7 تشرين الأول 2024
3 تموز 2023
من ملف ثالث المنافي، الوجود الفلسطيني في تونس (1974-1994)
«كل الثورات التي تولد في فلسطين تُجهض في العواصم العربية».
أبو إياد في كتابه «فلسطيني بلا هوية»
كأيام الشتاء القصيرة في تونس، كان المطر يهطل بغزارة في الضاحية الشمالية للعاصمة. سماء المدينة غصّت بالسحب السود كأنّها تستعد لحدادٍ طويل في ذلك الرابع عشر من كانون الثاني/يناير 1991.
يومٌ مضى متثاقلاً كدهر. خلاله ألقى حمزة أبو زيد السيجارة من فمه واندفع كالمجنون إلى داخل بيت القيادي «الفتحاوي» هايل عبد الحميد المعروف بـ«أبو الهول» لينهال برصاص مسدسه «توغاريف» على الجالسين. قتِل الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية صلاح خلف (أبو إياد) بسيلٍ من الرصاص، ومساعده فخري العمري، وأصيب أبو الهول الذي ما لبث أن فارق الحياة، وكان أبو زيد أحد حرّاسه.
خسرت الثورة الفلسطينية في دقائق ثلاثةً من كبار قادتها برصاص فلسطيني وتخطيط ما زالت الأيام تأبى كشف تفاصيله كلها، بعد ثلاثة عقود على الجريمة. كان العالم حينذاك يحبس أنفاسه استعداداً لحرب «عاصفة الصحراء» على العراق في المشرق، حين تسلّل الشاب الفلسطيني حمزة أبو زيد ليسرق جزءاً من الاهتمام العربي والعالمي بأنباء الحرب، ولتتحوّل تونس في شتاء 1991 إلى دائرة الضوء الإعلامي.
انطلقت التحليلات والتخمينات في توزيع الاتهامات بين الموساد وأجهزة المخابرات العربية حول مَن يقف خلف إنهاء حياة الرجل الثاني في منظمة التحرير ورئيس جهاز أمن الثورة الموحّد. مهما يكن المخطّط، رحل في تونس «الرجل الخطير» إلى الأبد، بعدما أوجع إسرائيل كثيراً وفي مواضع عدّة من ميونخ إلى الأرض المحتلة مروراً ببيروت.
وقائع الاغتيال
صباح الخامس عشر من كانون الثاني/يناير 1991، نشرت وكالات الأنباء العالمية والقنوات التلفزيونية تفاصيل الجريمة. كان صبري البنّا (أبو نضال) يتابع الأخبار بشغف في مقرّ قيادة منظمته «حركة فتح-المجلس الثوري»، الواقع قرب ميدان السويحلي في العاصمة الليبية طرابلس. ضحِك بملء شدقيه، فأخيراً تخلّص من عدوّه اللدود. وفي الجهة الأخرى، كان حمزة أبو زيد قد استسلم لقوات الكومندوس التونسية التي حاصرت بيت أبي الهول، واقتيد إلى جهاز أمن الدولة بوزارة الداخلية مكبّلاً ليجري تسليمه لاحقاً لجهاز أمن الثورة الفلسطينية.
يروي فؤاد النجّار، وهو أحد مرافقي أبي إياد، في شهادته التي نشرت عام 2015 في صحيفة «دنيا الوطن» الإلكترونية الفلسطينية، وقائع الحادثة: «كنّا في موعد عند السابعة مساء مع المتحدث السابق باسم جماعة أبي نضال والمنشق عنها عاطف أبو بكر. كان الموعد في منزل أبو محمد العمري. وبعدما ذهبنا إلى منزل الأخير، ألغى أبو إياد الموعد، وقال لمضيفه: دعنا نؤجله، وتعال نذهب بالسيارة. وفعلاً، تمّ له ذلك. لكن، في أثناء سيرنا، علم أبو إياد أنّ أبا الهول وصل اليوم من بغداد. فقال له العمري: لنذهب إلى منزله ونراه. بعدما وصلنا جلس القادة الثلاثة وكنت مشغولاً مع مسؤول الأمن لدى أبي الهول آنذاك، فجاء شاب اسمه حمزة قدّمه إليّ مسؤول الأمن أحمد سعيد، وسألني: هل تعرفه؟ فقلت له: لا».
