7 تشرين الأول 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

كأنّ الريح تحته، درويش في المنفى التونسي

أحمد نظيف

4 تشرين الأول 2023

من ملف ثالث المنافي، الوجود الفلسطيني في تونس (1974-1994)
سيُمضي وقتاً طويلاً في عاصمته العربية الجديدة إنّما دون المكوث فيها (Prompthunt)

شتاؤنا يدنو من الأبواب. كنا شباباً خلف جدران السجن. لكن لم تكن قسوة الواقع على شدتها أقسى من رؤية شاعرك المفضل يتلقى الأوسمة والجوائز ضاحكاً من الرجل الذي يسلب حياتك سلباً.

بدَت في ذلك اليوم سماء بلدة المرناقية حيث السجن غربي تونس العاصمة صافيةً إلا من سحابة عابرة لا ريب. أما الجو في داخل المهجع المستطيل، فظلّ بالنسبة إليّ على حاله مزدحماً بالبشر والروائح والدخان إلى أن هتف جاب الله.

أذكره الفتى القيرواني السجين يلوّح من بعيد: «جاءت الجريدة». أقفز من سرير الطابق العلوي بخفةٍ نحو البوابة الحديدية الغليظة وألتقطها. الجريدة في السجن كالحجر الكريم الذي ينزل إلى الأرض من كواكب أخرى. حروفها وملمسها الناعم وعناوينها السميكة والرقيقة تبعث في النفس فرحاً ينبع من عمق غائر لا يكتشفه المرء إلا بين جدران المهجع الملوّث بالأسى.

بؤسٌ، أليس كذلك؟ فأنت ملزم(ة) أن تقرأ صحف الحزب الحاكم الذي يحبسك. لكنّ المفارقة أنّ هذه الصحيفة اسمها الحرية وستتلهف كل صباح لمطالعتها من أوّلها إلى آخر حرف فيها، دون أن تفلت منك حتى الإعلانات التافهة وعروض العمل وقصاصات التسويق للسحرة والعرّافين.

نعم «الحرية». إنّما الحق يقال كان ملحقها الثقافي الذي يشرف على تحريره حينذاك الشاعر عبد السلام لصيلّع محترماً قياساً بما يوجد اليوم في زمن اختفت فيه الملاحق الثقافية.

 

أنت ملزم(ة) بقراءة صحف الحزب الحاكم الذي يحبسك (Getty)

 

مذهولاً رأيت على صدر الملحق صورة محمود درويش وقد كُتب تحتها أنّ «السيّد الرئيس» زين العابدين بن علي قرّر منحه «جائزة السابع من نوفمبر للإبداع»، قبل أن يصلنا النبأ بالصوت والصورة في أخبار الساعة الثامنة من مساء ذلك اليوم من كانون الأول/ديسمبر 2007.

«درويش طلَعْ طَحّان (عرصة) كبير»، يهمس رفيقي كريم فيما انسحبتُ أنا إلى سريري العلوي، أستعيد ذلك المقطع الخلّاب من مديح الظل العالي:

 

لا بَرَّ إلّا ساعداكْ

لا بحرَ إلّا الغامضُ الكحليُّ فيكْ

فتقمَّصِ الأشياء خطوتَك الحراما

واسحبْ ظلالكَ عن بلاطِ الحاكمِ العربيِّ حتى لا يُعَلِّقها

وساماً

 

«مرحلة مفاوضات»

قصة طويلة بين درويش وتونس... بدأت في خريف 1982، ولم تنتهِ بوفاته. يمكن أن نفهم بها، أو نتفهم موقفه من النظام السياسي التونسي، وهو موقف يكاد يكون مشتركاً بين قطاع واسع من الفلسطينيين الذين عاشوا في هذا البلد.

فتونس ليست أرض أحلام التحرير والعودة كما كانت بيروت، ولا ملعب الحرية المطلقة وهانوي العرب. إنّما موطن مؤقت فرضته الضرورة، ووجب التعامل معه ومع حكامه بحذر وفطنة، خاصة بعد تجارب تورّط قاسية في الأردن نهاية الستينيات وفي لبنان السبعينيات، حيث أمعنت الثورة الفلسطينية في الغرق في مستنقعات الصراعات المحلية وفي بيئات اجتماعية وسياسية معارضة لنظامي الدولتين المضيفتين.

