25 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

ظاهرة العداء للعرب في تركيا

نور الدين العايدي

26 نيسان 2023

بينما كانت الجمهورية تخلق جنتها الغربية الأوروبية، حرصت بالتوازي على خلق جهنمها الشرقية العربية (المراسل)

لا يخفى على كثيرين أن تركيا من الدول التي تشهد تاريخياً حضوراً واضحاً لظاهرة العداء للعرب لدى بعض تياراتها، وهي تشكل تعبيراً عن نظرة الكراهية، بل أحياناً الخوف من العرب وثقافتهم وعناصرها المختلفة. ثم مع زيادة الاحتكاك العربي-التركي منذ بداية الربيع العربي، وما رافقه من أزمات سياسية واقتصادية متصاعدة في تركيا وخارجها، صار صوت هذه الظاهرة أوضح خاصة في السنوات الأخيرة.

يمكن القول إنها ليست مجرد ظاهرة عابرة سطحية تقتصر على صراع بين عنصرية وعنصرية مضادة، بل لها جذور عميقة في الوعي السياسي التركي. فمثلاً يقول المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن في معرض حديث إعلامي عام 2017 عن العلاقات التركية-العربية وما وصفه بـ «بذور الفتنة التي زُرعت بين الطرفين»، إن «الجمهورية (التركية) أنتجت ظاهرة عداء للعرب»، مع العلم أنه يُعدُّ من المثقفين الأتراك البارزين وركَّز نشاطه الأكاديمي على العلاقة بين الإسلام والغرب.

لا تسعى هذه المقالة للدخول في جدل حول العنصرية المتبادلة بذاتها أو تقديم أي اتهامات تعميمية، بل تود عرض نبذة حول الظاهرة عبر التأصيل التاريخي لها ووضعها في سياقها الأيديولوجي والسياسي والاجتماعي، بما يسهل فهم أبعادها وانعكاساتها على نحو أوضح اليوم.

 

جنة مشروع التغريب وجهنمه

شهدت مرحلة أفول الدولة العثمانية نقاشات عارمة بين مختلف النخب حول سؤال رئيسيّ هو: كيف يمكن إنقاذ الدولة واللحاق بالغرب؟ هنا برز عدد من التيارات الفكرية المتصارعة والمتداخلة التي ادعت تقديمها وصفة للنجاة والتقدم، كان من أهمها الأطروحة الإسلامية التي رأت أن الحل هو وحدة الأمة الدينية، وكذلك الأطروحة القومية التي ربطت الخلاص بتعزيز العنصر التركي وهويته ووحدة عالمه، إضافة إلى الأطروحة التغريبية التي دافعت عن تبني القيم الغربية والاقتداء بها في المجالات كافة، وليس أخيراً الأطروحة العثمانية التي هدفت إلى بناء هوية عثمانية واحدة بصرف النظر عن الدين والقومية.

غير أن النخب الجديدة، التي صعدت بعد حرب الاستقلال التركية (1919-1922) ونجحت في تأسيس دولة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، تبنت بعدما عاصرت نقاشات وأزمات مرحلة أفول العثمانيين مقاربة تنبع أساساً من الأطروحتين التغريبية والقومية في ما صار جزءاً من الأيديولوجيا «الكمالية» التي شكلت، وربما لا تزال، الجزء الرئيسي من هوية الجمهورية التركية وحدودها الفكرية.

رأت «الكمالية» التي أطلقت مشروع تحديث نخبوياً عُلوياً قسرياً، أن الطريق الوحيد نحو النهضة هو قطع أواصر الدولة الوليدة مع ماضيها العثماني الإسلامي الشرقي الذي عدَّته عبئاً ثقيلاً تسبب في تخلف الأتراك. وانطلاقاً من هذه المقاربة ركزت النخب الجديدة على بناء جمهورية علمانية حديثة على النمط الأوروبي.

كاريكاتير للأبجدية التركية اللاتينية تركل الأبجدية العربية. من رسم الفنان رامز غوكتشه ونُشر عام 1928 على هامش ثورة الحرف التي غيرت نظام الكتابة في تركيا

بسياسة تغريب شاملة، عملت تلك النخب على إدارة وجه الدولة التركية نحو الغرب على الأصعدة كافة ضمن سلسلة إصلاحات جذرية ومتطرفة (ثورات أتاتورك) لم تستهدف القوانين ومؤسسات الدولة الرسمية وبنى المجتمع السياسية والاجتماعية فقط، بل مناحي الحياة شتى من الملبس (قانون القبعة) إلى الموسيقا (محاربة الموسيقا الشرقية) حتى اللغة (ثورة الحرف).