يتناول حمزة أبو زيد بدوره وقائع الجريمة لحظة بلحظة في اعترافاته أمام المحقّق الفلسطيني، إضافة إلى سرده تفاصيل تجنيده في صفوف منظمة أبي نضال وكيف اخترق الجهاز المكلّف حراسة عضو اللجنة المركزية لحركة فتح هايل عبد الحميد (أبو الهول). فيقول في محضر التحقيق الذي كشفت عنه غطاء السرية مجلة «الوسط» اللندنية عام 2001: «في 14/1/1991، خرجت إلى حديقة بيت أبي الهول وكانت الساعة نحو الثامنة والنصف مساءً. رأيت سيارة سوداء مصفّحة فسألت الحارس أمام الباب الرئيسي للبيت علي: مَن الزوار عندنا؟ فأجابني بكلام لم أفهمه. عندئذ، دخلت إلى غرفة المرافقين المجاورة للباب الرئيسي لأقف إلى جانب علي، وكنت متأكداً أنّ الزائر هو أبو إياد، وذلك من مرافقيه الذين شاهدتهم في غرفة المرافقة. بقيت أنتظره في الخارج قرب مكان توقف السيارات في الممر الداخلي، وأترصد خروجه لأطلق الرصاص عليه وأنسحب... انتظرت كثيراً أكثر من ساعتين، لكنّ أبا إياد لم يخرج».
يضيف أبو زيد: «استغللت دخول علي إلى غرفة المرافقين المجاورة للباب الرئيسي، ورحت إلى باب منزل الأخ أبي الهول وقرعت الجرس. وبعدما فتحت الشغّالة الفيليبينية الباب، دخلت المنزل واتجهت مباشرة إلى الصالة وكان فيها الأخ أبو محمد الذي لا أعرفه وأبو إياد وأبو الهول قاعدين وبينهم طاولة صغيرة. فقلت: مساء الخير، ووجّهت سلاحي إلى أبي إياد وصببت النار بغزارة باتجاهه، وأصيب أبو محمد العمري بطلقاتي في كتفه اليسرى، والأخ أبو الهول أصيب عند مروره من أمام مرمى النيران واستمرّ سائراً على قدميه وخرج من الباب».
كان فؤاد النجّار ورفاقه يرابطون خارج البيت في غرفة الحراسة الدافئة حتى صعقهم صوت الرصاص. يقول النجّار: «قرابة الساعة 11، سمعنا صوت إطلاق نار. جاءنا سيناريو أبي جهاد (خليل الوزير) الذي اغتيل على يد قوات الكومندوس الإسرائيلي قبل عامين. فخرجنا خارج السور ولم نجد شيئاً. ثم خرج أبو الهول وقال: حمزة اغتال أبا إياد، وكان مصاباً برجله. وعندما حاولنا الدخول إلى المنزل، أغلق حمزة الباب وكان مصفّحاً. بعدما تأكد من موت أبي إياد، كان قد أسرع إلى الباب فسمع صوت المرافقين قادمين. عاد مسرعاً إلى الداخل، ثم صعد الدرج إلى الطابق العلوي ليقفز من باب الشرفة إلى الشارع. لكن في أثناء صعوده الدرج قابلته أم الهول وابنتها رولا تريدان النزول. فأجبرهما على الصعود واحتجزهما كرهائن، لائذاً بغرفة في الطابق العلوي».
أما اللواء الفلسطيني محمود الناطور (أبو الطيّب)، فينقل عن زوجِ أبي الهول شهادتها: «أسرعَت إلى الغرفة الملحقة حيث وجدت ابنتها ذات السبعة عشر ربيعاً مكوّمة في سريرها، فأخذتها بين ذراعيها وسمعت أقداماً تصعد السلم. اقتحم حمزة عليهما الغرفة، وأغلق الباب وصاح بهما: الإسرائيليون هنا. لقد أصابوا أبا الهول. فصاحت: هل هو حيّ؟ دعني أدخل وأراه. فقال لها: لقد جُرح ولا تسأليني أكثر من هذا. جلستا معاً على الأرض والابنة تصرخ والأم تحاول تهدئتها بينما حمزة يجول في الحجرة صامتاً. أخذ يلتقط أشياء صغيرة عن مائدة الفتاة زينة وراح يفحصها ثم يضعها مرة أخرى ثم يحدّق من النافذة. رأى البرق وسمع الرعد وكان المطر يتساقط».
