7 تشرين الأول 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

تركيا، حجر أخير في النهر

محمد مصطفى

21 أيار 2023

تسعى المعارضة لإلقاء حجر أخير في النهر وسط الإحباط الذي يخيّم على الشارع الرافض لإردوغان (The Financial Times)

«إردوغان! بلا ذرة تردد»،

«لو قُدِّر لي أن أصوّت مئة ألف مرة، فسيكون صوتي دائماً لإردوغان»،

هكذا ردّ بحماسة مواطنان تركيان عند سؤالهما عن مرشحهما في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، فيما جاءت ردود غالبية داعمي مرشح المعارضة، كمال كلتشدار أوغلو، سريعة ومقتضبة تدور حول الدعاء أو التمني بالفوز، أو ناقمة أحياناً.

فيؤكد مثلاً معارض ثلاثيني «ضاق بما يحدث» عزمه العزوف عن المشاركة في الجولة الثانية رغم منح صوته في الأولى لكلتشدار أوغلو. «حتى في حال اضطررت إلى المشاركة، سيكون صوتي لإردوغان»، يعلن نكايةً على الأرجح.

وسط هذا الإحباط الذي يخيّم على الشارع الرافض للرئيس رجب طيب إردوغان، الذي نجح مرة أخرى في قلب الطاولة والخروج من انتخابات 14 أيار/مايو بنتيجة مُرضية خالفت توقعات كثيرين، تسعى المعارضة جاهدة لإلقاء حجر أخير في النهر لعلّه يُغيّر المعادلة.

 

عهود الزلازل

لم تكن تركيا، خلال الأعوام الأخيرة، تخرج من أزمة حتى تدخل في كارثة أكبر على نحو يكاد يكون منتظماً. ووسط غليان الشارع واستيائه كان الأمل يدب في قلوب خصوم إردوغان، التاريخيين والجدد، ويؤكد الجميع أن الزعيم الاستثنائي اقتربت نهايته. لكن الحاوي الذي لا يفرغ جرابه خرج منتصراً من معركة تلو أخرى ليكمل رقصته الطويلة وسط أنصاره ومريديه.

فمنذ استطاع في 2017 تعديل نظام الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي ووضع السلطات جميعها في يده عبر استفتاء وصفته المعارضة بأنه أرسى لنظام الرجل الواحد، لا يمر يوم دون أن يؤكد المعارضون أن نهايته باتت محتومة.

يكفي أن نشير سريعاً إلى أن أزمة الجارة الجنوبية سوريا ألقت أثقل ظلالها على تركيا ونظامها الحاكم، من تدفق مليونيّ للاجئين إلى تدهور الوضع الأمني مروراً بفتح جبهة قتال كانت هادئة لسنوات بين الجيش التركي والمسلحين الأكراد. وذلك كله تلاه وباء كان أثره في تركيا أكبر من غيرها، وانهيار اقتصادي دفع ملايين الأتراك إلى هوة الفقر، قبل أن يضرب زلزال مدمر جنوب البلاد في شباط/فبراير، آخذاً في طريقه أكثر من 50 ألف روح ومشرّداً مئات الآلاف.

 

ماذا حدث في 14 أيار/مايو؟

31 آذار/مارس 2019 يوم لن ينساه الأتراك بسهولة، فخسارة إردوغان وحزبه، «العدالة والتنمية»، بلديتي إسطنبول وأنقرة لمصلحة خصمه التاريخي، أثبتت إمكانية هزم «الزعيم الذي لا يُهزم»، ووضعته وحيداً في شك أمام مقولته: «من يخسر إسطنبول (محبوبته)، يخسر تركيا».

منذ ذلك اليوم، لم تدّخر المعارضة جهداً لتوجيه ضربة قاضية ضد إردوغان. فتشكَّل التحالف المعارض النادر في السياسة المحلية، والذي عُرِف بـ«طاولة الستة» وضم إلى جانب «الشعب الجمهوري» بقيادة كلتشدار أوغلو معظمَ المنشقين عن العباءة الإردوغانية: «الحزب الجيد» المنشق عن حزب الحركة القومية (المتحالف مع إردوغان)، و«المستقبل» بقيادة رئيس الوزراء الأسبق أحمد داوود أوغلو، و«السعادة» الإسلامي التاريخي الذي خرج إردوغان نفسه من عباءته، و«التقدم والديمقراطية» (دواء) بقيادة علي باباجان القيادي السابق في «العدالة والتنمية» ومهندس برنامجه الاقتصادي حتى 2015.

اتفق الجميع على خلاف توجهاتهم وانحيازاتهم على إلحاق الهزيمة بالرئيس التركي مقدّمين كلتشدار أوغلو منافساً له. كما أن الأحزاب اليسارية، وعلى رأسها «الشعوب الديمقراطي» المدعوم من الأكراد، أعلنت أيضاً دعمها زعيم «الشعب الجمهوري»، لتبدو النهاية وشيكة.

