10 كانون الأول 2024
23 كانون الثاني 2024
صدرت هذه المقالة في نسختين، فرنسية وإنكليزية، ضمن عدد آب/أغسطس 2023 لصحيفة Le Monde diplomatique الشهرية، وقد استهلّها الكاتب الذي يعدّ حالياً من أهم منظّري المدرسة الواقعية في مجال العلاقات الدولية، بتقديمٍ موجز يقول: «إنّ الهدف الأوّل لأيّ دولة، في سياق تقييمها المشهد الجيوسياسي، يتمثّل في ضمان بقائها واستمرارها، سواء أكانت ديمقراطية أم سلطوية. والسبيل الأساسي لتحقيق هذا الهدف هو القوّة العسكرية والتحالفات».
نقلها إلى العربية حبيب الحاج سالم ومحمود مروّة.
قبل ثلاثة عقود، اعتقد خبراء غربيون كثر بأنّنا قد بلغنا نهاية التاريخ، وبأنّ الحروب بين القوى العظمى غدت من الماضي. غير أنّ هذا الوهم لم يصمد أمام اختبار الزمن. فعالمنا اليوم ليس أمام مواجهة واحدة بين قوى كبرى، كما كان الحال عليه في حقبة الحرب الباردة، بل أمام اثنتَين: الأولى بين الولايات المتحدة وروسيا في أوروبا الشرقية (بشأن أوكرانيا)، والثانية بين الولايات المتحدة والصين في شرق آسيا (بشأن تايوان). وقد يرتقي هذان الصراعان إلى مستوى الحرب المفتوحة في أي لحظة.
في الجوهر، طرأ على السياسة الدولية حديثاً تحوّل ضخم لا يوائم الغرب. فما الذي حدث؟ ما الذي يفسّر هذا التحوّل وإلى أين يتّجه العالم؟ تتطلب الإجابة على هذين السؤالين الاستناد إلى نظرية في العلاقات الدولية توفّر إطاراً عاماً من شأنه تفسير سلوك الدول، ويعيننا في فهم عالم معقّد وغير مستقر.
لا ريب في أنّ النظرية الأفضل لفهم السياسة الدولية هي النظرية الواقعية. فهي تفترض أنّ الدول هي الجهات الفاعلة الأبرز وتتعايش في عالم يفتقر إلى سلطة عليا قادرة على حمايتها من بعضها البعض. لهذا السبب، تضطرّ الدول إلى مراقبة كيفية تطوّر ميزان القوى عن كثب، لأنّها ما إن تضعُف حتى تغدو عرضة للخطر. ورغم تنافسها على القوّة [Power]، فإنّ ذلك لا يمنعها من التعاون عندما تتقاطع مصالحها. ولكنّ العلاقات بين الدول بشكل عام – وخصوصاً بين القوى العظمى – تخضع أساساً لمبدأ التنافس، وفق النظرية الواقعية. كذلك، تسلِّم هذه النظرية بأنّ الحرب أداة من بين أدوات الحكم، وأحياناً قد تبدأ الدول حروباً لتعزيز مكانتها الإستراتيجية. وكما يقول كلاوزفيتز: إنّ الحرب هي استمرار للسياسة إنّما بوسائل أخرى.
الغرب لا يحبّذ الواقعية
ليست الواقعية من النظريات المحبّذة في الغرب، حيث يُنظر على نطاق واسع إلى الحرب باعتبارها شرّاً لا يمكن تبريره إلا في حالات الدفاع عن النفس، وهو ما يتوافق مع ميثاق الأمم المتحدة. وعليه، لا يمكن في أي حال من الأحوال، وفق ذلك، اعتبار الحرب استمراراً للسياسة بوسائل أخرى. أيضاً تُواجَه النظرية الواقعية بالرفض لأنّها شديدة التشاؤم: فهي تفترض ألا مفرّ من التنافس بين القوى العظمى، وأنّ هذا التنافس سيُفضي حتماً إلى نتائج مأسوية. أخيراً، تحاجج الواقعية بأنّ الدول كافة – الديمقراطية منها أو الاستبدادية – تتبع المنطق عينه. ولكن في الغرب، تعتقد غالبية الناس بأنّ طبيعة النظام عاملٌ بالغ الأهمية، وبأنّ الديمقراطيات الليبرالية تميل بطبعها إلى الحفاظ على السلام، في حين أنّ الأنظمة الاستبدادية هي المحرّض الرئيسي على الحرب.