يضيف الناطور: «كان الظلام شديداً في الخارج، وسمعته زوج أبي الهول يشتم عاطف أبو بكر، المنشق عن منظمة أبو نضال، وأقسم أن يقتله. ثم أخذ مظروفاً من جيبه وبحث فيه عن حبة ابتلعها، ثم ابتلع أخرى، وأخرى، على مدى الساعات الخمس التي احتجزهما فيها رهائن. سمعوا سيارات تتوقف أمام المنزل ووقع أقدام هنا وهناك. لقد وصل البوليس التونسي».
تواصلت المواجهة حتى ساعات الصباح الأولى عندما استسلم حمزة لقوات الأمن التونسية تحت تأثير الغاز الذي غمر الغرفة وحبوب الهلوسة التي أنهكت جسده النحيل. كان أبو نضال قد غادر العاصمة الليبية على أول طائرة أقلعت إلى بولندا، فيما أعلن أبو عمّار حال الاستنفار القصوى في صفوف «فتح» وقوات الثورة الفلسطينية في كلّ مكان.
وبدأ التحقيق.
كيف خُطِّط للعملية؟
عمل جهاز أمن الثورة الموحّد بقيادة أبي إياد، منذ أواخر الثمانينيات، على تفكيك منظمة أبي نضال واختراقها من الداخل في سبيل إنهاء وجودها، بعدما وجّه الأخير إلى منظمة التحرير وحركة فتح ضربات موجعة في مواضع كثيرة. وقد نجح أبو إياد في إقناع القيادي في التنظيم عاطف أبو بكر بالانشقاق عنه، وهو كان سفيراً سابقاً وقيادياً في «فتح»، لكنه تركها في منتصف الثمانينيات ليلتحق بـ «فتح الانتفاضة» ثم بأبي نضال.
شكّل انشقاق أبي بكر ضربة قاصمة للمنظمة التي كانت تعاني أصلاً نزيفاً في الأفراد وسمعةً بلغت الحضيض يومذاك. وأعلن حين وصل إلى تونس آتياً من ليبيا الانشقاق عن أبي نضال برفقة عدد كبير من أفراد المنظمة، ووجدوا في تونس دعماً واستقبالاً كبيرين من قادة «فتح». منذ تلك اللحظة، وضع أبو نضال غريمه أبا إياد على قائمة أهداف بندقيته مجدداً، وبدأ البحث عن مُنفّذ. كان أحرص على الحياة من أن يفعلها بنفسه.
حاول أبو نضال اغتيال أبي إياد 5 مرات، بحسب عاطف أبو بكر (Sipa/Shutterstock)
كان التنظيم قد عثر في خريف 1987 على ضالته لاغتيال أبي إياد في شاب فلسطيني يُدعى حمزة أبو زيد. اشتغل سابقاً في «القوة 17» في أمن رئاسة منظمة التحرير، وهو من مواليد السافرية في قضاء يافا عام 1963، ومن سكان مخيّم الوحدات في الأردن، وقد جرى تنظيمه في جماعة أبي نضال من أجل تنفيذ العملية مستفيدين من تاريخه الفدائي في صفوف منظمة التحرير. يروي أبو زيد قصته مع أبي نضال باستفاضة في اعترافاته:
«في بداية شهر أيار/مايو 1989، كلّفني خليل، أحد مساعدي أبي نضال في يوغسلافيا، بالسفر إلى ليبيا. وعند وصولي إلى مطار طرابلس وبلوغي الصالة، استقبلني المدعو عيسى جرادات (مساعد أبي نضال) وبقيت في أحد مقرات المنظمة حتى شهر تشرين الأول/أكتوبر عندما حضر إلى غرفتي عيسى ومعه شخص عرّفني إليه باسم الرفيق نعيم (نعيم يوسف، من رجال أبي نضال) الذي أطلعني على ملف يضم قصاصات من الجرائد تتحدث كلها عن أبي إياد والتصريحات غير المسؤولة له، ومنها تصريحه بأنّ الثورة الفلسطينية لم تخرج من بيروت وبقي ثلاثة آلاف مقاتل هناك. بعد هذا التصريح بمدّة قصيرة، حدثت مجزرة صبرا وشاتيلا. أيضاً أراني قصاصة من جريدة مصرية تتحدّث عن ثروات أبي إياد في الكويت وأملاكه، وأيضاً قصاصات ممكن أن تكون مطبوعة تتضمن أنّ أبا إياد هو السبب في اعتقال ثوّار ومناضلين».
