7 تشرين الأول 2024
12 تشرين الأول 2023
من ملف المعركة
مقدمة المترجم
عام 2019، أصدر مركز دادو للدراسات العسكرية، وهو مركز أبحاث يتبع هيئة أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي، منشوراً بعنوان خطة الزخم المتعددة السنوات، وهي التي أطلقها قائد الجيش أفيف كوخافي. توّجت الخطة سنوات من دعوة إستراتيجيي الجيش إلى عملية تطوير كبيرة لمواكبة التحديات الجديدة التي فرضتها حركات المقاومة في فلسطين ولبنان. أبرز هؤلاء كان العميد إران أورتال الذي كان نائباً لقائد المركز منذ 2013 قبل أن يتولى قيادته سنة 2019، وهو صاحب كتاب المعركة قبل الميدان: قصة تطوير الجيش الإسرائيلي من الداخل (2023). كتب أورتال هذه الورقة عام 2020، وهو يحدد فيها الأطر العامة لتطوير الجيش و«خطة الزخم» التي توّجت تلك العملية. حافظتُ أثناء الترجمة على تعبيراته بما تستبطنه من انحيازات صهيونية، وذلك كي تكون النسخة العربية ترجمة علمية دقيقة للوثيقة الإسرائيلية:
«ليس كافياً أن نبذل جهدنا، فأحياناً علينا أن نؤدي المطلوب مهما كان»
وينستون تشرشل
ملخص
توصل إستراتيجيو جيش الدفاع الإسرائيلي إلى رؤية أنّ التهديد الأساسي لإسرائيل ينبع من القوات «غير النظامية»، وهو مفهوم بزغ في سياق تفوّق عسكري إسرائيلي جليّ بين الجيوش التقليدية كافة لجيرانها. مذّاك، وفي المقابل، أخذت إيران تتحدى التفوّق العسكري الإسرائيلي بشكل مباشر وغير مباشر، وأخذت ترسانات الأذرع الإيرانية على الحدود الإسرائيلية تتطلب إعادة تعريف العدو بوصفه «جيوشاً» إرهابية. هكذا، تنامى التهديد الموجه ضد إسرائيل على نحو خطير، وقد تغيرت طبيعته. ولذلك، يرسم الإطار النظري لـ«المفهوم العملياتي للانتصار» لدى جيش الدفاع، وهو أساس خطة الزخم المتعددة السنوات Momentum Multiyear Plan، واقع إسرائيل الجديد، وينظِّم مقاربة محدَّثة للنصر الحاسم ضد خصوم قديرين، ويزوّدنا بمخطط نظري وعملي للمتطلبات الضرورية لتنظيم القوة.
مقدمة
خلال 2019-2020، أصدر جيش الدفاع الإسرائيلي منشورين مهمين، هما: خطة الزخم المتعددة السنوات، ووثيقة مفاهيمية: المفهوم العملياتي للانتصار. تشير كلتا الوثيقتين إلى تغيّر كبير في الطريقة التي ينظر بها جيش الدفاع إلى نفسه وخصومه في الوقت نفسه. في القلب من تلك المنشورات، يقع تصوّر جيش الدفاع في أنّ الإجراءات القائمة على ردود الفعل ليست كافية لمواجهة التحديات الجارية، وأنّ الجيش يتعيّن عليه عوضاً عن ذلك أن يجري تغييراً جذرياً.
تتشكل هذه الضرورة للتغيير من عاملَين محوريّين:
- تصوُّر جيش الدفاع الإسرائيلي الجديد للتحدي العسكري: خصوم إسرائيل هي «جيوش إرهابية موزّعة قائمة على استخدام الصواريخ» (ليست منظمات إرهابية أو تستخدم حرب العصابات فقط)، وأنّ على جيش الدفاع أن يتوصل إلى تصوّر جديد لأعدائه وأن يعيد هيكلة نفسه في ضوء هذا التصوّر، وهذا سيكون موضوع القسم الأول من هذه المقالة.