من غير المُستغرَب بالتالي أن يؤثِر الغرب النظرية الليبرالية، التي تُعدّ النقيض التام للواقعية. ومع ذلك، تتصرّف الولايات المتحدة في معظم الحالات طبقاً لإملاءات الواقعية، وإن حاولت إخفاء حقيقة تصرّفاتها بخطاب أخلاقوي. فخلال الحرب العالمية الثانية، تحالفت هي مع الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين، وقد دعمت لاحقاً مجموعة من أقسى الحكام الاستبداديين على. غرار: تشانغ كاي-شيك في الصين، ومحمد رضا بهلوي في إيران، وري سينغ مان في كوريا الجنوبية، وموبوتو سيسي سيكو في زائير، وأناستاسيو سوموزا في نيكاراغوا، وأوغستو بينوشيه في تشيلي.
الاستثناء الوحيد هو الحقبة «الأحادية القطب» (من عام 1991 إلى عام 2017)، عندما تخلّت الحكومات الأميركية، الديمقراطية والجمهورية على حدّ سواء، عن الواقعية وحاولت إنتاج نظام عالمي ترعاه ويقوم على قيم الديمقراطية الليبرالية، أي سيادة القانون واقتصاد السوق وحقوق الإنسان. لسوء الحظ، مُنيت إستراتيجية «الهيمنة الليبرالية» هذه بفشل ذريع، وأدّت دوراً لا يُستهان به في التسبُّب بالاضطرابات التي يشهدها عالمنا اليوم. لو كان الزعماء الأميركيون قد انتهجوا سياسة خارجية واقعية بعد نهاية الحرب الباردة في عام 1989، لكان عالمنا أقل خطورة بكثير اليوم.
كل دولة ترعى مصالحها
ثمّة نظريات واقعية متعدّدة. يعتبر العالم السياسي الأميركي هانز مورغنثاو أنّ الطبيعة البشرية تقود الدول في سعيها إلى القوّة، وأنّ الزعماء يحرّكهم animus dominandi، أي الدافع الفطري للسيطرة على الآخرين. في المقابل، أعتقد شخصياً أنّ قوّة الدفع الأساسية هي في بنية النظام الدولي أو هيكليته. فسِمات الأخير المميِّزة تدفع الدول – بخاصة القوى العظمى – للتنافس باستمرار على القوّة.
علينا أن ندرِك أولاً أنّ الدول تعمل ضمن نظام فوضوي، يفتقر إلى سلطة عليا يمكن اللجوء إليها في حال مواجهة تهديد من دولة منافسة. لذلك، يجب على كلّ دولة أن ترعى مصالحها في عالم كهذا. وتجدر الإشارة إلى عاملَيْن يعيقان هذا المسعى في النظام الدولي. فالقوى العظمى كافة تمتلك قدرات عسكرية هجومية – رغم أنّ قدرات بعضها أكبر بكثير من سواها –، ما يعني أنّها قادرة على إلحاق أضرار جسيمة ببعضها البعض. ومن الصعب أيضاً، إن لم نقُل من المستحيل، التأكُّد من أنّ نوايا حميدة لدولة أخرى، لأنّ النيّات – بخلاف القدرات العسكرية – تقبع في أذهان صانعي السياسات وحدهم ولا يمكن معرفتها كاملةً. كما أنّه أكثر صعوبة توقّع ما قد تفعله هذه الدولة أو تلك في المستقبل، لأنّ أحداً لا يستطيع التنبؤ بمن سيتسلّم مقاليد الحكم فيها، مع العلم أنّ نوايا الدول تتغيّر في الغالب بتغيُّر ظروفها.