ففي الأردن، كان مشروع الثورة يتطلع إلى إسقاط النظام بغية تحويل ضفة النهر الشرقية إلى قاعدة خلفية لحرب التحرير الوطنية. وفي لبنان، كانت الثورة نصيراً لفصيل مقهور طبقياً وسياسياً، في وجه آخر مهيمن. كان المثقف الفلسطيني في هذه الجغرافيا السياسية، ذا نزعة تدخلية لمؤازرة المثقف اللبناني أو الأردني المعارض، إلى أبعد حد. كذلك كانت الفصائل، إذ شكّلت ساحة تدريب ودعم لتشكيلات المعارضة المحلية.

وفّرت تونس مكاناً للثورة الفلسطينية تأوي إليه بعد الخروج من بيروت صيف 1982، لكن في مقابل ألّا تكرر تجارب الماضي. وبالفعل، كانت صدمة حصار بيروت وإرهاصات الشتات الجديد في الثمانينيات قد أوجدا حالةً من رُهاب التدخل لدى القيادة الفلسطينية. ثمة عصاة تضامنوا مع قضايا المعارضة في تونس، ولا سيما من مثقفي اليسار، إنّما سيرسّخ ياسر عرفات سلوكاً غير تدخلي على قطاع واسع من المثقفين الفلسطينيين الذين كان محمود درويش من بينهم، بل من أهم رموزهم.

رغم أنّ ثمة في ذلك شيء ما من شخصيته البيروتية. فينقل مثلاً الكاتب والصحافي الفلسطيني زياد عبد الفتاح في شهادته عن صديقه وذكرياتهما في كتاب صاقل الماس: «كنت أنا ومحمود موجودين في الفاكهاني القريب من مخيم شاتيلا، فسألته أن نخرج معاً بصفتنا أصدقاء، فقال: لا. أنا لا أخرج، أنت رجل مقاتل تخرج، أما أنا، فرجل شاعر واللبنانيون بيرحبوا فيني وبيحبوني».

 

غدت تونس للمثقف والقيادة الفلسطينيين النظام بدرجة أولى (Getty)

 

لكنّ معادلة تجنّب التدخل في الشأن الداخلي التونسي جعلت من تونس بالنسبة إلى المثقف والقيادة الفلسطينيين هي النظام بدرجة أولى، ثم الشعب بدرجة ثانية. وبينما كان الفلسطينيون يحزمون حقائب العودة إلى جزء من الوطن سنة 1994، سيصف درويش مرور الثورة بتونس بأنّه «مرور سالم».

ثم يكمل موضحاً في سياق المقابلة التي أجراها معه الصحافي اللبناني غسان شربل: «نسبياً وقياساً على الخسائر التي خسرها الفلسطينيون في أماكن أخرى والأخطاء التي ارتكبوها هناك. كانت تونس نسبياً محطة أهدأ من غيرها. المحطة التونسية ستودع المسافرين الفلسطينيين، المسافرين إلى وطن، إلى حكم ذاتي، إلى سلطة محدودة. هذا موضوع قيد النقاش».

يضيف: «الواضح أنّ الفلسطينيين أنهوا، أو على وشك إنهاء زيارتهم الطويلة في تونس. وهناك مفارقة في هذه النهاية، فهي مختلفة عن سائر الرحلات الفلسطينية. من المعروف أنّ الفلسطينيين طردوا من وطنهم عام 1948، وطردوا من كل الأماكن التي أداروا فيها حياتهم السياسية والإدارية وأنشؤوا فيها مؤسساتهم، لكنّهم يخرجون من تونس في وداع رسمي وشعبي وبتبادل مشاعر عميقة».

«لذلك - يتابع - إنّ ذكرى الخروج الفلسطيني من تونس ستكون ذكرى مؤلمة للفلسطينيين. مؤلمة ومؤثرة. المحطة التونسية شهدت تحوّلاً نوعياً في العمل الوطني الفلسطيني، وفي العمل السياسي خاصة، لأنّها مرحلة التعامل السلمي مع ملف القضية الفلسطينية. لم تكن مرحلة الصراع العنيف كالسابق، ولم تكن مرحلة حربية؛ كانت مرحلة مفاوضات أسفرت عن اتفاق أوسلو والسلام التلفزيوني الذي يجب أن نميّز بينه وبين السلام الحقيقي المرتبط بحل القضايا الحقيقية للفلسطينيين»[1].

