10 كانون الأول 2024
26 تشرين الأول 2023
من ملف المعركة
«إذا لم تكن واعياً، فستجعلك الصحف تكره المقهورين، وتحب الذين يضطهِدون»
مالكوم إكس
ربما يحتاج المرء إلى التصرّف في تلك الصياغة البديعة والمحكمة في مطلع البيان الشيوعي لكي يصف ما يجري هذه الأيام في أوروبا: «شبحٌ ينتاب أوروبا: شبح فلسطين. ضد هذا الشبح اتحدت في طراد رهيب قوى أوروبا السائدة كلها: الحكومات والميديا، واليسار واليمين، والاشتراكيون الفرنسيون والبوليس الألماني». والأشد طرافة في هذه القصة أنّ الأحزاب الشيوعية الأوروبية نفسها جزء من هذا الحلف الذي يختفي وراء الإنسانوية الزائفة لكي يهرب من إدانة الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني.
هكذا بدأنا في أعقاب هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر نشمّ رائحة العفن. مناخ مسموم أشبه بسنوات الذعر الأحمر التي قادها السناتور الأميركي جوزيف مكارثي في الخمسينيات، مع مناخات من الترهيب الفكري ربما تماثل ما جرى في الولايات المتحدة بعد هجمات أيلول/سبتمبر 2001.
شيء ما متعفّن في واحة الحريات السياسية والصحافية والتعبير. البوليس الألماني يمنع رفع الأعلام الفلسطينية بحجة معاداة السامية مع أنّها راية بلد يشترك مع ألمانيا في عضوية الأمم المتحدة. والبوليس الفرنسي يحظر المظاهرات الداعمة لفلسطين بذرائع أمنية، ويجيز في الوقت نفسه المظاهرات الداعمة لإسرائيل.
أكثر من ذلك: مثقفون فلسطينيون يُحرمون جوائز مُنحت لهم قبل الهجوم، كما جرى مع الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي التي لم تُسلّم جائزة LIBERATURPREIS 2023 عن روايتها تفصيل ثانوي، ومَعارض كِتاب على غرار معرض فرانكفورت الأخير، تتحول من منابر لنشر المعرفة إلى أبواق دعاية. أما الميديا، فتعزف نغمة واحدةً كأنّ غرفة تحكّم مشتركة تديرها، وكذلك منابر النقاش العام والإعلامي مزروعة بالمعلقين المنحازين إلى إسرائيل.
فوق هذا قطاع من الكُتّاب العرب يُضطر مكسوراً إلى مجاراة الموجة بالاعتذار أو بإدانة المقاومة، ذلك أنّ العربي الجيّد في هذه المناخات المتعفنة هو الذي يدين نفسه ويعتذر عن مقاومة من يحتله.
(Bashar Taleb/Zuma Press)
تقفز القارة العجوز فوق تناقضاتها القومية والسياسية والأيديولوجية لتكون جبهة موحدةً خلف إسرائيل، فيما تتنادى فئة غالبة من المثقفين والمعلقين والكتّاب للدفاع عن الاحتلال، وتسندهم معارفهم وبراعتهم في النقاش. فهؤلاء هم، وفق لينين، «أكثر الناس قدرة على تشريع الإبادة، لأنهم أكثرهم قدرة على تبريرها»، كما فعل أسلافهم في تبرير اضطهاد اليهود خلال النصف الأول من القرن العشرين.
لا تخلو الساحة في مقابل هذا السيل من أصوات شجاعة تكسر الــ Matrix من أجل قول الحقيقة أو جزء منها، لأنّ قولها كاملة في مثل هذه الأجواء سيكون أشبه بالانتحار. ومع ذلك، يجازف بعضهم بدفع الثمن كاملاً لأنّ «الحقيقة وحدها ثورية».
تسطيح النقاش العام
شكّل هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر في أوروبا، بشكله وطبيعته ونتائجه، صدمةً لا تقل تأثيراً عن التي شكّلها للداخل الإسرائيلي، كونها بلدان تضمّ جاليات يهودية كبيرة، ولها ارتباطات عائلية مع إسرائيل. لقد كان الهجوم غير المسبوق نهايةً مأسوية للحلم الصهيوني عبر مهاجمة الكيبوتسات ومهرجان الموسيقا، إذ أنهت المقاومة فكرة «الواحة المتنعمة بالرخاء والازدهار وسط صحراء الشرق الأوسط البائسة» التي بشر بها الآباء المؤسسون للكيان.