- استعداد جيش الدفاع للتغيير: إنّ وجود دافع للتغيير شرط ضروري لكنه غير كافٍ للتغيير، فالتغيير يحدث عندما نكتشف أيضاً فرصاً جديدة لم نستغلها بعد على النحو الأمثل. في حالتنا، تقع فرصنا في التطورات الحديثة للثورة الرقمية المعروفة أيضاً بـ«الثورة الصناعية الرابعة».
يقوم المفهوم العملياتي الجديد لجيش الدفاع و«خطة الزخم» على إطار نظري مؤسَّس على هذين العاملين.
ظهور جيوش الإرهاب القائمة على الصواريخ
شكّلت التسعينيات والعقد الأول من الألفية الجديدة رؤية جيش الدفاع الإسرائيلي والطريقة التي يتصوّر بها واقعه منذ ذلك الوقت، فقد مثّل هذان العقدان في التاريخ العسكري لحظة نادرة إلى حد ما في السيطرة شبه الكلية للجيوش الغربية المتقدمة. برز هذا التفوّق العسكري أساساً في القوة الجوية التي راح يتبدّى على نحو متزايد أنّها قادرة وحدها على الانتصار في الحروب منذ ذلك الوقت، من دون أيّ خطر فعلي على القوات البرية أو على البلد نفسه.
كان لدى أعداء إسرائيل سبب جليّ ليأخذوا تفوّقها الجوي مأخذ الجد، فتفكُّك الاتحاد السوفياتي علّق تطوّر القوة الجوية السورية وصواريخ الدفاع الجوي لديها أكثر من عقد. وكانت ذكرى هزيمة القوات الجوية السورية وتدمير منصات صواريخ أرض-جو الخاصة بها على يد القوات الجوية الإسرائيلية في حرب لبنان الأولى سنة 1982، لا تزال حيّة في عقول الجنرالات السوريين، عندما شهدوا من قرب الاستعراض الأخّاذ للقوة الجوية الأميركية في حرب الخليج سنة 1991.
بينما احتفى منظّرون عسكريون بارزون في الغرب وإسرائيل بالنصر التاريخي البادي للقوة الجوية في نزاع كوسوفو سنة 1999، كان الجانب الآخر قد قرّر بالفعل العناصر الأساسية في استجابته للقوة الجوية الغربية: التمويه، والانتقال من حرب المدرعات إلى قوات المشاة الخفيفة التي لا تترك وراءها أثراً[1]، وحرب الأتباع، والنيران البعيدة المدى بوصفها أداة إستراتيجية وتكتيكية أساسية. دعا باحثا جيش الدفاع الإسرائيلي كارميت فالنسي وإيتاي برون هذا التطوّر «الثورة الأخرى في الشؤون العسكرية». تعود جذور هذه الثورة إلى ظروف متنوّعة: ضعف دول الشرق الأوسط، والثورة الإسلامية في إيران، وتفكك الاتحاد السوفياتي، وبالطبع الطفرات في تكنولوجيا المعلومات والشؤون العسكرية (المعروفة اصطلاحاً بـثورة الشؤون العسكرية RMA في التسعينيات). قاد ذلك كله إلى الهيمنة الكاملة للجيوش الغربية وجيش الدفاع الإسرائيلي.
دعا جيش الدفاع الإسرائيلي أعداءه الذين ظهروا في التسعينيات ومطلع الألفية «غير نظاميين»، وركّز على دونيتهم العسكرية. (حين) وجد نفسه في جنوب لبنان وغزّة والضفة الغربية يقاتل قوى كانت بالفعل أدنى منه عسكرياً، كان التحدي الأساسي كما رآه في ذلك الوقت هو في الحدود التي فرضها على نفسه، وليس في إمكانات العدو.
مع ذلك، أشارت علامات مقلقة إلى تآكل التفوّق الجوي الإسرائيلي منذ وقت مبكر جداً في التسعينيات، فحملات جيش الدفاع كافة خلال ذلك العقد في لبنان وغزّة اتصفت بأوقات ممتدة من القتال وبكلفة مرتفعة وضربات متزايدة في الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وهو تهديد بقي ذا أهمية حتى بعد تأسيس نظام القبة الحديدية في عملية «عمود السحاب» ضد «حماس» سنة 2012.
