4 تشرين الثاني 2024
14 شباط 2024
لعلّ ما حدث في البرلمان العراقي يوم السبت 10 شباط/فبراير الحالي، ومحاولة بعض النواب إعادة إنتاج، أو إحياء، قانونٍ يلزم الحكومة الاتحادية بطرد القوات الأميركية بوصفها قوات احتلال، ثم الإخفاق في تحقيق النصاب اللازم، يشرّع الأبواب أمام أسئلة كثيرة، خاصةً أنّ الخيوط الماسكة لما حدث تؤكّد أنّ تحت الرماد جمراً يستعر، وأنّ انفجار الأوضاع في بلاد الرافدين ما زال مؤجّلاً، وأنّ السابع من تشرين الأول/أكتوبر لم يكن طوفاناً فلسطينياً فحسب، وإنّما له نسخته العراقية.
ثمة إطاران للتحالفات السياسية القائمة في العراق حالياً لا بدّ من تحديدهما: الإطار التنسيقي، وتحالف إدارة الدولة. الأوّل تجمّعٌ سياسيٌّ للأحزاب الشيعية الداعمة لحكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وجلّهم من المحسوبين على الجمهورية الإسلامية في إيران. بين هذه الأحزاب تباينات تصل حدّ القطيعة، ولكن الضغوط «الشرقيّة» والخوف من أي عودةٍ لزعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، يفرضان الاتحاد والإبقاء على هذا الائتلاف.
أما الثاني، «إدارة الدولة»، فهو ائتلاف يتجاوز الهوية الطائفية الشيعية ويجمع القوى التي شكّلت الحكومة الحالية، من الشيعة والسُنّة والكورد والمكوّنات الأقلويّة الأخرى. يرأس هذا التحالف عمّار الحكيم، الباحث دائماً عن عنوانٍ يكرّس زعامته التي خفت بريقها بعد خطابٍ سياسيّ متذبذب أراد به الابتعاد عن طهران، لكنّه وجد نفسه في نهاية المطاف عائداً إلى أعتابها.
قوى هذا الفريق تخطّت بدورها حدّ القطيعة بينها، بل بلغت حدود الابتزاز والاستهداف والتسقيط والمواجهات المسلحة. غير أنّ ما يَحفظ حتى اللحظة هذا الائتلاف من انفراط عقده هو غياب الفاعل الخارجي الموجّه إلى إعلان مماثل، من جهة، وحرص الفاعل الداخلي المتمثّل في رئيس الوزراء على إشباع تلك القوى من كعكة المكاسب والمصالح، من جهة ثانية.
هذه هي تقريباً الخريطة السياسية العراقية تحت كنف الحكومة الحالية. لم يكن ثمة قدر وازن من الوفاق والوئام بين مختلف مكوّناتها منذ لحظة التشكيل نهاية 2022، وما يُنقل عن قادتها من أحاديث واتهامات ودسائس في الكواليس لا يُصدّقه مجنون! لكن منذ السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر، لحظة تغيّر كلّ شيء في الإقليم، صار هذا المشهد يموج فوق معادلة أنّ ما بعد «السابع» لن يكون كما قبله محلياً، لأنّ الحدث الفلسطيني أخذ «خطّه الخاص» إلى العراق، بل كانت له أيضاً نسخته العراقية الخاصة مع دخول الفصائل المسلحة المنضوية تحت لواء «محور المقاومة» سريعاً إلى المواجهة، وجعْلها الميدان العراقي جزءاً لا يتجزّأ من رقعة المعركة الإقليمية الدائرة.
ثمة مؤشرات سياسية حالية توجب التفسير لإيضاح مآلات المشهد العراقي القلق، وإذا جمعنا إليها الأزمةَ الاقتصادية المستمرة والانهيار البطيء لسعر الدينار مقابل الدولار، فالمؤكد أنّ حجم الأزمات المتراكمة وانعدام الثقة بين القيادات السياسية وتمسّكها بمبدأ التهميش والإقصاء سيفجّر الأوضاع في «لحظة الخارج» المناسبة. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى ثلاثة أحداثٍ أساسية ما تزال تداعياتها سارية المفعول، قد لا يجمع بينها خط ظاهر ولكنّها ستقودنا في نهاية المطاف إلى خلاصةٍ واحدة.