 

«رمانا البحرُ في قرطاج»

كان محمود درويش يحمل مكانة استثنائية لبيروت حين جاء تونس في ذلك الخريف، عبر الشام للالتحاق بمنظمة التحرير.

«بيروت تحوّلت من مدينة عادية إلى معبد للمعاني؛ كل شبر في بيروت مقدّس الآن. بيروت هي مريم المجدلية الجديدة. كل تفاصيل بيروت ومعانيها السابقة لها قداسة لم تتمتع بها مدينة من قبل. وبيروت أيضاً تطهّرت ولم تعد عاصمةً لأنّ مفهوم العاصمة، خاصة العواصم العربية، كان دوماً سلبياً. عواصمنا تعني دوماً الهزائم. بيروت استثنت نفسها وخرجت من لقبها السابق حين كانت تسلي الأثرياء. بيروت تفوقت حتى على دمعها»[2]، كما سيقول في مقابلة طويلة مع الكاتب والجامعي اللبناني شربل داغر أياماً قليلة بعد خروجه منها.

وكان درويش قد رفض مغادرة العاصمة اللبنانية إبّان خروج الثورة الفلسطينية إلى منفاها الجديد. اعتقد أنّ الجيش الإسرائيلي سينسحب بمجرّد خروجهم وأنّ رأسه لن يكون مطلوباً كونه شاعراً ومثقفاً. لكن تحليل العقل خانه.

«لماذا لم أخرج من بيروت؟ أجيب بأنني أخطأت. لأنني ظننت أنّ الدم قد روى غليل غرائز حيوانية كانت محتاجة إلى هذا السفك كي تؤسس هويتها، وإلى درجة كافيةٍ لإبقاء هامش من التعايش بين ما تبقى من علامات الحياة (...) نعم، لقد خُدِعت بتحليل العقل وبمجاملة الضمير، ولم تكن مماطلتي في الخروج – لم يكن بقائي سوى مماطلة – تعالياً على الاعتراف بالواقع الجديد»[3]، وذلك في مقابلة مع الصحافي الأردني صالح قلاب أسابيعَ بعد خروجه منها.

هو في الواقع أحسَّ بالعبء فقرر الرحيل. يقول زياد عبد الفتاح: «ظلّ يسكن في بيروت قريباً من الجامعة الأميركية بعين المريسة، في الطابق الثامن (... لكن) خلينا نحكي بصراحة أنّ بيروت محتلة... مش كل واحد بيغامر ويحط محمود عنده في بيته. نعم، هو فلسطيني، أحسَّ بالعبء، فقرر الرحيل»[4].

سيكشف لاحقاً في مقابلة مع باتريس بارا في Le Monde الفرنسية أنّه رحل بعدما شاعت أخبار أنّ الجيش الإسرائيلي يبحث عنه بالاسم بعد مجازر صبرا وشاتيلا. فكان خروجه نحو دمشق سرياً، بمساعدة ضابط في الجيش اللبناني[5]، فيما سيُعرف لاحقاً أنّ الأمر حدث بمساعدة من السفير الليبي. لكن خلافاً لقطاع من المثقفين الفلسطينيين لم يقطن العاصمة السورية خاصة أنّ ارتباطه بياسر عرفات الذي كان على خصومة شديدة مع حافظ الأسد يحول دون ذلك.

فكانت تونس.

 

 

بدت تونس منذ بلغها شاعر الثورة مجرّد مكان مؤقت له للتفكير في مستقبليه السياسي والشعري. سيكتب هناك، في فندق سلوى في ضاحية حمّام الشط حيث حطّت الثورة رحلها، أولى قصائده بعد حصار بيروت لتنشر ضمن مجموعة هي أغنية... هي أغنية بعنوان نزل على البحر:

 

نزْلٌ على بحرٍ: زيارتُنا قصيرهْ

وحديثُنا نُقَطٌ من الماضي المهشم منذ ساعهْ

من أيِّ أبيض يبدأ التكوينُ؟

ونريد أن نحيا قليلاً كي نعود لأيِّ شيء

لم نأتِ كي نأتي...

