً لن تجد إليهم إسرائيل طريقاً كما لم تجد إلى شاليط طريقاً طوال خمس سنوات أمضاها في الأسر، وأربعة آخرين منذ 2014.
بدا واضحاً منذ اللحظة الأولى أنّ واحداً من الأهداف الرئيسية للهجوم إطلاق الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال. لن تكون المحادثات المستقبلية طويلة ومؤلمة فحسب، بل من المحتمل أن تكون أيضاً جريئة.
في الماضي، تفاوضت المقاومة حول مصير آلاف الأسرى مقابل جندي واحد ونجحت في فرض كلمتها. واليوم هي بالتأكيد ستكون أقوى وكلمتها أعلى بوجود عشرات من أسرى الاحتلال.
سيعصف هذا الملف، الأكثر حساسية في الشارع الإسرائيلي، بمصير نتنياهو وحلفائه الأشد تطرفاً، وربما أكثر من ذلك بكثير.
كاتب صحافي تونسي، وباحث مهتم بالعلوم الاجتماعية، صدر له: بنادق سائحة: تونسيون في شبكات الجهاد العالمي (2016)؛ المجموعة الأمنية: الجهاز الخاص للحركة الإسلامية في تونس (2017)؛ عشر ساعات هزّت تونس.. حريق السفارة الأمريكية ونتائجه (2019)؛ التاريخ السرّي للإخوان المسلمين في تونس (بالإنجليزية 2020).