بينما كانت الجمهورية تخلق جنتها الغربية الأوروبية، حرصت بالتوازي على خلق جهنمها الشرقية العربية، إذ بعيداً عن أي امتداد عثماني محتمل لظاهرة العداء للعرب صار من الواضح أن «الكمالية» منحتها بُعداً أيديولوجياً سياسياً.

لقد قدمت نخب الجمهورية ثنائية صفرية تضم «الغرب المتطور» في مواجهة فزاعة «الشرق المتخلف» للتشديد على سعي تركيا للتحول إلى جزء من الغرب حضارياً وفكرياً وابتعادها عن فزاعة الشرق. وأكد أتاتورك مراراً سعيه للنهضة بتركيا إلى «مستوى الحضارات المعاصرة»، مع تداول مقولة منسوبة له يقول فيها إن «أطفال الأتراك لن يبذلوا دماءهم من أجل صحاري العرب بعد الآن».

هنا يُلاحظ السعي الكمالي للنأي بتركيا عن المشرق العربي وصراعاته قدر الإمكان، وفي الوقت نفسه، عملت «الكمالية» على توظيف فكرة أن «العرب طعنوا الأتراك في الظهر» خلال الثورة العربية الكبرى وكانوا سبب هزيمتهم، بل هم وحروفهم سبب التخلف والجهل قروناً. نجحت هذه المقاربة في خلق صورة استعلائية تعميمية تجعل العرب وكل ما يرتبط بهم من ثقافة ودين ولغة وحتى أبجدية نقيض الحداثة والتطور، وتربطهم بالتخلف الذي يجب أن «يترفع» عنه الأتراك لمصلحة التحضر الغربي.

يرتبط هذا العداء الكمالي للعرب بخطاب هذه الأيديولوجيا الداخلي أيضاً خاصة في سياق تعاملها مع الرافضين لمشروعها العلماني. ففي سياق هذا المشروع ورغبتها في القضاء على أي معارضة له، جعلت «الكمالية» من «محاربة الرجعية» على المستويات كافة واحداً من أبرز أهدافها، ودمجت في هذا القالب بين الإسلام والعرب عبر النظر إليه بوصفه «ديناً عربياً» يسعى لإضعاف الهوية القومية للأتراك لمصلحة فكرة الأمة.

 

تحولات الظاهرة وسياقاتها

حافظت ظاهرة العداء للعرب عبر السنوات على هويتها الأصلية المرتبطة بالنظرة «الكمالية» إلى الشرق والغرب وقضايا مختلفة مثل الدين والعلمانية. لكنها مرت مع الوقت بتحول لافت خاصة لدى بعض الفئات القومية المتطرفة.

لقد تزاوجت هذه الظاهرة، ولا سيما أطروحة خيانة العرب للأتراك، مع نزوع قومي انعزالي يمكن تلخيصه في شعار بعض القوميين: «لا صديق للتركي إلا التركي». ولا يمكن فصل هذا النزوع عن أفكار الوحدة التركية الطورانية التي يرى بعضهم أنها توجب تقديم الروابط العرقية على غيرها، بل حتى قطع أي روابط منافسة أخرى. تبرز هنا خصوصاً أطروحة استعلائية متمحورة حول الذات وتقدم الأتراك أنهم الشعب المتقدم والنبيل على عكس العرب.

يرتبط هذا النزوع الانعزالي القومي وعداؤه للعرب أساساً بمخاوف تاريخية متأصلة في الوعي السياسي التركي حول خطر تقسيم البلاد وضياع هويتها القومية الخاصة بسبب تهديدات مختلفة من بينها الثقافة العربية، وهي ما يعرف باسم «متلازمة سيفر» نسبة إلى اتفاقية سيفر التي أقرت تقسيم أراضي الدولة العثمانية في منطقة الأناضول عام 1920.

لكن من اللافت أن هذه المخاوف شهدت حضوراً كبيراً في السنوات الأخيرة مع بروز طرح مؤامراتي يرى أن الهجرات العربية-السورية بالذات إلى المدن التركية تأتي في سياق مشروع لتعريب البلاد وإزالة هويتها الخاصة، وهو ما منح ظاهرة العداء للعرب بعداً مصيرياً في تصورات البعض لمستقبل البلاد، ولا سيما على المدى البعيد.