رمانا البحرُ في قرطاجَ أصدافاً ونجمهْ

من يذكر الكلمات حين توَهَّجتْ وطناً

لمن لا بابَ لَهْ؟

 

سيُمضي وقتاً طويلاً في عاصمته العربية الجديدة إنّما دون المكوث فيها. قد يأتيها كل أسبوع من باريس لحضور اجتماعات منظمة التحرير ولقاء رفاقه وأصدقائه، أو من أجل اجتماع عاجل يطلبه أبو عمّار دون موعد سابق. كانت حقيبته الجلدية البنية، كما يعرفها أصدقاؤه كلهم، جاهزةً في كل لحظة للذهاب معه إلى مطار أورلي نحو تونس، ومن مطار قرطاج نحو باريس.

 

من ذاكرة (ليست) للنسيان

هكذا سيعيش طوال ما بقي من الثمانينيات والنصف الأول من التسعينيات في دورة من الرحلات المكوكية ضمن مثلث تونس وباريس وجزيرة قبرص التي سيتفق مع أبي عمّار على إعادة إصدار مجلة الكرمل منها.

كانت أحلامه السياسية تتبدد حلماً بعد آخر لتهبط من برجها الشاهق إلى الواقع الكارثي. لكنّ مجده الشعري كان يتشكل مخترقاً عالمه الإقليمي الضيّق نحو العالم الواسع واللغات المختلفة. تحوّلت باريس إلى ملاذه الهادئ للكتابة. فهناك في شقته المطلة على ساحة الولايات المتحدة، في الدائرة السادسة عشرة، سيكتب دواوينه الشهيرة:

ورد أقل، هي أغنية، لماذا تركت الحصان وحيداً، أرى ما أريد، أحد عشر كوكباً. وكذلك كتابه النثري ذاكرة للنسيان الذي يدور حول حصار بيروت وكتبه بين العاصمتين الفرنسية والتونسية. فضلاً عن مقالات كثيرة ستنشر في مجلة اليوم السابع المصرية المموّلة من منظمة التحرير.

أيضاً سيخطّ في تلك المرحلة نصه السياسي الأشهر إعلان الدولة الفلسطينية الذي سيتلوه أبو عمّار في الجزائر عام 1988 في الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، وسيُعرف لاحقاً بـوثيقة إعلان الاستقلال الفلسطيني.

 

غلاف العدد 12 لمجلة الكرمل، عام 1984

 

«كان محمود يقضي بيننا يومين أو ثلاثة كل أسبوع» حين يأتي تونس، يقول صديقه في صاقل الماس. ينزل في غرفة مستقلة وضّبها له الأخير في منزله بحيّ المنار عند أعالي تونس العاصمة.

«كان يحب أن يشرب قهوته كل صباح في غرفة المعيشة. كانت والدتي عندما تسمع حفيف خطوه، تقوم إلى المطبخ لتحضير قهوتهما. كان يحب القهوة جداً، ويحب صناعتها بنفسه. وأحياناً عندما كان ينزل وتكون الوالدة مشغولة بصلاة صباحية متأخرةً أو بشؤون غيرها، يطير من الفرح ويمضي إلى المطبخ مسرعاً خشية أن تلحق به أم العبد فتفسد عليه متعة صناعة القهوة كما يحبها ويهواها»، يروي عبد الفتاح.

ويضيف: «كان يعتقد أنّ تحريك القهوة ببكرجها من اليمين إلى الشمال ثم من الشمال إلى اليمين مرات متساوية (يجعلها) أكثر متعة وجودة».

يتردد ذكر القهوة ورائحتها وفن صنعها في ذاكرة للنسيان: «أريد رائحة القهوة... لا أريد غير رائحة القهوة... رائحة القهوة لأتماسك... لأقف على قدميّ... لأتحوّل من زاحفٍ إلى كائن... لأوقف حصتي من هذا الفجر على قدميه... لنمضي معاً أنا وهذا النهار إلى الشارع بحثاً عن مكانٍ آخر».

يحكي زياد في موضع آخر طرفة حدثت بعد مرض محمود الأوّل، عندما ألمت به أزمة قلبية في فيينا وعاد إلى تونس حيث سيلتقي أم العبد من جديد: «ذات صباح عندما هبطت من الطابق العلوي إلى غرفة المعيشة وبخار القهوة الدرويشية يتقدمني، كانت الوالدة تبثّ (تحكي) ومحمود يتابعها مثل طفل. كانت الوالدة حكاءةً من نوع رفيع».