نُسبت النتائج المخيبة لهذه الحملات عادةً إلى التحديات المألوفة لحروب مكافحة التمرّد وحرب العصابات. وأسهَم قتال جيش الدفاع الإسرائيلي الناجح ضد الإرهاب في الضفة الغربية في مطلع الألفية في الإخفاق في التمييز بين الظاهرة الناشئة عبر الحدود في لبنان (لاحقاً في غزّة)، وبين التحديات التي يمثّلها الخصوم غير النظاميين. وتسبّب التباين الجلي بين التفوّق الكامل لجيش الدفاع الإسرائيلي وبين النتائج المحدودة للحملات على «حماس» و«حزب الله» في إحباط بين صناع القرار والرأي العام.
في هذا الصدد إنّ المفهوم العملياتي للانتصار ومصطلح «جيوش إرهابية قائمة على الصواريخ» هي نقاط إرشادية مهمة في التصوّر الإسرائيلي للتحدي. لم يعد جيش الدفاع الإسرائيلي يتحدث عن «حرب غير متكافئة» على «قوى أدنى» تحدد فيها إسرائيل لنفسها حدودها الأساسية في استعمال القوة. وهو لم يعد يرى «حزب الله» و«حماس» بصفتيهما تحديات تعود جذورها إلى «التمرّد» و«حرب العصابات»، وإنّما يصوّر المفهوم العملياتي الجديد لجيش الدفاع العدو بوصفه خصماً شبكياً متقدماً نفذ إلى سرّ القوة العسكرية الإسرائيلية، ويطرح على إسرائيل تحدياً عملياتياً يخدم إستراتيجية العدو. إنّها جيوش منظمة وجيّدة التدريب ومجهزة جيداً لمهماتها، مع أفكار عملياتية جلية وتكتيكات تدعم كلها إستراتيجية وأيديولوجية واضحتين وخطيرتين.
فضلاً عن ذلك تعبّر منشورات جيش الدفاع الجديدة عن فهم لكون نسق عمليات الردع نمطاً عقدياً وإستراتيجياً طريقه مسدود. فمثل تلك العمليات لم تكن تتوخى انتصارات حاسمة، وإنّما تؤدي إلى تطعيم العدو ضد قوة جيش الدفاع فحسب، عبر تعريضه تدريجاً جرعات محدودة من قدراتنا، وهي كانت تفيد العدو بأنّ تصوّره العسكري فعّال وعليه أن يواصل تطويره. يقبل المفهوم العملياتي الذي يقع في القلب من «خطة الزخم» هذه الحجة بجدية. لا تزال العمليات المحدودة بديلاً متوفراً لصناع القرار لكن الاختبار الأساسي لقوة إسرائيل العسكرية هو النصر الحاسم. يتضمن ذلك القدرة ليس على هزيمة جيش إرهابي كـ«حزب الله» وإنما أيضاً على تحقيق هذا الانتصار بسرعة نسبياً، وبكلفة مقبولة لقواتنا وجبهتنا الداخلية، وبطريقة غير قابلة للدحض.
المنابع الأساسية المتميزة للتهديد العسكري ضد إسرائيل
يمكن تحديد «منظومة» العدو بمنطقه الإستراتيجي، وتجلياته التكتيكية العملية، والفكرة العملياتية التي تربط بينهما. على المستوى الإستراتيجي، توجّه إيران منظومة العدو التي تسعى إلى تجريد إسرائيل من موقعها الإقليمي. هذا التهديد سيكثّف تدريجاً التحديات الأمنية الإسرائيلية عبر الردع، وهو يقوم على قواعد نيرانية مؤسَّسة حول حدود إسرائيل (في هذه المرحلة لبنان وغزّة). على المستوى العملياتي، تعتمد هذه القواعد النيرانية على مبدأين متكاملين: حماية النفس في بيئات معقدة وضربات كثيفة. على المستوى التكتيكي، يتحقق هذا الشكل العملياتي بفضل تكتيكات مألوفة، مثل الكمائن والهجمات الخاطفة الأخرى بفضل القدرة على توجيه ضربات فعالة من بعد. بعبارة أخرى: هذه قدرات لا-مدخل/نافية-للمساحة (anti-access/area-denial A2/AD) متناسبة تكتيكياً (قدرات عسكرية مصممة لإعاقة أو تأخير انتشار الجانب الآخر على مسرح محدد أو منع فعاليته العملياتية على ذلك المسرح).