«هذه الانتخابات ليست عادية»، قال كلتشدار أوغلو عشية الاستحقاق، وقد بدا واثقاً للغاية من الفوز، فحملته كما يرى محللون وصحافيون داخل تركيا وخارجها كانت مختلفة هذه المرة واعتمدت على خطاب لا يُقصي أحداً، بل يطلب فيه زعيم أقدم الأحزاب التركية من الشرائح المحافظة والمتدينة مسامحة حزبه على «أخطاء الماضي» ويؤكد أنها لن تتكرر تحت أي ظرف.

لكن هل صدّقه الناس؟ على الأرجح لا. فمع ظهور نتائج الانتخابات قبل انتصاف ليل الأحد 14 أيار/مايو، بدت الصدمة واضحة على المعارضة؛ صحيح أن إردوغان عجز عن الفوز من الجولة الأولى لأول مرة في تاريخه، لكنه خرج متصدراً بـ49,5% مقابل 44,8% فقط لكلتشدار أوغلو، فيما حصل سنان أوغان مرشح اليمين المتطرف المعادي للاجئين على أكثر من 5% من أصوات الأتراك في مفاجأة أذهلت كثيرين.

ليس هذا فحسب، بل استطاع تحالف إردوغان الانتخابي الذي ضم إلى جانب «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية» حزبين إسلاميين صغيرين هما «الدعوة الحرة» الكردي الإسلامي المتشدد و«الرفاه من جديد» بقيادة فاتح أربكان ابن نجم الدين أربكان الزعيم التاريخي الراحل للإسلاميين في تركيا، الفوزَ بغالبية مقاعد البرلمان، فيما لم تحصل المعارضة مجتمعة وممثلة في تحالفين سوى على 277 مقعداً من أصل 600.

 

الأمن والهوية مقابل الخبز

حرص إردوغان الذي يدرك جيداً أهمية الرمز، على أن يكون مشهد نهاية حملته الانتخابية الأولى الصلاة في «آيا صوفيا» الذي كان قد حوّله مرة أخرى إلى جامع بعد 85 عاماً على قرار المؤسس كمال أتاتورك إقامة متحف، فيما اختار كلتشدار أوغلو مشهد زيارة مقام أتاتورك «آنيت كابير» في أنقرة.

لكن بعيداً عن هذه الثنائيات الرمزية، يُجمع مراقبو الشأن التركي على أن السمة الأساسية لنتائج انتخابات 14 أيار/مايو هي حصول التيارات القومية واليمينية المتشددة على أصوات أكثر مما كان متوقعاً لها. ينطبق ذلك على حزب الحركة القومية الحاصل على أكثر من 10% (التوقعات كانت بين 6 و7%)، أو «الرفاه من جديد» الحاصل على 3% تقريباً، وحتى على مرشح الرئاسة سنان أوغان.

سيصير الأمر مفهوماً إذا عرفنا أن إردوغان ركّز خطابه خلال الحملة الانتخابية وقبلها على قضايا الأمن والهوية، وعزز مخاوف المتدينين من وصول «الشعب الجمهوري» إلى السلطة، وقلق القوميين من مساعي «استقلال الأكراد» بإقليمهم، مستخدماً في التجمعات الانتخابية مقاطع مصورة تتحدث فيها قيادات «الشعوب الديمقراطي» عن «ضرورة أن يحكم الأكراد أنفسهم» واقتراب موعد فتح أبواب الحرية لـ«الزعيم عبد الله أوجلان» رئيس «العمال الكردستاني» المحتجز في السجن منذ نحو 24 عاماً.

يبدو أن إستراتيجية الزعيم التركي حققت غاياتها خاصة أن الانقسام والاستقطاب في الشارع بلغا مستويات قياسية. «يستحقون أن يُقذفوا بالحجارة… نالوا ما يستحقونه»، تقول سيدة غاضبة تعليقاً على الهجوم الذي تعرّض له أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول وأبرز قياديي «الشعب الجمهوري»، خلال تجمع انتخابي بمدينة إرضروم (شمال شرق). «نحن مع العدالة والتنمية حتى النهاية»، تؤكد السيدة ورفيقتها.

«اذهبي اذهبي أيتها العاهرة، أعصابي متعبة»، بهذه العبارات وببذاءات أشد تفاجئ خالة طاعنة في السن الجميع في أحد ريبورتاجات الشارع خلال توجيه سهام نقد حادة إلى شابة قالت إنها تؤيد إردوغان.

هكذا كان الشارع قبل الرابع عشر من أيار/مايو.