ويضيف: «كانت تحكي له عن ديما، طفلتنا الرائعة التي وجدَتها تصلي وهي تلبس الطرحة الناصعة البياض (...) ذلك اليوم إلّي لا يعيدو يمّا يا محمود لما كنت في المستشفى في فيينا، فاجأتني حفيدتي التي لم تتعدَ أربع سنين بأنّها تريد أن تصلي. طلبت مني أن أعلمها كيف تلبس الطرحة وكيف تكون الصلاة ويكون الدعاء. بيني وبينك يمّا استهجنت الأمر ولما سألتها، قالت والدموع في عينيها إنها تريد أن يشفي الله عمّو محمود من مرضه».

يتابع عبد الفتاح: «حاولت أن أقطع عن الوالدة حديثها بكياسة لولا أنّ محمود انفجر ببكاء فاجع. فجأة حضرت ديما قادمةً من الروضة فاحتضنها وراح يقبلها ويرتفع ببكائه حتى بلّلتها دموعه».

 

 

قبل المقام المتقطع في منزل صديقه، كان درويش قد استأجر منزلاً في ضاحية سيدي بوسعيد. وتزامن ذلك مع وجود أنيس صايغ في تونس، صديقه ومؤسس مركز الأبحاث الفلسطينية ومجلة شؤون فلسطينية. وكان كذلك مستشاراً لأمين عام الجامعة العربية الشاذلي القليبي، ورئيساً لوحدة المجلات فيها، ثم رئيساً لتحرير شؤون عربية التي تُصدرها.

يروي صايغ في مذكراته كيف أعاد بعد قطيعة الحرب والحصار بناء صداقته مع الشاعر في منفاه الجديد: «حظيت (هناك) بصديقين قديمين: محمود درويش وأسعد المقدم. عملت مع محمود في مركز الأبحاث ومجلة شؤون فلسطينية، وكان الانسجام بيني وبينه مضرباً للمثل، إذ فهم كل واحد منا الآخر ولم تعكر صداقتنا شائبةٌ. وكان محمود قد استأجر بيتاً من ثلاث طبقات في سيدي بوسعيد، وألحّ عليّ أن أترك الفندق وأنتقل إلى بيته، فتكون طبقة له وأخرى لي وثالثة مشتركة».

يتابع: «أغرتني الفكرة لكني تذكرت أنّ كلينا مزاجيّ، وأنّ السكن في بيت واحد قد يولد احتكاكاً أو خصومة دون أن نقصد، ونحن حريصان جداً على استمرار صداقتنا». ثم يتذكر: «كنت ومحمود نتناول الغداء في مطعم طريف في العاصمة شي نو، وكان صاحبه يعاملنا معاملة خاصةً، ونذهب أحياناً إلى مطعم آخر لمجرد أنه في شارع سُمّي على اسم الشهيد الفلسطيني المصوّر السينمائي هاني جوهرية»[6].

 

«الحزن والخيبة»

لن تبلغ محطة محمود درويش التونسية نهايتها إلا حين سيحلّ ربيع 1994 وتشرع منظمة التحرير في إخلاء غالبية مكاتبها استعداداً للعودة نحو قطاع غزة ورام الله. سيودّعها في أمسية تاريخية في أحد مساءات أيار/مايو، ألقى فيها للمرة الأولى قصيدته الشهيرة كَيْف نُشفى مِنْ حُبِّ تُونُس:

 

كَيْف نشفى مِنْ حُبِّ تُونُس الَّذِي يَجْرِي فِينَا مَجْرَى النَّفَسِ

لَقَدْ رَأَيْنَا فِي تُونُسَ مِنْ الْأُلْفَةِ والحَنان وَالسَّنَد السَّمْح مَا لَمْ نَرَ فِي أَيِّ مَكَان آخَرَ

لِذَلِك نَخْرُجُ مِنْهَا كَمَا لَمْ نَخْرُجْ مِنَ أَيِّ مَكَان آخَرَ

نقفز مِن حِضْنِهَا إلَى مَوْطِئ الْقَدَم الْأَوَّل

فِي سَاحَةِ الوَطَن الْخَلْفِيَّة

فَهَلْ نَقُولُ لك شُكْرًا؟

لَمْ أَسْمَعْ عاشقين يَقُولَان شُكْرًا...