من الطبيعي أن تخشى الدول بعضها البعض في عالمٍ ترعى فيه كلّ دولة مصالحها الخاصة، إذ قد تجد نفسها في أيّ لحظة في مواجهة خصمٍ قوي يعتزم مهاجمتها، رغم أنّ شدّة هذه الخشية تختلف من حالة إلى أخرى. إنّ الطريقة الأمثل لدولة عقلانية للبقاء في مثل هذا العالم المحفوف بالمخاطر، هي في التفوّق على الدول الأخرى من حيث القوّة والحرص على ألا تكون ضعيفة. فقد أثبتت تجربة الصين خلال «قرن الذُلّ»، الذي امتدّ من عام 1839 إلى عام 1949، أنّه حين يكون بلد ضعيفاً، فإنّ دولاً أقوى يرجَّح أن تستغلّه. من الأفضل في العلاقات الدولية أن تكون الوحش غودزيلا [في فِلم رسوم المتحرّكة القصير Bambi Meets Godzilla بامبي تلتقي غودزيلا] من أن تكون الغزالة بامبي.
قد يبدو الاتحاد الأوروبي استثناءً يشذّ عن هذه القاعدة، ولكنّه ليس كذلك. فقد ظهر تحت حماية المظلّة الأمنية الأميركية التي جعلت الصراع العسكري بين الدول الأعضاء مستحيلاً، وأعتقتها من الحاجة إلى خشية بعضها البعض. ويفسّر ذلك خوف الزعماء الأوروبيين من المشارب كافة من أن تستدير الولايات المتحدة إلى آسيا وتترك أوروبا خلفها.
باختصار، تتّسم سياسات القوى العظمى بتنافس [على القوّة] لا يلين، إذ لا تسعى الدول خلف فرص من أجل كسب نفوذ نسبي فحسب، إنّما أيضاً إلى منع اختلال الميزان ضدها. ويمكن للدول تحقيق هذا الهدف، المعروف باسم الموازنة [balancing]، إما عن طريق تعزيز قوّتها أو عن طريق تشكيل تحالف ضد خصم خطير رفقة دول أخرى مهدَّدة. ففي عالم تسود فيه الواقعية، تُقيَّم القوّة بصورة أساسية استناداً إلى القدرة العسكرية للدولة، والتي تعتمد في النتيجة على التقدّم الاقتصادي وعلى عدد سكان مرتفع.
فوائد الهيمنة الإقليمية
إنّ الوضع المثالي لقوّة عظمى هو في أن تكون قوّة إقليمية – أن تسيطر على إقليمها من العالم – مع ضمان ألّا تنازعها على هذه الهيمنة أيّ قوة أخرى، سواء أكانت متوسطة أم كبرى. تشكّل الولايات المتحدة نموذجاً ناصعاً لهذا المنطق. فخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، سعت جاهدةً لإحراز هيمنتها في الأميركيتَين. وفي القرن العشرين، ساهمت في منع الإمبراطوريتين الألمانية واليابانية، ثم ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي، من التحوّل إلى قوى إقليمية مهيمنة في آسيا وأوروبا.
الهدف الأساسي لأيّ دولة هو البقاء حتماً، فإذا لم تضمن بقاءها، لن تتمكن من بلوغ أيّ من أهدافها الأخرى، على غرار تحقيق الازدهار أو نشر أيديولوجيتها. وبالمثل، يمكن للقوى العظمى أن تتعاون في حال تقاطعت مصالحها، وفي حال لم يخلّ هذا التعاون بمواقعها في ميزان القوّة. يُذكَر على سبيل المثال تعاون القوى العظمى إبّان الحرب الباردة من خلال توقيع معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية (1968)، رغم أنّ العلاقة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي ظلّت قائمة على التنافس في جوهرها. وعشية الحرب العالمية الأولى، كان ثمة تقاطع مصالح اقتصادي راسخ بين القوى الأوروبية العظمى، ولكن كانت هناك أيضاً منافسة أمنية [Security competitions] شرسة بين هذه الدول نفسها، وطغت في نهاية المطاف على التعاون الاقتصادي وقادت إلى الحرب. تشير هذه الأمثلة إلى أنّ التعاون بين القوى العظمى يأخذ مكانه دائماً في ظلّ منافسات أمنية.