 

«يرتدي ثوباً لا يناسبه»

بعد ساعات من إعلان النتيجة، رضخ كلتشدار أوغلو مبكراً لابتزازات القوميين اليمينيين حتى قبل أن يطلبوا منه شيئاً، أملاً في اجتذاب الـ5% الذين صوّتوا لسنان أوغان إلى صفه. خطاب الأخير وخلفه حزب «الظفر» (أو النصر) المتطرف ينصبّ على نقطتين أساساً هما اللاجئون (السوريون في الغالب) والأكراد، ولأن كيليتشدار أوغلو يخشى خسارة الأكراد الذين منحوه 10% من الأصوات التي حصل عليها، صبّ الرجل جام غضبه على العرب.

خالعاً عباءة التسامح والحب والصلح ومرتدياً ثوب الصقور تعهّد كلتشدار أوغلو الغاضب بأنه إذا فاز سيرسل «10 ملايين لاجئ» سوري إلى بلادهم. الرقم مبالغ فيه وغير واقعي طبعاً، إذ تشير بيانات تركيا والأمم المتحدة الرسمية إلى نحو 3,5 مليون سوري في البلاد. لكن يبدو أن زعيم «الشعب الجمهوري» أراد أن يقترب من ادعاءات أوغان وحزبه بوجود 13 مليون لاجئ سوري يوصِلون «وضع بلادنا الاقتصادي إلى الحضيض ويغيّرون الطبيعة الديمغرافية لشعبنا بأفكارهم الراديكالية ومحافظتهم الاجتماعية».

فهل تنجح إستراتيجية كلتشدار أوغلو الجديدة؟ يشكك كثير من المحللين والمراقبين في نجاعة هذه الإستراتيجية، فهي في رأيهم تُفقِد زعيم المعارضة مصداقيته بسبب تحول خطابه جذرياً بين ليلة وضحاها، أو كما يعبّر الصحافي لفنت غولتكين: «يحاول كيلتشدار أوغلو ارتداء ثوب غير ثوبه، وهذا يفقده كثيراً من مصداقيته، كما يُعرّضه لخسارة شريحة كبيرة من مؤيديه مقابل الـ5% الذين صوّتوا لأوغان، والأهم من ذلك علينا أن نتذكر أن هناك قيمة للهزيمة بشرف».

أما الصحافي المعارض المنفي في ألمانيا جان دوندار، فشبّه الموقف بـ«شخص غير مؤمن قرر الذهاب إلى الجامع لأداء صلاة الجمعة قبل أسبوعين من خطبته بفتاة من عائلة متدينة، ليثبت أنه يشبههم».

 

هل اجتاز الفارس أسكدار؟

يستخدم الأتراك تعبير «اجتاز الفارس أسكدار» (بوابة الجانب الآسيوي من إسطنبول) عندما يريدون القول إن الأمر قد حُسِم بالفعل، ويقابله المثل العربي القديم «سبق السيف العذل». فهل حُسِم الأمر لإردوغان فعلاً؟

بمنطق حسابي، يمكن القول إن احتمالية فوز كلتشدار أوغلو في الجولة الثانية التي ستُجرى الأحد المقبل ضعيفة للغاية. فبينما يحتاج إلى 5,2% ليبلغ سقف الـ50%، يكفي أن يحصل إردوغان على 0,5% فقط لينتهي الأمر له. ولكن من غير المستبعد عملياً أن يفاجئ الشارع الغاضب الجميع مجدداً.

يكفي أن نشير إلى ما حدث في انتخابات بلدية إسطنبول قبل أربعة أعوام فور إظهار النتائج تقدم مرشح «الشعب الجمهوري» أكرم إمام أوغلو على مرشح «العدالة والتنمية» بن علي يلدرم بفارق ضئيل لا يزيد عن 14 ألف صوت. أقام أنصار وسياسيو الحزب الحاكم الدنيا ولم يُقعدوها، ونجحوا فعلاً بالدفع إلى إجراء الانتخابات مجدداً. غير أن الرد الشعبي كان قاسياً جداً، إذ اتسع الفارق هذه المرة لمصلحة إمام أوغلو إلى أكثر من 800 ألف صوت.

الأكيد أن أموراً كثيرة لن يقتصر أثرها في الحدود الجغرافية للجمهورية التركية ستُحسم مع انتصاف ليل الأحد المقبل. أيام قليلة تفصلنا عن هذه المعركة الانتخابية النادرة الحدوث في منطقتنا، وكل يوم منها هو «مدّة طويلة جداً عندما يتعلق الأمر بالسياسة التركية»، على حد تعبير الرئيس الراحل سليمان ديميريل. «فهل ستنتهي الأسطورة فعلاً؟ أم لا يزال لدى السلطان ما يقوله؟»، سؤال يطرحه كثر في الداخل والخارج سواء أأحبوا الرجل حد التقديس أم كرهوه.

محمد مصطفى

صحافي مصري مقيم في إسطنبول.

×