لَمْ أَسْمَعْ أَبَدًا عاشقين يَقُولَان شُكْرًا وَلَكِن شُكْرًا لَك لِأَنَّك أَنْت مِنْ أَنْت

 

ليبكي لما قال قبل النهاية وسط حماسة الجمهور وتعاطفه: «هَل نَسِينَا شَيْئًا وَرَاءنَا؟ نَعَم، نَسِينَا الْقَلْب وَتَرَكْنَا فِيك خيرَ مَا فِينَا، تَرَكْنَا فِيك شهداءنا الَّذِين نوصيك بِهِمْ خَيْرًا».

 

 

 

كان وداعه لتونس مغموساً في مرارة مصير الثورة الفلسطينية. وقبل تلك الأمسية بأشهر قليلة كان قد تقدم باستقالته من «اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير» احتجاجاً على توقيع اتفاقية أوسلو. قال في نص الاستقالة إنّ ضميره «لا يتحمل المشاركة في اتخاذ هذا القرار المغامر. وما دمت غير قادر على الإجابة عن الأسئلة المطروحة (...) لتعذروني إذا قلت إنني لست مضطراً إلى المشاركة في هذه المخاطرة. إنّ البصيرة لا تحتاج دائماً إلى بصر، لكنها، الآن، في أشد الحاجة إليه».

عبّر عن تلك الخيبة بوضوح في مقابلته مع غسان شربل حين سأله: «ماذا يرشح من كلمتك الأخيرة في تونس: الحزن أم الخيبة؟». فيجيب: «الاثنان، الحزن والخيبة، وهناك أيضاً الحب لتونس والشعور العميق بالامتنان للشعب التونسي الذي تحمّل الوجود الثقيل. حزن على أحلام ضاقت الأرض التي كانت تحملها، أي أرض الحلم تقلصت. وخيبة من أنّ الوضع الدولي والإقليمي لم يعطِ الفلسطينيين واحداً في المئة مما يستحقون. التضحيات الفلسطينية كانت تستحق بالطبع حلاً أكبر. والحلم الفلسطيني كان حلماً مشروعاً، ولكن أن تتضاءل إلى هذا الكفاف وأن تعيش من فائض حل الأزمة الإسرائيلية!».

«ما حصل في نهاية الأمر أنّ الإسرائيليين أرادوا التخلص من عبء ثقيل اسمه غزة. نحن الآن نتحرك في فائض حل المشكلة الإسرائيلية وهذا يشكل حزناً وخيبة. إنّها شروط مجحفة تدفع المرء إلى مراجعة كل تاريخه الشخصي والعام ويضطر إلى البكاء. كان في وسع الماضي أن يكون أقرب، فكان في وسع الحاضر أن يكون أوسع. من يملك الماضي يملك المستقبل. والذي يملك الحاضر يملك الماضي»، يضيف.

ويتابع: «إنّ أوجع نقطة في المحطة التونسية أنّ خيارات العمل الفلسطيني حددت في خيار واحد هو التسوية السياسية. هذا طبعاً ليس بسبب تونس. الظرف التاريخي الذي أوصل الفلسطينيين إلى تونس حتّم عليهم ألا يكون لديهم سوى خيار المفاوضات والتسوية، وهذه ناتجة من تغير الوضع الإقليمي. بالنسبة إلى الشعب التونسي إنّه إنسانياً كان يعالج الجرح الفلسطيني. والدولة التونسية لم تتدخل أبداً في أيّ تحرك من تحركات العمل الفلسطيني. لقد عومل الفلسطينيون في تونس بدماثة وحصلوا على شروط جيدة للعمل السياسي والثقافي والإعلامي».

لكن، «هل يذكّرك الخروج من تونس بالخروج من بيروت؟»، يسأل شربل.

«أتذكر المفارقة. خرجنا من بيروت مطرودين. سنخرج من تونس وأنا أرى الدموع التونسية والفلسطينية، دموع الحب وليس أصوات المدافع الإسرائيلية وهي تطاردنا في البحر المتوسط بعد خروجنا من بيروت. خرجنا من بيروت إلى المجهول، إلى البحر، ويخرج الفلسطينيون الآن من تونس إلى موطئ قدم في ساحة البيت الخلفية. وهذا فرق نوعي».

يضيف: «قد يكون الخروج من هناك أكثر ميثولوجية لكن هذا الخروج من هنا واقعي ومحدد أكثر. هناك توجد جمالية أسطورة وهنا قسوة واقع. والفلسطيني الآن يهبط من أسطورته إلى أرض الواقع ويتعامل مع العناصر الخام المكوّنة للأسطورة. يخرج من مرآته وينظر إلى نفسه ويكتشف أنه إنسان عادي وعليه أن يمارس حياة عادية. هكذا المحطة الأخيرة لكل المشاريع الكبرى».