تقدِّم الهجمات المستمرة في السنوات الأخيرة من الأذرع الإيرانية و/أو قوات «الحرس الثوري الإسلامي» على أهداف سعودية وإماراتية أنموذجاً للعمل يمكن تحويله ضد إسرائيل. بطريقة مماثلة، وتحت غطاء الردع الذي يمكن للقواعد النيرانية على طول حدود إسرائيل أن تخلقه، تحاول إيران تحصين قبضتها في المناطق المتاخمة لإسرائيل. بالتوازي، هي تعمل من أجل قدرات نووية ستصبح في نظرها الرادع المثالي، وستسمح لها بمزيد من حرية الحركة لتقويض النظام الإقليمي.
ماذا يمكننا أن نتعلم من الطبيعة المتغيّرة للتهديد الذي تواجهه إسرائيل؟ تمكن رؤية التاريخ العسكري الحديث كموجات متعاقبة من هيمنة الهجوم والدفاع، والمناورة والنيران. ألغت ثورة النيران-الدقيقة في الثمانينيات والتسعينيات الحاجة إلى جيوش تقليدية غير غربية في ميدان المعركة. وقد انتقل تكيّف الخصم مع هذا الواقع من تخفيض التعرّض للقوة الجوية في التسعينيات والعقد الأول من الألفية إلى مرحلة جديدة من الحصول على إمكانات لضربات-دقيقة خاصة به. يستطيع عدو إسرائيل الآن أن يضرب من مسافة آمنة نسبية، خلف المدى الذي يمكن لإسرائيل – الهدف – أن ترد عليه، وهكذا يهدد حرية حركة جيش الدفاع في ميدان المعركة. تسبب النيران الفعالة أضراراً، ولذلك هي تفيد كرادع. تسمح هذه الإمكانية للخصوم بتنفيذ إستراتيجية تمرّدية تصاعدية تقوّض النظام القائم وتوازن القوى في المنطقة.
التحدي الذي تواجهه إسرائيل هو تجلٍّ معيّن لظاهرة عسكرية عالمية – مركّبات قائمة على تكتيكات لا-مدخل/نافية-للمساحة وتكتيك دفاع-ضرب. هذه تطوّرات عالمية ونتاج الحقبة العسكرية المعاصرة التي جوهرها هيمنة النيران على المناورة. صكّ الباحث في جيش الدفاع الإسرائيلي دفير بيليج عبارة «مركّب دفاع-ضرب» لوصف ظاهرة القوى الإقليمية (روسيا والصين) التي تستغل تكنولوجيا النيران النائية stand-off بغرض إلحاق أضرار بالغة بالولايات المتحدة في حال اختارت أن تتدخل في أزمات إقليمية.
إنّ الروس والصينيين ليسوا «غير نظاميين»، بل هم في المقابل «منافسون شبه-مناظرين» في أعين الأميركيين. إذا قررت الولايات المتحدة أن تحمي مصالحها وتفي بتعهداتها لحلفائها المهددين من روسيا أو الصين، فإنّها ستواجه تهديداً حقيقياً لطائراتها وسفنها وقواعدها الإقليمية. سيعني تصعيد واسع أيضاً إلى حد أنّ الولايات المتحدة نفسها ستكون مهدّدة بصواريخ باليستية، وهو تهديد يتضمن أسلحة نووية في مداه الأقصى. تحت غطاء هذا التهديد تنفّذ روسيا والصين حملة إخضاع تدريجية تقوم على حرب المنطقة الرمادية: خطوات ضئيلة تحت مستوى الحرب يزيد أثرها تدريجياً.