يكمل أبو زيد: «بعدها قال نعيم إنّه يجب أن نضع حدّاً لهذا الإنسان. وبدأ بتوصيف دقيق يضع حدّاً لأبي إياد وفهمت من نبراته أنّه يقصدني. قلت إنّ هذا ليس بسيطاً وتجب استشارتي. فأجاب بحزم: نحن تنظيم ولسنا شركة سياحية، وهذا ترشيح لك وأنت تقدر على العودة إلى "فتح" وتنفيذ العملية».
ويضيف: «في اللقاء المطوّل السابع الذي حدث بيني وبين نعيم في غرفتي بالمقرّ، وكان ذلك في كانون الأول/ديسمبر، وضَع لي خطة للرجوع إلى أبي الهول والعودة إلى "فتح"، وطلب مني التردّد على مكتب المنظمة لمعرفة وصول أيّ من قادة فتح إلى ليبيا، خصوصاً أبا الهول. وقال: يتردّد على بيت الأخير العديد من القادة، وفي إمكانك قتل أبي إياد وقت زيارته خاصةً عند تعيينك ضمن الحرس. استمرّت هذه التعبئة نحو أربعة أشهر».
ويتابع: «أواخر نيسان/أبريل 1990، حضر أبو عمار وأبو الهول إلى ليبيا لحضور احتفالات "القرضابية"، وأيضاً لإحياء ذكرى استشهاد أبي جهاد. وفعلاً ذهبت إلى القاعة ورأيت أبا الهول وأبا عمار جالسَين على المنصة. في اليوم التالي، ذهبت إلى مكتب المنظمة وسألت حارس المكتب، ويُدعى سامي، عن مكان إقامة أبي الهول، فأجاب بأنّه في فندق. فذهبت إلى الفندق المذكور حاملاً برأسي الرواية التي ساعدني نعيم على تأليفها لأسردها أمامه. سلمت عليه ثم جلست وقلت: أخ أبو الهول، أنا بدي أرجع وبدي أعيد علاقتي، وأنا أخطأت في الماضي بهربي من عندك وعلى استعداد لتلقي أي عقوبة تفرضها عليّ، ومستعد لأي محاكمة ولأن تحاسبني على أي قصور سابق ارتكبته. أتمنى أن تقبل عودتي ثاني مرة لعندك. وفي يوم سفره، قال الأخ أبو الهول لمرافقه: اقطع تذكرة لحمزة ليسافر إلى تونس. رافقته إلى باب الفندق حيث باسني قبل سفره قائلاً: لا تنسَ يا حمزة أن تأتي إلى تونس. أجبته: أنا بأمرك».