 

جدارية لدرويش في جزيرة جربة بتونس، للبناني يزن حلواني

 

«الجائزة مجاز»

سأقرأ لاحقاً من مهجعي فقراتٍ أُعيد نشرها من كلمة درويش في حفل تسلم جائزة بن علي في المكتبة الوطنية، بكل ما تضمنته من حديث حول الحرية، ولا سيما حرية التعبير. كنت أبتلع الكلمات بمرارةٍ عندما أقرأ وأعيد في زمن السجن الممتد، المحرّض على تكرارهما:

«أعلم أنّ هذه الجائزة ليست لي إلا مجازاً؛ إنّها رسالة حب وتضامن من الشعب التونسي ممثلاً بفخامة الرئيس، زين العابدين بن علي، إلى دور الإبداع الفلسطيني والإنساني ولوفائه لقضية الشعب ولمبادئ العدل والحرية في العالم ممثلاً بشخصي، حتى لو شكك البعض في نزاهة هذا الموقف. إنّ منح الجائزة لشعر منذور للدفاع عن الحرية يقتضي مني الالتزام بالدفاع عن حق الجميع في الحرية لأنني لن أكون حراً تماماً إذا كان غيري محروماً من الحرية».

يضيف: «أعلم أنّ جوائز الدولة تثير الشبهة والإفراط في التأويل فليس من العادي في حياتنا العربية أن تعترف السلطة السياسية بكبرياء السلطة الشعرية وتحترم خصوصيتها واستقلالها دون مقابل. لقد قلب السيد الرئيس الأدوار التقليدية هذه المرة، فامتدحني دون أن يتوقع أن أمتدحه فأحرجني، لكن الشكر والامتنان واجبان باسمي وباسم ما أمثل».

كان قاسياً أن أراه متوّجاً ممن تنقبض حيواتنا بين كفيه. لكني أعترف أنّ ذلك لم يزعزع يوماً صورة درويش الشاعر عندي. فضعف وتردد هذا الرجل الذي سيرحل بعد أشهر قليلة في حدث فلسطيني وعربي سيبقى من بين الأشد إيلاماً، شكّلا دائماً جزءاً من حساسيته المرهفة كشاعر عظيم وسياسي فاشلٍ لا ريب. يكشف موقفه الرؤيوي عن براعة سياسية ليست قائمةً على قوة التحليل بقدر ما تستمد عمقها من حدس الشعراء.

 


[1] مقابلة غسان شربل مع محمود درويش، صحيفة الحياة (لندن)، 13 حزيران/يونيو 1994.

[2] مقابلة شربل داغر مع محمود درويش؛ مجلة كل العرب (باريس) في 13/10/1982، وقد أعيد نشرها في العدد السابع لمجلة الكرمل (نيقوسيا) في كانون الثاني/يناير 1983.

[3] مقابلة صالح قلاب مع محمود درويش؛ مجلة المجلة (لندن) في 20/11/1982، وقد أعيد نشرها في العدد السابع لمجلة الكرمل (نيقوسيا) في كانون الثاني/يناير 1983.

[4] زياد عبد الفتاح: «ما أقوله عن محمود درويش لا يعرفه أحد غيري»، صحيفة القدس العربي، 26/6/2023.

[5] نشرت المقابلة في 10/1/1983، بعنوان Mahmoud Darwich poète de la blessure palestinienne. أعيد نشرها في العدد السابع لمجلة الكرمل (نيقوسيا) في الشهر نفسه.

[6] أنيس صايغ عن أنيس صايغ، منشورات رياض نجيب الريسّ–بيروت، 2006، ص 434.

أحمد نظيف

كاتب صحافي تونسي، وباحث مهتم بالعلوم الاجتماعية، صدر له: بنادق سائحة: تونسيون في شبكات الجهاد العالمي (2016)؛ المجموعة الأمنية: الجهاز الخاص للحركة الإسلامية في تونس (2017)؛ عشر ساعات هزّت تونس.. حريق السفارة الأمريكية ونتائجه (2019)؛ التاريخ السرّي للإخوان المسلمين في تونس (بالإنجليزية 2020).

×