لهذا، كان رد الفعل الأوّلي في الميديا الأوروبية، ولا سيما الألمانية والفرنسية، استعادة المأساة اليهودية والمحرقة، وشعوراً مشتركاً بأنّ ذلك الحلم الإسرائيلي يتهاوى. كما شكلت المقاطع التي نشرتها المقاومة وتداولتها وسائل الإعلام عنصراً إضافياً للرعب المصوّر.
ربما يكون هذا كلّه متوقعاً وطبيعياً، فهل نطلب من الأوروبيين أن يكونوا إلى جانب فلسطين في مواجهة إسرائيل؟ قطعاً لا. لكن هذه المرّة وخلافاً لمحطات الصراع السابقة ظهرت بقوة في الساحة وفي وقت وجيز عقيدة بوش الابن: «من ليس معنا هو ضدنا».
كانت هذه العقيدة التي أعلنها الرئيس الأميركي الأسبق عقب تفجيرات أيلول/سبتمبر قد أثارت انتقادات واسعة في أوروبا نفسها، ولا سيما في فرنسا حيث يشرع الآن التحالف الواسع بين الحكومات والميديا والأحزاب والمنظمات في حملة «صيد الساحرات» عبر وصم كل متعاطف مع فلسطين، أو معارض للإبادة الجماعية التي تقترفها إسرائيل في غزّة، بدعم الإرهاب وتشريع قتل المدنيين.
بلغت الحملة التشكيك في مواقف من يدينون ما فعلته المقاومة لكنّهم يحاولون تفسيره بالحصار المفروض على القطاع وبسياسات الحكومة الإسرائيلية المتطرفة. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل طاولت حملتهم الصامتين خاصة من المثقفين العرب المؤثرين أو ذوي الحضور القوي في سوق النشر، فدفعت بعضهم إلى إصدار مواقف تدين المقاومة.
ومثل جميع مناخات الترهيب الفكري، يتصف اليوم النقاش العام الأوروبي حول الصراع بالسطحية، لا المدفوعة بقفر معرفي بل المطلوبة في ذاتها، لأنّ تسطيح النقاش وفقاً لمقتضيات العقل البسيط القائم على الأبيض والأسود دون مراعاة تعقيد العالم وجدلية الوجود هو السبيل الوحيد لترسيخ كلام الاحتلال بوصفه السردية الوحيدة والحقيقية.
يساهم هذا التسطيح المصنوع في استغلال الصراع لإحكام السيطرة بصورة أكبر على المجال العام في أوروبا، ومن أولى علاماته محاولة تجميع قوس هائل من المنددين بالعنف دون النظر في جذور العنف نفسه، إذ يُطلب ممن يظهرون في التلفزيون، وبخاصة المثقفين المؤثرين، إدانة العنف ضد الإسرائيليين دون كلمة «لكن». فيبدو المشهد كأنّ هذا العنف المدان معلّق في السماء دون جذور، أو كأنّ هذا الصراع بدأ فجر السابع من تشرين الأول/أكتوبر.
مثلاً خلال مرور السلوفيني سلافوي جيجك في معرض فرانكفورت للكتاب قال إنّه يدين هجوم حماس «دون شروط ودون لو أو لكن»، ويعطي إسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها. مع ذلك، لم يستطع الفيلسوف الماركسي مقاومة إغراء التفسير، فحاول أن يستدرك: «في اللحظة التي يبدأ فيها المرء تحليل خلفية الوضع المعقد يُتهم بدعم إرهاب حماس».
بعد ذلك شرع جيجك في تحليل خلفية الصراع والحقوق الفلسطينية المهدورة على مدى أكثر من سبعة عقود، لتبدأ فجأةً الصفارات والاحتجاجات التي قادها مفوّض ولاية هيسن الألمانية لمكافحة معاداة السامية، أوفه بيكر.
يعالج جيجيك في كتابه Violence: Six Sideways Reflections [العنف: تأملات في وجوهه الستة] هذه المعضلة في تحديد العنف الموضوعي والعنف الذاتي. فالأخير الذي يُفهم عادة أنّه أعمال إجرامية وإرهابية لا يحدث في الفراغ. يؤكد الفيلسوف هذه النقطة بقوله: «العنف الذاتي هو ليس إلا الجزء الأكثر وضوحاً من الثلاثي الذي يتضمن أيضاً نوعين موضوعيين من العنف: الأول هو العنف الرمزي أي المتجسّد في اللغة وأشكالها، والثاني النظامي أي العواقب الكارثية غالباً المترتبة على السياسة والاقتصاد».