فرص التغيير
في الماضي، عرف جيش الدفاع الإسرائيلي كيف يستفيد من الإنجازات التكنولوجية في سبيل تطوير مفاهيم رائدة. فقد أجبرت ثورة النيران-الدقيقة، كما سبق أن ذكرنا، الجيش السوري على أن ينتقل من إستراتيجية التكافؤ الإستراتيجي في الميدان والجو إلى مفهوم المواجهة المحدودة مع إسرائيل، الذي يقوم بكثافة على القوى التابعة. إذا كنا قد حددنا بالفعل الاتجاهات الأساسية للتغيير المطلوب لمواجهة أعدائنا، فكيف يمكن للإمكانات التكنولوجية المطوّرة في العقد الأخير، ضمن جزء مما يسمّى الثورة الصناعية الرابعة، أن تتيح لنا إنجاز اختراق جديد نحتاجه بشدة؟
تمكننا الأتمتة والمعالجة المتقدّمة للمعلومات من خلق مركّبات تجمع استشعار ميدان المعركة ومعالجة البيانات وتوجيه ضربات سريعة – شكل من العمل العسكري الاستطلاعي – وذلك في جزء من القوّة المناوِرة. ولأنّها مغايرة للعناصر الأساسية للمعلومات الاستخبارية المجموعة والمعالَجة، التي تعمل في انفصال عن القوّة المناوِرة، سيتأسس مركّب الاستطلاع التكتيكي على مَركَبات جوية من دون طيار مشبَّكة مع رادارات تتلقى الآثار المنبعثة من العدو خلال الاشتباك وتفك شفرتها. هكذا يمكن للبيانات المربَّطة ومعالجة المعلومات المقدمة أن تخترق السقف الزجاجي الحالي مؤسِّسةً لنتائج أكثر فعالية من منظومة الاستخبارات/هجمات القوة الجوية، وربما تتيح معلومات أكثر تجري معالجتها بسرعة أكبر، ما يسمح بالتبعية بالهجوم على أهداف أكثر بسرعة ودقة أكبر.
تتكامل «خطة الزخم» مع الإطار المفاهيمي الذي يسمح بمجموعة أوضح من الأولويات العملية في واقع يفتقر إلى الموارد. يتعيّن على الإطار النظري أن يجيب عن ثلاثة أسئلة رئيسية:
- ما الفكرة التأسيسية التي تسمح باستغلال أفضل للقوة العسكرية؟
- كيف نصلح الساعة وهي لا تزال تدق؟ أو بعبارة أخرى: كيف نغيّر القوّة دون إحلالها بكلفة باهظة ونحن نبقي ونحسن جاهزيتها للتحديات القائمة بالفعل؟
- ما الذي يتوخى كل هذا تحقيقه؟ بعبارة أخرى: ما الهدف العملياتي من تصميم القوة في «الزخم»؟
يجيب المفهوم العملياتي للانتصار لدى جيش الدفاع الإسرائيلي عن هذه الأسئلة عبر ثلاثة مبادئ أساسية:
المبدأ الأول: تعدد المجالات
إنّ فكرة تعدد المجالات multidomain ينبغي أن تُفهم كخاصية جديدة للاشتباك-التآزر بين الجو والبر والاستخبارات والأبعاد الإلكترومغناطيسية والسايبرية والأبعاد الأخرى، ولم تكن ممكنة قط من قبل في آليات القيادة-و-التحكم التقليدية.
تأتي فكرة تعدد المجالات من تبصُّرَين اثنين:
الأول أنّ المشكلات المركّبة تتطلب حلولاً مركّبة. يطرح أعداء إسرائيل مشكلة مركّبة تتضمن بيئة اشتباك مكتظة ومغلقة: التخفي، الانتشار، إمكانات الضرب المتنوعة، الفِخاخ النفسية والقانونية. يمدّ مبدأ تعدد المجالات قدرات المناورة العسكرية من الحقول الجغرافية كالأرض والجو والبحر بأبعاد أخرى كالسايبرية والطيف الإلكترومغناطيسي والمعلومات وتحت-الأرضي، ويزودنا بحقل جديد هو فرصة لطرح معضلة على العدو.