في هذا الإطار، يروِّج بعض الساسة والأحزاب العنصرية القائمة على العداء للاجئين، وعلى رأسهم زعيم حزب النصر، أوميت أوزداغ، لفكرة أن الوجود السوري العربي في تركيا «احتلال صامت» يستهدف تغيير ديمغرافية البلاد، مع القول إن السوريين «لم يأتوا إلى تركيا لأن منازلهم قصفت، بل قُصفت منازلهم كي يأتوا إلى تركيا».

من المهم الإشارة هنا إلى أن ظاهرة العداء للعرب كانت قد اكتسبت بعداً سياسياً داخلياً أكبر، خاصة مع صعود ساسة ذوي أصول إسلامية محافظة إلى سدة الحكم وتبنيهم خطاباً أكثر قرباً إلى الشرق العربي وسياسة أكثر انخراطاً في قضايا المنطقة العربية. وهذا ما عزز وجهاً آخر للظاهرة غير مرتبط مباشرة بالعرب أنفسهم، بل بالصراع الداخلي بين سرديات مختلفة حول هوية البلاد الحقيقية ومكانها الصحيح في العالم.

مع أن تركيا تتبنى سياسياً ورسمياً سياسة متعددة الأبعاد، فإن الحدود الفاصلة بين هذه السرديات - على الأقل اجتماعياً - واضحة بين التيارات في الداخل التركي. فاليوم تتصارع سرديات مختلفة على صياغة هوية هذا البلد من أبرزها السردية الكمالية التي أوضحت مراراً أنها ترى البلاد جزءاً من الحضارة الغربية وتسعى لدمجها فيها، والسردية القومية التي تراها جزءاً من العالم التركي، والسردية الإسلامية التي تراها جزءاً من العالم الإسلامي، بل قائدته.

يلجأ خصوم السردية الإسلامية في الداخل إلى توظيف ظاهرة العداء للعرب كأداة للنيل منها على أساس أن توجيه النخب الحاكمة وجه البلاد نحو الشرق، ولا سيما العربي، مصيره الحتمي هو تراجع تركيا وتخلفها لتتحول إلى «دولة شرق أوسطية». وبالتوازي مع سعي هذه السردية وممثليها لتعزيز حضور تركيا ونفوذها عربياً، يركز خصومها الداخليون على الهجوم على هذه التوجهات الجديدة من بوابة العداء للعرب خاصة.

مثلًا وعلى هامش كل أزمة تركية-عربية خلال العقد الماضي، يُلاحظ بوضوح تصاعد أصوات داخلية تؤكد إخفاق السردية الإسلامية حول موضعة تركيا في العالم الإسلامي في إطار موجة انتقادات تكون ظاهرة العداء للعرب ملحوظة فيها على أنه «لا فائدة منهم لتركيا».

 

فلسطين المتخيلة كحالة

فلسطين واحدة من أبرز القضايا التي تحظى بدعم ملحوظ على المستويات الرسمية والحزبية والشعبية في تركيا. مع ذلك، ولأسباب مختلفة، ثمة تيار معادٍ لها. ومع الإقرار بأن هناك أسباباً ومنطلقات مختلفة لهذا العداء، لا يمكن فصله كلياً عن ظاهرة العداء للعرب لدى البعض في المجتمع التركي.

إضافة إلى أنصار إسرائيل الفعليين هناك تيار يرى نفسه أقرب إلى تل أبيب على أساس أن المعركة هي في الأساس معركة بين العرب-الفلسطينيين الذين يمثلون التخلف، وإسرائيل الأقرب إلى الغرب الذي يمثل التقدم، ويُلاحظ ذلك خاصة لدى التيار العلماني المتعلم.

أما بعض القوميين، فيلاحظ انحياز بعض الأصوات المتطرفة فيهم إلى إسرائيل في كل عدوان على فلسطين، ربما ليس حباً في الأخيرة بالمقام الأول، بل من باب هوية الضحايا العربية وأن الفلسطينيين-العرب يدفعون ثمن خيانتهم الأتراك قبل مئة سنة.

ليس هذا فحسب، بل مع عداء بعضهم للسردية الإسلامية التي تقدم تركيا كقائدة للأمة وحامية للمسلمين وتُمَركِزُ فلسطين في قلبها، تتحول القضية الفلسطينية، ولا سيما مع توظيف حزب العدالة والتنمية ونخبه لها في دعايتهم الداخلية، إلى جزء من حرب السرديات التقليدية في البلاد.