نستعرض في هذا التقرير الذي أعددناه بناءً على اتصالات كثيرة أجريناها مع قوى وشخصيات عراقية مختلفة وأخرى إقليمية، حجمَ تشابك الأحداث في العراق وتداعياتها وكيف أنّها ستقودنا في نهاية المطاف إلى خلاصةٍ واحدة.
7 أكتوبر في نسخته العراقية
مع دخول الفصائل العراقية المسلحة على خطّ المواجهة الإقليمية، برز أمرٌ مهمٌ هو انفراط عقد تنسيقية المقاومة العراقية التي كانت قد زادت من عملياتها ضد القوات الأميركية إبّان الحكومة الماضية برئاسة مصطفى الكاظمي. ثم ظهر لاحقاً عنوانٌ آخر هو المقاومة الإسلامية في العراق، فما الفارق بين المسميْن؟
ضمّ الأوّل حركة عصائب أهل الحق (بزعامة قيس الخزعلي)، وكتائب حزب الله – العراق (بزعامة أبو حسين الحميداوي)، وكتائب سيّد الشهداء (بزعامة أبو آلاء الولائي)، وحركة النجباء (بزعامة أكرم الكعبي)، وحركة أنصار الله الأوفياء (بزعامة حيدر الغراوي).
أما الثاني، فقد شهد خروج الخزعلي ورفضه الدخول في هذه المواجهة حفاظاً على «مكتسباته الواسعة» التي منحه إياها السوداني. وقد قدّم الخزعلي في الآونة الأخيرة «رسائل طمأنة إلى عدد من الجهات الإقليمية والدولية» التي تقف في الجبهة المناهضة لطهران، مع العلم أنّ ضابط الارتباط بينه وبين تلك الجهات «هو أخوه ليث الذي تكثر سفراته الإقليمية والدولية». وبدأت القيادة الإيرانية «تنظر إلى قيس بعين الشك»، خاصة أنّه لم يعد يرغب لا بخطاب المقاومة ولا بعملياتها.
رفض الخزعلي الدخول في المواجهة حفاظاً على «مكتسباته الواسعة»
ضاعفت المقاومة الإسلامية في العراق، «الكتائب» على وجه الخصوص، العمليات الهجومية ضد القوات الأميركية منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، بعد هدوءٍ دام لمدّة عام تقريباً (2022 – 2023). أما التحوّل الكبير، فوقع في نهاية الشهر الماضي مع مقتل وإصابة عدد من الجنود الأميركيين في نقطة T 22 عند المثلث الحدودي العراقي – الأردني – السوري، وإعلان «الكتائب» وقف عملياتها نتيجة ضغطٍ إيرانيٍّ كبير، ثم الردّ الأميركي باغتيال قائد وحدة المسيّرات في التنظيم أبو باقر الساعدي.
ستعلن «الكتائب» بعد ذلك عودتها من جديد إلى تنفيذ عمليات، ولكن بوتيرةٍ وحدّةٍ أقل من المعتاد. وقد فُسِّر الأمر بأنه محاولةٌ لحفظ ماء الوجه وإظهار «استقلالية» قرار الحميداوي عن قيادة قوّة القدس في الحرس الثوري الإيراني. مع العلم أنّ الجميع يدرك أنّ هناك «تقسيماً» للأدوار تمارسه القيادة الإيرانية على وكلائها العراقيين لدفع الحرج عن نفسها وعنهم من جهة، وللحفاظ على حالة الزخم العملياتي من جهة ثانية.
انسحب هذا المشهد بتعقيداته الميدانية والداخلية والإقليمية والدولية، على البرلمان العراقي حين دعت قوى الإطار التنسيقي إلى جلسةٍ في العاشر من الجاري تهدف إلى إقرار قانون ملزم للحكومة بإخراج القوات الأميركية. هو المشهد ذاته، والقرار ذاته، بعد اغتيال الأميركيين للجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس مطلع العام 2020، ولكنّ قوى «الإطار» أخفقت حتى في توفير النصاب رغم حيازتها أكثر من 170 مقعداً برلمانياً من أصل 329، وبالتالي قدرتها مجتمعةً على إقرار قانون تنادي به منذ أسابيع. وهذا يدلُّ على حجم التباين في تصوّرات القيادات السياسية الشيعية لدور القوات الأميركية وقوات التحالف الدولي العاملة في العراق.