الثاني أنّنا نعيش في عصر التآزر، ليس طبيعة خصمنا ما يتطلب ذلك فقط، وإنّما العصر الذي نحيا فيه أيضاً يتطلب التعاضد الذي لم يكن ممكناً من قبل. يتيح لنا عصر التآزر اليوم بناء قوات تستخدم عناصر سايبرية وحرباً إلكترونية وجوية ومستشعرات ومعالجة بيانات وضربات على المستوى التكتيكي، ولا تحل هذه الوسائل محل الخدمات المؤسسية والمهنية التي تزودنا بها القدرات الجوية والاستخبارية والاتصالات والسايبرية عالية التقدم.
إنّ مبدأ تعدد المجالات على المستوى التكتيكي بسيط. كلما طورنا إمكاناتنا العملياتية العضوية المستقلة التي تعمل بالتزامن في مختلف المجالات تحت إطار قيادة واحد ونحو مهمة محددة واحدة، كسبنا مساحة لمناورة خصومنا وإرباكهم، في وقت تتضاءل قدرتهم على التكيّف بفعالية. هذا هو المبدأ الموجّه لتطوير إمكاناتنا في خطة الزخم المتعددة السنوات.
المبدأ الثاني: استجابات «ذكية»
غالباً ما يُنظر إلى مصطلح «التحوّل» كأنّه فانتازيا مثالية بالنسبة إلى قوة عسكرية حديثة بديعة تستهلك استثماراً هائلاً في الوقت والموارد لبنائها. بالفعل غالباً ما يُطرح سؤال: كيف يمكن لمنظمة عسكرية أن تتغيّر بكلفة مقبولة وفي إطار زمني معقول وهي تبقي جاهزيتها للحرب؟
المبدأ الذي يحل هذا التوتر هو فكرة «البدلة الذكية». يمكن شرح الفكرة باستعارة «المدينة الذكية». المدينة موجودة بالفعل: طرق ممهدة، خدمات بلدية، أماكن للأعمال، مجمعات سكنية، إشارات مرور، مؤسسات رياضية وثقافية... وبالطبع مقيمون هنالك بالفعل. كي تؤسس مدينة «ذكية» أكثر فعالية وتستخدم طاقة أقل وأنت تقدم خدمات أفضل، وتوظف شرطة أقل وأنت تقدم أمناً أكثر، فضلاً عن أن تكون أسهل عبوراً وأقل ازدحاماً، فإنّ مزيداً من الاستثمار في البنية التحتية التقليدية ليس ضرورياً. في المقابل طبقة جديدة هي المطلوب: شبكة اتصالات واستشعار مبنية على أساس البنية التحتية الموجودة، تجمع وتعالج المعلومات بغرض تقديم تبصّرات حول كيفية استغلال الموارد الموجودة على الوجه الأمثل، ورقمنة عمليات الإنتاج بما في ذلك الزراعة والطب والصناعة. هذا مثال آخر على إضافة طبقة من المستشعرات ومعالجة البيانات على رأس البنية التحتية القائمة.
عبر ارتداء «بدلة ذكية»، تستطيع القوة العسكرية الإسرائيلية القائمة أن تتكيف مع تحدي الأعداء المخفيّين الذين يستخدمون النيران النائية دون الإضرار بالجاهزية الفورية للحرب ودون ميزانيات مستحيلة. بمعايير عملية، يعني هذا استطلاعاً قائماً على الشاشات المثبتة على أسراب من الطائرات من دون طيار التي تنتمي إلى القوات التكتيكية، وتعاضد الاستخبارات والوسائل الاستشعارية، وكلها متصلة بقواعد بيانات مترابطة وأنظمة استخراج معلومات فعالة. سيتيح لنا هذا أن نحدد موقع العدو بدقة وسرعة كبرى. تأسيس هذه المنطقة ليس رخيصاً لكن «البدلة الذكية» تتيح لنا أن نقيم حلنا على القوة القائمة ونحن نلبسها بعناصر تحديثية عملية ومحتملَة مادياً.