يعتبر بعضُ نقّاد النظرية الواقعية أنّها تستخفّ بدور المؤسسات الدولية، التي تشكّل حجر الزاوية لنظام دولي قائم على القواعد. لكنّهم مخطئون في ذلك: فيقرّ الواقعيون بأنّ هذه المؤسسات ضرورية من أجل خوض المنافسات الأمنية في عالم تعتمد دوله على بعضها البعض – كما كانت حال منظمة حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو إبّان الحرب الباردة – ومن أجل تسهيل التعاون الاقتصادي والسياسي – وهو الدور الذي تؤدّيه منظمة التجارة العالمية والأمم المتحدة راهناً. لكنّ الواقعيين يشدّدون على أنّ القوى العظمى تكتب قواعد هذه المؤسسات لتوائم مصالحها الخاصة، ولا يمكن لهذه المؤسسات تحت أي ظرف أن تجبِر دولة عظمى على التصرُّف بطرق قد تهدّد أمنها. ففي تلك الحالة، ستعمد الدولة العظمى ببساطة إلى انتهاك القواعد أو إعادة صياغتها لصالحها.
يتناقض هذا المنطق مع الاعتقاد السائد في الغرب بأنّ الديمقراطيات الليبرالية تتصرّف بصورة مختلفة عن الدول الاستبدادية، التي يُروَّج أنّها تهدّد النظام العالمي القائم على القواعد وتشكّل عموماً العقبة الأساسية أمام تحقيق السلام. غير أنّ السياسة الدولية لا تسير على هذا النحو. لا تحظى طبيعة النظام بأهمية كبيرة في عالم ترعى كلّ دولة فيه مصالحها الخاصة وتسعى دائماً إلى ضمان بقائها. فالولايات المتحدة، وهي دولة ليبرالية بامتياز، لم تتردّد في خرق القانون الدولي عندما هاجمت يوغوسلافيا في عام 1999 والعراق في عام 2003، وعندما أشعلت حرباً أهلية دامية في نيكاراغوا في الثمانينيات. بالتالي، عندما تشعر الدول العظمى بأنّ مصالحها الحيوية مهدّدة، حينها تغدو عديمة الرأفة، أياً كانت طبيعة الأنظمة التي تحكمها.
يرى بعض الخبراء أنّ «الثورة النووية» أفرغت الواقعية من جزء كبير من جوهرها. فهم يعتبرون أنّ السلاح النووي يضمن بقاء الدول العظمى التي تمتلكه، عن طريق ثني أيّ طرف عن مهاجمتها، وهو ما من شأنه إزالة الحاجة إلى التنافس على القوّة. ويزعم هؤلاء أيضاً أنّ الخوف من التصعيد النووي سيردع قوّتين نوويتين من خوض حرب تقليدية كبرى. ولكن ما من أدلّة تشير إلى أنّ القوى العظمى تتبنى هذا المنطق. فقد أنفق الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة آلاف مليارات الدولارات في تنافسهما على القوّة إبّان الحرب الباردة، وهو ما يتكرّر اليوم بين الصين وروسيا والولايات المتحدة. فهذه الدول العظمى المسلّحة نووياً تؤرقها مسألة ضمان بقائها وتستعد لخوض حرب تقليدية ضدّ خصومها. صحيح أنّ احتمالات نشوب حرب بين القوى العظمى قد تراجعت في عالمنا النووي، لكنّ هذا التهديد يبقى قائماً على الدوام، وبالتالي لا يزال المنظور الواقعي مُجدياً.