بعدها يشرح كيفية تطبيع العنف المنهجي وصعوبة اكتشافه «لأنّه غير مرئي ويمثّل الحالة الطبيعية والخلفية التي نرى في ظلها العنف الذاتي مثيراً للقلق». بمعنى آخر: هناك عنف قبل العنف، أي عنف موضوعي على المستوى النظامي والرمزي قبل أن يتجلى ظاهرياً بطريقة ذاتية أو في أعمال الإرهاب والجريمة وما إلى ذلك، وقد يكون غير مرئي.
يستطرد جيجيك كلامه على العنف المنهجي والذاتي وكيفية ارتباطهما بقصة تعود إلى عام 1922 عندما أجبرت الحكومة السوفياتية مجموعة كبيرة من المثقفين المناهضين للشيوعية على مغادرة البلاد نحو المنفى. وكان بينهم الفيلسوف نيكولاي لوسكي الذي «تمتع مع عائلته بحياة مريحة للبرجوازية الراقية، يدعمها الخدم والمربيات». كان لوسكي في حيرة من أمره بشأن سبب رغبة البلاشفة في تدمير أسلوب حياته «اللطيف»، لأنّه كان فاقداً للحساسية تجاه العنف المنهجي الذي كان لا بد من استمراره حتى تكون مثل هذه الحياة المريحة ممكنة.
وهذا بالضبط ما يفعله اليوم قطاع من المثقفين والميديا الأوروبية بالنظر إلى ما وقع في السابع من تشرين الأول/أكتوبر على أنّه عنف ضد المدنيين الأبرياء جرّاء عزله عن سياقه السياسي وجذوره التاريخية.
ربما كان الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري من أبرز نماذج هذه الاختزالية عندما حصر صراعاً ممتداً وتوازن قوى مختلاً في هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، رافضاً حتى النظر بنصف عين إلى الإبادة الجماعية في غزّة.
صناعة الخوف
المستوى الثاني من هذه المكارثية الجارية بثُّ أجواء الخوف والترهيب عبر ربط ما يجري في فلسطين بأزمات أوروبا المجتمعية ضمن عقيدة أمنية تسعى للسيطرة على المجتمع ومجاله العام. وربما لا تكفي كلمات كالهستيريا ورهاب الرأي المخالف للتعبير عما يجري في باريس.
المثال الأكثر شيوعاً لاعب كرة القدم الفرنسي من أصول جزائرية كريم بنزيمة الذي نشر تغريدة تقول: «كل صلواتنا من أجل سكان غزة الذين يقعون مرة أخرى ضحايا لهذه القصف الظالم الذي لا يستثني النساء ولا الأطفال». لم تمضِ ساعات حتى ظهر وزير الداخلية جيرالد دارمانان قائلاً بوثوق عجيب: «بنزيمة لديه علاقة سيئة السمعة كما نعلم جميعاً مع جماعة الإخوان المسلمون (...) على مدى سنوات، لاحظنا انجرافاً بطيئاً في مواقف بنزيمة نحو إسلام متشدد وصارم، وهو سمة من سمات أيديولوجية الإخوان الثابتة لنشر المعايير الإسلامية في مجالات الحياة خاصة الرياضة».
بعد ذلك بدأت حفلة طويلة من الهذيان الذي شارك فيه نواب وسياسيون فرنسيون. فاتهمت النائب نادين مورانو اللاعب بأنّه «عنصر دعائي لحماس»، فيما ذهبت النائب عن حزب اليسار فاليري بوير إلى حدّ المطالبة بسحب الجنسية من بنزيمة بوصفه «خائناً» رغم أنّه فرنسي المولد ولا يملك جنسية ثانية.
ثم جاء المرشح الرئاسي السابق إيريك زيمور، ذو التوجهات العنصرية، من بعيد ليحسم الخلاف بالقول: «بنزيمة يريد تطبيق الشريعة في فرنسا»، مؤكداً «وجود رابط مباشر بين بنزيمة والهجوم الإرهابي الذي راح ضحيته أستاذ في إحدى الثانويات الفرنسية قبل أيام».
في اليوم نفسه، هجمت قوات الشرطة على أحد محلات بيع الطعام في مدينة فالانس جنوبي البلاد لأنّ حرف C في كلمة CHAMAS تعطّلت إنارته في لافتة المحل الخارجية، فتحوّلت إلى HAMAS، وطالبت أصحاب المكان بتصليح اللافتة فوراً.