التقى أبو زيد قائدَه أبي نضال قبل السفر إلى مسرح الجريمة تونس لأخذ التوصيات الأخيرة، لكأنّه يطلب البركة منه قبل أن يُجندل الرجل الذي استأمنه على نفسه ورفيقيه بدم بارد ومن دون أن يرفّ له جفن. يروي في اعترافاته وقائع اللقاء: «حضر نعيم وقال بدنا نتقابل مع أبي نضال. نزلنا مباشرة إلى الشارع حيث ركبنا سيارة "بيجو" كان عيسى ينتظرنا داخلها. وصلنا إلى المقرّ وبعد لحظات من دخولنا دخل أبو نضال وهو يلبس بدلة سفاري لون عسكري، متوسط الطول ومعتدل البنية، زلمة كبير بالعمر بالخمسينيات، أصلع. تقدّم مني وعندما صافحته قال لي: الرفيق أبو نضال. ثم أمرنا بالجلوس، ووجّه حديثه إلي: أنا أحبّ الشباب الذين عندما نأمرهم بأمر ينفّذونه. نحن اخترناك لهذه المهمة وبدّك تنفذها. أنا مسؤول التنظيم، بيدي أن أجعلك وأهلك تتمتّعون بحياة سعيدة، وبيدي إذا تقاعست أن أدمّرك وأهلك. ثم شرح لي كيفية التنفيذ بقوله: عند حضور أبي إياد إلى بيت أبي الهول عليك أن تستخدم سلاح الحراسات الذي معك وتطلق النار بغزارة وعن قرب على أبي اياد وتصويب النيران على الجزء الأعلى من جسده وتتأكّد من موته. وبعدما تتأكّد، تهرب إلى تونس المدينة ومباشرة إلى القرى الشمالية التي تقع على حدودها، ونحن نستطيع التقاطك هناك. وطمأنَني إلى أني إذا اعتُقلت، فإنّ التنظيم سينفّذ عمليات مقابل استردادي وتخليصي، ووعدني بمكافأة وحياة كريمة لي ولأهلي».
اختراقات جسم الثورة
تعرّضت الثورة الفلسطينية لاختراقات قاتلة منذ كانت في الأردن. كانت العاطفة والمزاجية تقود كل شيء؛ العلاقات كما القرارات. على سبيل المقارنة، كانت ثورات التحرّر الوطني في الجزائر وفيتنام تنتهج مساراً صارماً يصل حدّ التصفية الجسدية في معاقبة المتهاونين، وتختبر عناصرها بقسوة مفرطة. لكن على العكس تماماً، كانت الصرامة الثورية غائبةً عن الساحة الفلسطينية.
اللواء المتقاعد أحمد عبد الكريم الحيح، المعروف في أوساط الثورة الفلسطينية بـ «بن بلة»، شارك في بداية السبعينيات في محاولة تغيير نظام الملك حسين في الأردن، التي سعت إلى تنفيذها «منظمة أيلول الأسود» بإشراف أبي إياد. أخفقت العملية واعتُقل قبل إطلاق سراحه بعد مسار عسير. يقول في لقاء خاص: «توجّهت إلى بيروت للقاء القيادة، وطلبت من أبي إياد تفسيراً واضحاً لأسباب فشل العملية. لكنه رفض أن يوضح الأمر طالباً مني نسيان الحادثة. تبيّنت لاحقاً أنّنا كنا مخترَقين من المخابرات الأردنية. لقد ذهب الشباب ضحايا التهاون وعدم الحذر والإعداد الأمني».
يرى بن بلة أنّ هذه العملية مجرّد مثال بسيط عن التهاون الأمني الذي كان مستشرياً في الثورة الفلسطينية في محطاتها الثلاث، من عمّان إلى تونس مروراً ببيروت. يقول: «بعد عملية الأردن، التقيتُ أبا إياد وقلت له بالحرف: أنت لا تحسن اختيار الرجال للمهمات الصعبة والخاصة. كان القادة الفلسطينيون مزاجيين إلى حدّ كبير في اختيار العناصر واتخاذ القرارات المهمة. كانت الثورة تتطلّب قدراً من الصرامة والشدة. للأسف، كان الثوريون الفلسطينيون متسامحين إلى حدّ أفسد الثورة. فمثلاً كيف يُسمح لعنصر هارب كحمزة أبو زيد أن يعود للعمل مرافقاً للقادة وحاملاً السلاح من دون التحرّي عن مرحلة هربه ومع من كان يتعامل؟».