في النتيجة، تصير فلسطين والعداء لها لدى بعض التيارات جزءاً من صراعهم مع خصومهم الداخليين، وهو عداء لا يتناولها هي نفسها وحقائق قضيتها فعلاً رغم تمركزه حولها، بل يتمحور حول فلسطين متخيلة ومولودة من رحم الصراعات الداخلية.

 

واقع الظاهرة في الراهن

من الممكن القول اليوم إن ظاهرة العداء للعرب ظاهرة عابرة للطبقات الاجتماعية، وحتى الاصطفافات السياسية، وتنتشر بنسب مختلفة لدى عدد من طبقات المجتمع خاصة التيارات الكمالية العلمانية والقومية. ولا يبدو المستوى التعليمي عاملاً حاسماً في انتشارها خاصة أن العقلية الكمالية، التي ظلت حاضرة بقوة في مراحل مختلفة من عمر الجمهورية، وظفت طويلاً هذه الظاهرة في خطابها السياسي الاجتماعي المدعم بأدوات الدولة ومؤسساتها كالتعليم والبيروقراطية.

بذلك، صارت الظاهرة ما يمكن وصفه «مُسَلَّمات» ليس في الشارع فقط، بل في الإعلام أيضاً خاصة مع حرص بعض التيارات القومية حتى اليوم على التغذي من تأجيج هذا العداء. ومن الملاحظ أن انتشارها الجغرافي ليس مرتبطاً بمنطقة معينة بعينها، مع تأكيد أن الحضور العربي الملحوظ في تركيا في السنوات الأخيرة، ولا سيما في المدن الكبرى كإسطنبول، ساهم في زيادة بروزها في هذه الحواضر واتخاذها أحياناً أشكالاً ملموسة أكثر. فهذه الظاهرة التي ظلت في إطار الأحكام المسبقة والتصورات التعميمية عقوداً بدأت تتحول في المدة الأخيرة إلى مشادات كلامية متبادلة في العالمين الواقعي والافتراضي، وفي بعض الحالات النادرة إلى حوادث عنف.

من اللافت أيضاً أنها تترافق اليوم مع سعي واضح لتأكيد الاختلاف عن العرب على الأصعدة كافة، ولا سيما الحضارية، وتحديداً في نظر الأوروبيين. هكذا، تتظافر الأرضية التاريخية التي قدمتها «الكمالية» لظاهرة العداء للعرب مع الصورة السلبية لهؤلاء والإسلام في الغرب، وهو ما أنتج لدى بعض الأتراك ما يشبه الفوبيا من أن يُظن أنهم عرب، على أن ذلك إهانة.

ولا تبدو تركيا استثناءً من حالة صعود الخطاب الانعزالي اليميني في العالم خاصة مع بروز تيارات سياسية متطرفة تركز على العداء للأجانب واللاجئين في العديد من الدول. ومن الملاحظ في السياق التركي أن مختلف الظروف الداخلية والخارجية اليوم، جنباً إلى جنب مع الأرضية التاريخية للعداء للعرب، ساهمت في ظهور نزوع انعزالية وعنصرية لدى بعض الفئات.

لا يمكن الجزم هل ستظل هذه النزوع هامشية خاصة أن الأزمة الاقتصادية المتصاعدة ساهمت كثيراً في زحف الخطاب المعادي للاجئين، الذي يجر معه ظاهرة العداء للعرب، نحو مركز السياسة في البلاد، إلى درجة أن فكرة التهديد الديمغرافي صارت اليوم جزءاً أساسياً من مقاربة عدد من التيارات السياسية الكبرى، ولا سيما المعارضة.

لذلك، ومع ازدياد حضور العالم العربي في تركيا حالياً، والعكس بالعكس، صار من المهم تفكيك الظاهرة وقراءة تفاصيلها لفهم المستقبل وسيناريواته بما يتجاوز الجدال الصدامي المنغلق. فشراكة الجغرافيا والتاريخ تحتم السعي المشترك لتحديد المشكلات والعمل على نزع فتيلها بما يمكِّن الطرفين العربي والتركي من تطوير صيغة جوار معقولة وصحية تساهم في ازدهار المنطقة ورفاهية شعوبها معاً.

نور الدين العايدي

طالب علوم سياسية في تركيا.

×