هذا كله يظهر كيف أنّ جزءاً من النخبة الحاكمة مسنوداً بجيش من الصحافيين والمعلّقين يحاولون الربط مباشرة بين ما يجري في فلسطين المحتلة والهجمات الإرهابية في فرنسا أو بلجيكا. وذلك لتبرير موقفهم المساند للمجازر الإسرائيلية في غزّة أولاً، وللاستفادة من مناخ الخوف الذي يتركه هذا الربط في نفوس السكان للمضي في تطبيق السياسات اليمينية المعادية للأجانب وترسيخ النهج النيو-ليبرالي الذي يدفع إيمانويل ماكرون منذ 2017 إلى توسيع نطاقه في فرنسا.
الخوف هو العصا السحرية التي تستعملها هذه النخبة للتعبئة داخل المجتمع، وذلك بتصوير ما يقع هنا وهناك أنّه «مؤامرة كونية كبيرة متعددة الأطراف يشارك فيها إرهابيون، من كل مكان، بعضهم بوجه سافر وبعضهم يحمل أقنعةً ويعملون في جميع القطاعات للسيطرة على البلاد».
اللافت أنّ هذا الأسلوب ليس جديداً بل يبدو قديماً ومكرّراً، وهو نفسه الذي يسلكه اليمين الأوروبي المتطرّف في وقت تزعم الحكومات الحالية محاربته لكنّها عندما تسنح لها الفرصة تعمل سريعاً على توظيفه.
أصوات شجاعة وتكلفة عالية
بعد يوم واحد من بداية الحرب أجرت Le Grand Continent، وهي إحدى المجلات الفكرية المؤثرة في أوروبا، مقابلةً مع جيرار أرو، الممثل الدائم لفرنسا لدى الأمم المتحدة (2009-2014)، وسفيرها لدى إسرائيل (2003-2006) والولايات المتحدة (2014-2019)، لاستطلاع رأيه في ما يجري. لكن إحدى إجاباته كانت لافتةً وخارج التيار العام عندما قال:
«ألاحظ الصمت المطلق من جانب الغرب إزاء تصاعد أعمال العنف التي يرتكبها المستوطنون ضد الفلسطينيين. عندما كنت سفيراً لفرنسا في إسرائيل كنت منتبهاً إلى ما يحدث منذ أشهر في الأراضي المحتلة في الضفة الغربية؛ إننا نشهد ارتفاعاً واضحاً للغاية في أعمال العنف، وحكومة نتنياهو تغض الطرف عن المستوطنين الأكثر تطرفاً بل تدعمهم».
وأضاف: «بطبيعة الحال، لن أقول ذلك على شاشة التلفزيون أو الراديو لأنّه في جو المشاعر الحالي سوف أتهم فوراً بتبرير ما لا يمكن تبريره».
كان أرو بوصفه جزءاً من النخبة الحاكمة واعياً بحدود ما يمكن قوله، ولذلك لم يخاطر بأن يصرح به على التلفزيون، وهذا على عكس ما فعله المؤرخ ونائب مدير مكتب الشؤون الإستراتيجية في وزارة الدفاع الفرنسية، بيار كونسا، عندما وصف ما تفعله إسرائيل بـ«التطهير العرقي» على شاشة CNEWS القريبة من تيار اليمين المتطرّف.
حدث هذا وسط ذهول مقدّم البرنامج الذي حاول احتواء الموقف محتجاً على استعمال أوصاف التطهير العرقي والإبادة الجماعية، لأنّه يجري احتكار هذه النعوت حصراً في السردية الإسرائيلية لتحريك الجرح الأوروبي التاريخي حول اضطهاد اليهود.
هكذا، تبدو الأصوات المدافعة عن الحق الفلسطيني، أو حتى المحايدة في توجيه النقد إلى الطرفين خجولة داخل فرنسا وألمانيا، وربما تريد التعبير بقوّة عن نقد تجاه إسرائيل لكنّها تخشى دفع الكلفة العالية لمثل هذه المواقف.
لعلّ نموذج الزعيم اليساري جان لوك ميلونشون لا يبدو مشجعاً لهؤلاء، إذ يواجه الرجل منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب حملةً غير مسبوقة لأنّه رفض وصف هجوم المقاومة بـ«الإرهاب». ووصلت الحالة إلى تهديده بالقتل مروراً بتفكك الجبهة اليسارية التي يقودها بسبب انحياز بقية مكوّناتها (حزب الخضر، الحزب الاشتراكي، الحزب الشيوعي) إلى إسرائيل.