المبدأ الثالث: تحييد قدرات العدو
في الماضي، هزم جيش الدفاع الإسرائيلي الجيوش العربية باستخدام المناورات في أرض العدو للتهديد بالحصار وإحداث انهيار في صفوفهم. هذه هي الطريقة التي أحدث بها انهيار الجيش المصري في صحاري النقب وسيناء في الحروب الأربعة الكبرى من 1948 إلى 1973، مجبراً الجيش الأردني على الانسحاب من الضفة الغربية، والجيش السوري من مرتفعات الجولان في 1967. في المقابل، وفي مواجهة جيوش إرهابية قائمة على النيران النائية، ليس من المرجح في المستقبل أن يحقق الصراع على انتزاع الأراضي والتهديد بالتطويق نتائج مشابهة. فالأرض عنصر مهم في نظام العدو لكنها لم تعد الغاية النهائية للمنظومة. يقاتل العدو الجديد ليبقي نيرانه مستمرة على الأراضي الإسرائيلية. ولأنّ الجيش الإسرائيلي لا يستطيع أن يوقف الهجوم النيراني بالاستخبارات/النيران النائية فحسب، يكون الهدف الأساسي من «خطة الزخم» تصميم قوة تستطيع أن تحيّد قدرات العدو القتالية وعلى رأسها أولاً القدرات النيرانية.
الخلاصة: إنّ عنصرين أساسيين للاستجابة للتهديد بمركّب الدفاع-الضرب عند العدو يجري تطويرهما باستخدام الإمكانات التكنولوجية للثورة الصناعية الرابعة:
- قدرة أدق وأسرع على تحديد موقع قوات العدو، وهذا يمكن تحقيقه في الأساس بالاتصال التكتيكي الذي يجبر المدافع على تحركات تخلف آثاراً. تحديد موقع العدو وضرب مخابئه سابقة التجهيز أو وهو يتحرك بينها سوف يحيّد قدرته على تشغيل منظومته.
- إحباط النيران: الغاية التكتيكية من تحركات العدو هو تمكين النيران ضد الجبهة الداخلية المدنية الإسرائيلية وضد قوات جيش الدفاع المناوِرة. إطلاق العدو للنيران هو الوقت الوحيد الذي يكشف فيه عن نفسه بطريقة واضحة. لذلك لحظة النيران هي نقطة الضعف الأساسية للخصم الذي تكمن قوته في الخفاء. يتعين أن تصير هذه اللحظة مكوناً محورياً في جهود تحديد موقع العدو، فتدمير مصادر النيران في هذه النافذة الزمنية سيحيّد الإمكانات القتالية للخصوم الذين يستخدمون النيران النائية.
الاستنتاج
يأتي المفهوم العملياتي الجديد في الأساس من تصوّر جديد لطبيعة التهديدات التي تواجه دولة إسرائيل والفرص التي تستدعي من جيش الدفاع أن يتغيّر. في القلب من المفهوم العملياتي المحدَّث لجيش الدفاع الإسرائيلي و«خطة الزخم» مفهوم التغيير، والتحدي الذي تواجهه «خطة الزخم» أن تطابِق بين قوة الجيش القائمة والتهديد الآخذ في التطوّر، وأن تمكّن إسرائيل من أن تتجه إلى الهجوم، وأن تعود إلى الحروب القصيرة، والانتصار الحاسم، وإزالة التهديد العسكري الرئيسي لها، وهو إطلاق الصواريخ. تحييد التهديد بإطلاق الصواريخ سيعطي إسرائيل حرية حركة إستراتيجية مهمة، وسيحبط جهود الخصم لإعادة بناء قدراته بعد الحرب. تهدف «خطة الزخم» إلى التعاطي مع هذا التهديد عبر استغلال الإمكانات التكنولوجية الناشئة في سبيل جعل الجيش الإسرائيلي آلة حرب «ذكية».
[1] بينما لا يمكن إخفاء المدرعات والمعدات الثقيلة، يمكن لقوات المشاة الخفيفة أن توجه ضربات وتنسحب إلى مكامنها دون إمكانية تقفي آثارها لضرب تلك المكامن.
كاتب مصري مختص بالفلسفة السياسية.