يتابع: «خلال حصار بيروت، هرب من أبي إياد كلّ مساعديه ورجاله لكنّني بقيت معه حتى خروجنا إلى دمشق ثم تونس. وفي تونس، عملت مديراً لمكتبه ومشرفاً على أمنه الشخصي لكنّه لم يكن يلتزم كثيراً الإجراءات الأمنية التي وضعناها، حتى وصل الأمر حدّ الخلاف بيننا. قال لي إنّ أمنه الشخصي جزء من حياته الخاصة ولن يقبل التدخّل. آثرت أن أترك العمل مع الشهيد على أن أكون مسؤولاً عن أيّ أذى يمكن أن يُصيبه، وكان حدسي يحدّثني بذلك. فقد كان رأسه مطلوباً من أكثر من جهة».
يكمل بن بلة: «قبل أن أتركه، قلت له: سيأتي عليك يوم تُقتل برصاص مرافقيك. كان أبو إياد رجلاً مؤمناً وقدرياً ولا يهاب الموت ويكره أن يكون في الأقبية. رفض طوال حصار بيروت الدخول إلى الملاجئ. فقد جاء في يوم من أيام الحصار مرافق أبي عمار، فتحي، ليبلغني أن أحضِر أبا إياد إلى مكان فيه عرفات تحت الأرض بثلاثة طوابق. وما إن وصلنا المدخل، حتى رفض أبو إياد الإكمال قائلاً: لن أقابل أحداً في الأقبية. كان بالنسبة إلي أكثر من قائد؛ كان أباً». ولا يُخفي بن بلة شكوكه في تقاطع أكثر من جهة في عملية الاغتيال إلى جانب أبي نضال، بينها الموساد الذي كان يلهث خلف رأسه.
لا يستبعِد القيادي السابق في منظمة أبي نضال عاطف أبو بكر في شهادته التي بثّتها قناة «الحوار» اللندنية عام 2011 أن يكون القاتل قد جنّده الموساد خلال إقامته في أوروبا الشرقية، تحديداً في بولندا، ثم جرى تنظيمه في تنظيم أبي نضال. ويغمز أبو بكر من جهة الجانب الليبي: «ليبيا كان لها مصلحة أيضاً في إنهاء حياة أبي إياد، فهي لم تغفر له بعض التصريحات ضد القيادة الليبية منذ حصار بيروت وصولاً إلى مرحلة الانشقاق (أبو خالد العملة وأبو صالح وأبو موسى وتأسيس «فتح الانتفاضة») وما بعدها».
يشير أبو بكر إلى أنّ حمزة أبو زيد التقى قبل مغادرته ليبيا مع مسؤول في الأمن الليبي برفقة نعيم يوسف. لكنّ التحليلات كلها التي تلمح إلى تورّط ليبي، أو حتى تورّط فلسطيني من داخل منظمة التحرير، لم ترقَ إلى درجة اليقين لغياب أيّ دليل واضح، خاصة أنّ منظمة أبي نضال حاولت في وقت لاحق السماح لهذه التحليلات بالرواج كي تُخلي مسؤوليتها عن دم أبي إياد.
انعقدت محاكمة أبو زيد في مقرّ قيادة قوات شهداء صبرا وشاتيلا في اليمن بعدما رفضت تونس محاكمته أو إعدامه على أراضيها. ويقال إنّ ضغوطاً أميركية وإسرائيلية مورست على حكومة زين العابدين بن علي يومذاك لاتخاذ هذا الموقف. فجرى نقله إلى طائرة يمنية آتية من المغرب بصفته عضواً في اللجنة المركزية لحركة فتح ليعامل معاملة كبار الزوار إمعاناً في التمويه، وفق رواية اللواء طارق أبو رجب، وكي لا يذاع الخبر فيصل إلى الأميركيين الذين كانوا في وارد أن يمارسوا ضغوطاً على حكومة علي عبد الله صالح.
ستقضي لاحقاً محكمة الثورة بإعدام أبي زيد، وسينفّذ الحكم في عرض البحر قبالة السواحل اليمنية لتستقر جثته في القاع فيما رقد القادة الثلاثة، أبو إياد وأبو الهول وفخري العمري، في مقبرة الشهداء في تونس، ينتظرون تحرير فلسطين ليعودوا إليها لو رفاةً في توابيت.