في بريطانيا، لا يبدو المشهد مختلفاً. فقد دفع زعيم حزب العمّال السابق جيرمي كوربن الثمن غالياً قبل سنوات بسبب دعمه القضية الفلسطينية، فيما يدفع صحافيون وفنانون اليوم الثمن لأنّهم لم ينخرطوا في الجبهة الإعلامية والثقافية الموحدة لدعم الاحتلال.
في هذا السياق، أخضعت BBC عدداً من الصحافيين للتحقيق بسبب منشورات على وسائل التواصل تدين إسرائيل، فيما قررت The Guardian – صوت الليبرالية الاجتماعية - فصلَ رسام الكاريكاتير ستيف بيل الذي عمل في الصحيفة أكثر من أربعين عاماً بتهمة «معاداة السامية»، لأنّ رسماً له يحيل إلى شايلوك، المُرابي في مسرحية شكسبير تاجر البندقية، الذي يطلب رطلاً من اللحم البشري من شخص لا يستطيع سداد دينه.
في المقابل، تبدو القبضة أقل شدةً في دول أوروبا الطرفية. ففي اليونان مثلاً، عبّر المثقف والوزير السابق يانيس فاروفاكيس عن موقف متقدّم، رافضاً إدانة حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، دون أن يتعرّض لحجم الحملات التي تعرّضت لها مواقف أقل شأناً في دول أوروبا المركزية الثلاث (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا).
قال فاروفاكيس في مقابلة: «لن أدين هجوم حماس على إسرائيل؛ إنّ أولئك الذين يطلبون مني ومنكم ومن غيري إدانة الهجوم يصرّون على أنّ خسارة كل إنسان وكل طرف مبتور وكل عين بل كل إصبع مكسور هي مأساة، فلنكن مسؤولين؛ عملياً هم يريدون منا أن نقف إلى جانب إسرائيل، وهذا شيء لن أفعله أبداً، وأنا أتكلم عن نفسي».
وتساءل: «من بالضبط يطلبون منا إدانة حماس؟ هؤلاء هم أنفسهم من يتجاهلون قتل إسرائيل والجيش الإسرائيلي الصحافيين العزّل والممرضات والأطباء والأطفال! إنّهم يتذكرون القانون الدولي عندما يكون الضحايا إسرائيليين فقط، ويتذكّرون الأمم المتحدة وميثاقها، ولا يتذكّرون اتفاقية جنيف بشأن جرائم الحرب إلا عندما يكون الضحايا إسرائيليين».
واستدرك: «عندما يكون الفلسطينيون هم الضحايا، يصير ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي واتفاقية جنيف وكل هذه الأمور خارج عقولهم».
في الوقت نفسه، عبّرت نخب إسبانية عن تضامن نسبي مع الشعب الفلسطيني، وفي مقدمهم وزيرة الحقوق الاجتماعية إيوني بيلارا التي وصفت ما تفعله إسرائيل في قطاع غزة بـــ«جريمة حرب وإبادة جماعية».
لكن يبدو أنّ هذا التقابل بين مركز أوروبا وأطرافها في مدى حساسية النقاش العام تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي، وعن إسرائيل بالذات، ينبع أساساً من المسؤولية التاريخية للقوى المركزية الثلاث في صنع هذا الصراع ورعايته واستغلاله.
لنتذكر: بريطانيا هي المسؤول المباشر وألمانيا هي المسؤول الأخلاقي وفرنسا مركز أكبر جالية يهودية في القارة الأوروبية، ما يعني أنّهم ثلاثتهم مركز إدارة السردية الإسرائيلية. المفارقة أنّ النخب الفرنسية لم تكن منحازةً إلى جانب إسرائيل بهذا القدر شكلاً ومضموناً منذ القطيعة التي أجراها شارل ديغول لمسار الدعم غير المشروط للكيان في أعقاب حرب 1967، حين اعتبر إسرائيل جانباً معتدياً!
كاتب صحافي تونسي، وباحث مهتم بالعلوم الاجتماعية، صدر له: بنادق سائحة: تونسيون في شبكات الجهاد العالمي (2016)؛ المجموعة الأمنية: الجهاز الخاص للحركة الإسلامية في تونس (2017)؛ عشر ساعات هزّت تونس.. حريق السفارة الأمريكية ونتائجه (2019)؛ التاريخ السرّي للإخوان المسلمين في تونس (بالإنجليزية 2020).