ما علاقة الحلبوسي؟
لمحمد الحلبوسي كتلةٌ نيابيّةٌ وازنة (38 مقعداً)، ومشاركتها في جلسةٍ مماثلة يُخرِج هذا القانون من العباءة الشيعية إلى الفضاء الوطني. ولكنّ الحلبوسي الطامح إلى أن يكون الزعيم الأوحد لـ «المكوّن السُنّي»، لم يتقبّل بعد صفعة طرده من البرلمان وتجريده من كرسيّ الرئاسة في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، على إثر تواطئ علنيٍّ بين عددٍ من قادة «الإطار» والمؤسسة القضائية.
يدرك الحلبوسي جيّداً أنّ الدولة ومؤسساتها باتت اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى القرار الإيراني، وهذا ما يشكّل – بالنسبة إليه وإلى «المكوّن السُنّي» – عامل قلقٍ يفرض التمسّك بالنقيض، أي الأميركيين. والمقصود هنا رفض أي انسحابٍ للقوات الأميركية من غربي العراق وشماله، لأنّه سيجعل تلك المناطق «مستباحة أمام المليشيات الشيعية» ويضرب الزعامة الحلبوسية في معقلها.
بناءً على ذلك، رفض الرجل بشكلٍ قاطعٍ مشاركة كتلته في جلسة إقرار قانون طرد القوات الأميركية وقوات التحالف الدولي من العراق. وكان رفضُ بعض قادة «الإطار» انتخاب مرشحه، شعلان الكريّم، بديلاً عنه في رئاسة البرلمان في منتصف كانون الثاني/يناير، قد عزّز موقفه بعد الجلسة الأخيرة التي ترجمت انقساماً حقيقياً داخل قوى «الإطار»، بين مؤيّدٍ للكريّم وبين رافضٍ له.
هرجٌ ومرجٌ شهدته تلك الليلة التي كرّست محسن المندلاوي الآتي من عالم المال والأعمال، رئيساً «مؤقتاً» للبرلمان، وسط دعوات بعض الوجوه المتطرّفة داخل «الإطار» إلى الإبقاء عليه حتى نهاية الولاية التشريعية بحجة «رفض المكوّن السُنّي تأمين نصاب الجلسة، وبالتالي لا نصاب لأي جلسة انتخاب رئيسٍ للبرلمان».
هذا التعامل يراه الحلبوسي، ومن معه ومن ضده من «المكوّن»، «محاولة شيعية» لإقصاء الوجوه السُنيّة، ودعوة لاستجلاب دعمٍ خارجي وتوفير الغطاء الملائم لمواجهة هذا «التمدّد غير المقبول على حقوق المكوّنات الأخرى»، وذلك في ظل التباين الكبير بين رؤى قادة «الإطار» تجاه التعامل مع الأطراف المقابلة من جهة، وصراع المعنيين في طهران وعجزهم عن ضبط «البيت الشيعي» وجموحه من جهةٍ ثانية.
ما يجب فعله بالنسبة إلى الحلبوسي هو «تحمّل الصفعات» وتمرير الوقت وانتظار جلاء غبار المعارك في غزّة والإقليم لكي يبني على الأمر مقتضاه.
الانتخابات المحليّة: «الإطار» يخسر وينقسم
عكست جلسة انتخاب بديل الحلبوسي صراعاً شيعياً – شيعياً أكثر من كونه صراعاً سنياً سنياً. فانقسم «الإطار» على نفسه بين مؤيد للكريّم (تبنّى هذا التوجّه زعيم منظمة بدر هادي العامري)، وبين داعمٍ للرئيس الأسبق للبرلمان محمود المشهداني الذي تبنى زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي ترشيحَه، في محاولةٍ منه لإعادة «الحرس القديم» إلى الرئاسات الثلاث، خاصةً أنّه يعرب في مجالسه الخاصة على الدوام عن «سخطه على أداء السوداني وسوء إدارته وانصياعه التام أمام رغبات الخزعلي».
ما يجدر ذكره أنّه قبل الجلسة انعقد اجتماع لقيادة «الإطار» جرى خلاله الإجماع على تمرير محمود المشهداني رئيساً خلفاً للحلبوسي، ورفض المجتمعون انتخاب الكريّم بحجة أنّه بعثي (ظهر تسجيل للكريّم يعود إلى عام 2006 يمجّد فيه صدام، علماً أنّه كان من مؤيدي الولاية الثانية للمالكي في عام 2010). غير أنّ مجريات الجلسة شهدت انقساماً بين نوّاب «الإطار» وظهر توجه يدعم الكريّم، في مشهد أعقبه خلاف حاد بين العامري والمالكي بلغ حدّ التخوين ثم القطيعة قبل أن يسارع فالح الفيّاض إلى عقد جلسة صلحٍ بينهما.