أين يجب على الولايات المتحدة أن تقاتل؟
ترى النظرية الواقعية أيضاً أنّ المناطق الوحيدة ذات الأهمية الإستراتيجية الحيوية للقوى العظمى – خارج أقاليمها – هي تلك التي تتيح لها احتواء منافسيها الإستراتيجيين أو تلك الغنية بالموارد الضرورية للاقتصاد العالمي. وقد أحصى الأميركيون الواقعيون إبّان الحرب الباردة ثلاث مناطق خارج الأميركيّتَيْن، حيث يتوجّب على بلادهم الاستعداد للقتال: أوروبا، وشمالي شرق آسيا حيث كان يقع الاتحاد السوفياتي، والخليج العربي-الفارسي الغني باحتياطاته النفطية. وقد عارض معظم الواقعيين حرب فيتنام لأنّها وقعت في الجنوب الشرقي لآسيا، وهي منطقة عُدَّت آنذاك ذات أهمية إستراتيجية ضئيلة. أمّا اليوم، فقد غدت المنطقة نفسها تعني كثيراً للولايات المتحدة، لأنّ الصين صارت قوّة كبرى. وهذا ما يفسِّر استعداد واشنطن للدفاع عن الوضع القائم في تايوان وبحر الصين الجنوبي.
في المقابل، لا تُعطي النظرية الليبرالية الأولوية لهذه المنطقة أو تلك من العالم، فهدفها المُعلَن يتمثّل في نشر الديمقراطية والرأسمالية على أوسع نطاق ممكن. ومع أنّ الخطاب الليبرالي يستهجن أهوال الحرب، لا يتردّد غالباً دُعاة السياسة الخارجية الليبرالية في اللجوء إلى القوّة لتحقيق هدفهم الطموح. وتمثِّل عقيدة بوش، التي سعت إلى نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط تحت تهديد السلاح، مثالاً واضحاً على هذا التوجه. ليس من قبيل الصدفة أنّ أنصار الواقعية البارزين، كلّهم تقريباً، انتقدوا بشدّة حرب العراق عام 2003. فمن خطّط لتلك الحرب هم المحافظون الجدد الذين يُعدّون بصورة خاصة صقور نشر الليبرالية حول العالم، وقد حظيت بدعم أنصار الهيمنة الليبرالية.
ومن عجيب المفارقات أنّ المقاربات الليبرالية للسياسة الخارجية تحمل عنصراً غير ليبرالي حتماً. ففي جوهرها، تشدّد الليبرالية على الحاجة إلى التسامح، لأنّها تعترف بأنّ الأفراد لن يُجمِعوا بالكامل أبداً على الطريقة المثلى للعيش أو للحكم. ولهذا السبب، تسعى المجتمعات الليبرالية إلى إنشاء مساحات يمكن فيها للأفراد والجماعات التحرّك قدر الإمكان طبقاً لمعتقداتهم الخاصة. ولكن في السياسة الخارجية، يتصرّف الليبراليون كأنّهم يعرفون بلا أدنى شك نوع النظام الذي يجب إنشاؤه في كل بلد. وهم يعتقدون على وجه التحديد بأنّه ينبغي على بقية العالم تقليد الغرب، كما أنّهم يستخدمون الوسائل المتاحة كافة للدفع في هذا الاتجاه. غير أنّ هذه المقاربة في التعامل مع العالم، وغير الليبرالية بطبيعتها، محكومة بالفشل. ليس فقط لأنّه لا يمكن التوصل إلى إجماع على تعريف النظام السياسي المثالي، إنّما أيضاً نتيجة مقتضيات المنطق الواقعي. فالدول هي كيانات ذات سيادة، تدافع عن نفسها ضد أيّ تهديد يستهدف مصالحها الحيوية، بخاصة عندما يكون صادراً عن دولة غريمة تعتزم تغيير نظام الحكم فيها.