كان أبو إياد من أشد معارضي حافظ الأسد في ما خصّ التدخل في منظمة التحرير وكذلك التدخل السوري في لبنان (Getty)
ثالث ثلاثة
كان أبو إياد ثالث ثلاثة من أركان فتح، إلى جانب عرفات وأبو جهاد الذي اغتيل عام 1988. فبقي أبو عمار وحيداً برحيله، وربما كانت هذه الوحدة مصدر اللعنة التي ستصيب منظمة التحرير لاحقاً: هل كان وارداً أن يوافق أبو عمار على اتفاق أوسلو بصيغته تلك لو كان أبو إياد وأبو جهاد حيين؟ لا يمكن لأحد أن يعرف حقيقة هذه الفرضية المستحيلة، ولكن الثابت أنّ لأبي إياد على وجه الخصوص ثقلاً كبيراً داخل الحركة بصفته مسؤول الأمن الأول فيها، ما يجعل لكلمته وموقفه وزناً ولو كانا معارضين لعرفات، وكان يمكن أن يتغير الكثير.
هربت عائلة أبي إياد به صغيراً إلى قطاع غزة عام 1948 بعدما سيطرت العصابات الصهيونية على مسقط رأسه يافا (ولد 1933). التقى عرفات وخليل الوزير بعدما قصد جامعة القاهرة عام 1951، وشأنه شأن رفيقيه كان ميّالاً في البداية إلى جماعة «الإخوان المسلمون». بحلول أواخر الستينيات، كانت حركة فتح قد سيطرت فعلياً على منظمة التحرير وغدا أبو إياد من ذلك الوقت أحد الرجال المهمين في العالم العربي. فقد أدار بضراوةٍ القتال ضد الجيش الأردني في أحداث أيلول الأسود، ثم أسس في أعقابها تنظيماً يحمل الاسم نفسه موالياً لـ«فتح»، ودبّر عدداً من العمليات بما في ذلك عملية ميونخ في الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 1972 في ألمانيا الغربية.
رغم نشاطه الكبير خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993)، فإنّه دعم شأنه شأن التيار السائد داخل «فتح» القبول رسمياً بوجود إسرائيل والعمل من أجل إقامة دولة فلسطينية في المناطق التي يمكن أن تحرّر. كان أبو إياد من أشد معارضي حافظ الأسد، ولا سيما في محاولات حزب البعث السوري التدخل في منظمة التحرير عبر الجناح الموالي له، وكذلك التدخل السوري في لبنان، ولكنّه كان في الوقت نفسه معارضاً لسياسات الرئيس العراقي صدام حسين، رغم العلاقات الوثيقة بين الأخير وعرفات.
أما في تونس، فاحتفظ أبو إياد دائماً بعلاقات وثيقة مع السلطة المحلية خاصة مع نظرائه في قيادة الأمن والمخابرات والحزب الحاكم، مثل أحمد بنور (رئيس المخابرات والسفير) ومحمد الصياح (مدير عام الحزب الدستوري) والطاهر بلخوجة (وزير الداخلية). كما عُرِفت عنه في الأوساط التونسية علاقاته الوثيقة بالصحافيين.
يروي الصحافي التونسي ماهر عبد الرحمن في مذكراته جانباً من ذلك: «كانا من أنظف القياديين الفلسطينيين ممن لا تراهم في أيّ سهرات خارج بيوتهم: الشهيدان خليل الوزير (أبو جهاد)، نائب القائد العام لقوات الثورة ومهندس الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وصلاح خلف (أبو إياد) رئيس جهاز المخابرات. كان أبو جهاد قليل الحديث للصحافة لكنّني التقيت أبا إياد مراث كثيرة. كان يحبني وحتى يهاتفني أحياناً في المكتب ليسأل عني ويعاتبني على عدم الزيارة، فكنت أفهم أنّ لديه أخباراً جديدةً للنشر في الإعلام. كان أبو عمار كثير التجوال ويعيش في الطائرة أكثر من الأرض، فيما كان أبو إياد يشعر بالغربة في تونس»[1].