شعر المالكي بعد الجلسة بأنه «تعرّض للغدر والخيانة»، وأنّ هناك من يسعى إلى ضرب صورته ونفوذه. وهو يدرك أنّ الدور الوظيفي لـ «الإطار» قد انتهى، في قناعة عزّزتها جلسة انتخاب البديل وانتخابات مجالس المحافظات في نهاية العام. فـ «الإطار» تلقى ثلاث صفعات قاسية في البصرة وكربلاء وواسط، بعد فوز قوائم المحافظين على القوائم المدعومة من قواه مجتمعة. إن دلّ هذا، فإنّما يدلّ على اندفاع المقترعين نحو من يقدّم الخدمات فعلاً لا قولاً، فيما بدا أنّ قادة «الإطار» اتّحدوا حول كسر إرادة المقترعين، وحاولوا جاهدين إزاحة المحافظين الثلاثة بحجة رفض تجديد الوجوه القديمة. غير أنّ المالكي الذي خسر مسقط رأسه كربلاء، سعى إلى ردّ اعتبار خسارة المشهداني في رئاسة البرلمان، ولكي يقضي على رغبة العامري في رفض التمديد للمحافظين الثلاثة، سارع إلى الاتصال بمحافظ البصرة أسعد العيداني، مؤكداً دعمه الكامل له واستعداد ائتلاف دولة القانون التصويت لصالحه.
وعلى خطٍّ موازٍ، سعى العامري إلى إبرام صفقةٍ مع محافظ كربلاء ناصيف الخطابي، في حين اقترب محافظ واسط محمد جميل المياحي من تحالف سند بزعامة شبل الزيدي الذي استطاع أن يحدِث خرقاً واضحاً داخل «الإطار» وداخل تحالف نبني (تحالف الفتح سابقاً). أما المحافظات الجنوبية الأخرى ذات الغالبية الشيعية، فقد خضعت لبازار المحاصصة مجدّداً.
لم يرضَ قادة «الإطار» بـ «القسمة»، ولكنّهم يقرّون بأنّ خسارة المحافظات الثلاث مؤشرٌ خطرٌ على حضورهم الشعبي، وعلى مدى اقتناع الناخبين بهم في الدورة الانتخابية المقبلة (المقرر إجراؤها في 2025)، خاصّةً أنّ نسبة المقترعين لم تتجاوز 25 بالمئة وسط مقاطعة التيّار الصدري والقوى المدنية والشريحة «الرمادية» التي ترصد موقف المرجعية الدينية العليا من استحقاقاتٍ مماثلة.
ماذا يعني ذلك؟
ثمة خلاصةٌ واحدة، وهي أنّ «الإطار» ائتلافٌ هشٌّ يسوده التباين في وجهات النظر، رغم إظهاره تماسكاً صلباً. ومع انتهاء دوره الوظيفي، فإنّه بات في حكم «الميت سريرياً» بانتظار «شجاع» يعلن ذلك. ولكن الأمر مرهون بمواقف الصدر الذي يُتوَقّع أن يعود إلى المشهد السياسي بعد عيد الفطر، ويُقال إنّ خطواته قد تحدث هزّةً للحكومة وداعميها.
أما ائتلاف إدارة الدولة فهو ميّتٌ هو الآخر، خاصةً أنّ المكوّنات الأخرى لم تلمس جديّة في تنفيذ ورقة التفاهم السياسي التي شُكّلت الحكومة على أساسها قبل أكثر من سنة ونصف السنة. الإقصاء الممنهج لـ «المكوّن السُنّي»، والابتزاز الدائم لـ «المكوّن الكردي» (وفق تعبير مصادر قيادات المكوّنين) مؤشرات لا تبعث على الطمأنينة بل توجب قلقاً قابلاً للانفجار في أي وقت.
لذا قد يكون السؤال الأخير الأمثل: ضحية أيّ إخفاق، أو أيّ صراع من الصراعات المحلية والخارجية الكثيرة في العراق، ستكون حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني؟ وماذا سيكون الثمن؟
اسم مستعار لصحافي عراقي.