يكشف عبد الرحمن خلال سرده علاقته بأبي إياد عن حادثة ربما لم تنل أي تغطية، ولم يروِها أيّ قيادي فلسطيني قبل ذلك. يقول: «كشف لي (أبو إياد) سنة 1983 عن سرّ عسكري، وفهمت لاحقاً لماذا فعل ذلك. أخبرني في ذلك الوقت أنّ لديهم جثتي عسكريين إسرائيليين في تونس، وأعلمني بمكانهما. كان الجنديان قتلا أثناء معارك حصار بيروت، ولمّا حدث الاتفاق على مغادرة المقاومة الفلسطينية العاصمة اللبنانية، فرض الإسرائيليون على الفدائيين الخروج بأسلحتهم الفردية، لكن، وكنت أذكر ذلك جيداً في الأخبار التي أتابعها عن الأوضاع في بيروت، شحنت منظمة التحرير سيارتي جيب في باخرة نقل المقاتلين إلى تونس، فمُنعت الباخرة من مغادرة الميناء لإجبارها على إنزال السيارتين. ولما نزلتا كانتا قد أتمتا مهمتهما الخفية بنقل الجثتين داخل الباخرة».
يضيف: «حصلت على ما يمكن تسميته بسبق صحافي كان يمكن لي نشره في أيّ صحيفة محلية أو أجنبية، ومع ذلك، توقفت عن فعل أي شيء (...) جاءت أمامي صورة ما يمكن أن تتعرّض له تونس من اعتداء إسرائيلي (...) كان المكان الذي أخبرني به أبو إياد هو المستشفى العسكري القديم بالعاصمة: سهل الاقتحام رغم الحراسة العسكرية أمام مدخله. خيّرت أن أكتم الخبر. قد يكون حفظي السرّ وعدم شيوعه شجع أبو إياد أن يفاتحني في أمر آخر. فقد عرض عليّ أن أعمل لجهاز مخابراتهم واقترح لذلك دروةً تدريبية ستة أشهر في الجزائر، فشكرته على ثقته (وامتنعت)».
يتحدّث عبد الرحمن أيضاً عن موقف أبي إياد اللاحق حول المفاوضات مع إسرائيل بدايةً من 1988: «كانت منظمة التحرير قد بدأت باحتشام أولى المفاوضات السرية غير المباشرة مع إسرائيل. انعقد مجلسها الوطني في الجزائر، الذي أعلن قيام الدولة الفلسطينية، وكنت هناك لتغطية الحدث للتلفزيون التونسي. غدا صلاح خلف، رغم تشدده، يتحدث عن السلام وضرورة التفاوض (لكن) في إحدى المرات كان غاضباً جداً لمقتل فلسطينيين في الضفة الغربية على أيدي جنود الاحتلال، فضرب بيده آلة التسجيل التي أمامه لإيقافها وقال: والله لا يستأهل هؤلاء الجنود الصهاينة إلا الذبح لما يفعلونه في أهلنا. لا سلام ولا مفاوضات ولا بطيخ... ثم تمالك نفسه وطلب الاستمرار في التسجيل».
تنشر هذه الحلقة الثالثة من سلسلة ثالث المنافي، الوجود الفلسطيني في تونس (1974-1994) منقحة ومزيدة بمعلومات جديدة عن النسخة المنشورة في عدد كانون الثاني/يناير 2016 لملحق فلسطين الصادر عن صحيفة السفير اللبنانية، تحت عنوان: «نهاية الرجل الخطير: هكذا اغتيل أبو إياد في تونس».
[1] ماهر عبد الرحمن، يوميات حامل ميكروفون: تدوينات لأسرار السياسة في كواليس الإعلام، ص. 67–69، منشورات سبكتروم للإنتاج السمعي والبصري – تونس، الطبعة الأولى، 2015.
كاتب صحافي تونسي، وباحث مهتم بالعلوم الاجتماعية، صدر له: بنادق سائحة: تونسيون في شبكات الجهاد العالمي (2016)؛ المجموعة الأمنية: الجهاز الخاص للحركة الإسلامية في تونس (2017)؛ عشر ساعات هزّت تونس.. حريق السفارة الأمريكية ونتائجه (2019)؛ التاريخ السرّي للإخوان المسلمين في تونس (بالإنجليزية 2020).