عندما انهار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، أتاح العالم الثنائي القطب الذي وطدته الحرب الباردة المجال أمام عالم أحادي القطب يتمحور حول الولايات المتحدة. ثم بعد ذلك تحوّل النظام الأحادي إلى نظام متعدّد الأقطاب في عام 2017، بفضل صعود الصين وعودة القوّة الروسية. وفيما لا تزال الولايات المتحدة القوّة الرائدة في هذا النظام العالمي الجديد، إلا أنّها تجهد للحفاظ على تفوّقها مقابل الصين ذات الاقتصاد المثير للإعجاب والقوّة العسكرية الصاعدة. أما روسيا فهي بلا شك الأضعف بين الثلاثة، ولكن أدّى النظام المتعدد الأقطاب هذا إلى بروز مواجهتَين جديدتَين يتبع كل منهما منطقاً واقعياً مختلفاً. فتماماً كما العداء الأميركي-السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية، تدور المنافسة بين واشنطن وبكين بصورة أساسية حول الهيمنة الإقليمية، ولكنّها قابلة للامتداد إلى بقية العالم مثل المنافسة مع الاتحاد السوفياتي. أما العداء الأميركي-الروسي الحالي فلا يمكن تفسيره بالخشية من هيمنة موسكو على أوروبا، إنّما بسلوك واشنطن العدائي.
تنافس الولايات المتحدة والصين
لم تكن الصين تعدّ قوة كبرى في القرنَين التاسع عشر والعشرين. فرغم عدد سكانها المرتفع، لم تمتلك ما يكفي من الثروة لبناء قوى عسكرية وافية. لكن هذا الوضع شرع يتغيّر في مطلع التسعينيات، عندما بدأ الاقتصاد الصيني نموه المتسارع إلى أن صار ثاني أكبر اقتصاد في العالم وغدا قادراً على تطوير التقنيات المتقدّمة. وبطبيعة الحال، تستخدم بكين قوّتها الاقتصادية بغية تعزيز قوّتها العسكرية.
تطمح الصين إلى أن تغدو الدولة الأقوى في آسيا وإلى طرد القوات الأميركية تدريجياً من الجزء الشرقي لآسيا، حتى تتمكن من فرض هيمنتها على المنطقة بأسرها. كما أنّ بكين في صدد إنشاء قوّة قادرة على العمل بفعالية في أعالي البحار، ما يدل على أنّها تهدف إلى بسط قوّتها في جميع أنحاء العالم. وهي تحاول عملياً اتباع نموذج الولايات المتحدة، وهذا في الواقع أفضل وسيلة لتعزيز أمنها في عالم تحكمه الفوضى. كما أنّ لدى القادة الصينيين سبباً آخر للسعي خلف الهيمنة على آسيا: إذ إنّ أهدافهم الإقليمية القومية، مثل إعادة السيطرة على تايوان أو الهيمنة على بحر الصين الجنوبي، تتطلب تحوّل الصين إلى مهيمِن إقليمي.
عملت الولايات المتحدة مطوّلاً على منع أي دولة أخرى من تحقيق الهيمنة الإقليمية، كما أثبتت في محطات عدّة خلال القرن العشرين. وفي مواجهة الطموحات الصينية في آسيا، تحاول واشنطن راهناً تنفيذ سياسة احتواء على المستويَين العسكري والاقتصادي.
على الصعيد العسكري، تسعى واشنطن إلى إحياء التحالفات التي رمت إلى احتواء الاتحاد السوفياتي، بهدف دمجها في حلف موجه ضد الصين. وينطوي ذلك على إقامة – أو تجديد – معاهدات أمنية متعددة الأطراف مثل معاهدة التعاون العسكري AUKUS بين الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة، وكذلك الحوار الأمني الرباعي QUAD بين الولايات المتحدة وأستراليا واليابان والهند، فضلاً عن تعزيز الأحلاف الثنائية القديمة مع اليابان والفلبين وكوريا الجنوبية.
تنامي الصدع بين ضفّتَي الأطلسي
تعتزم واشنطن على الصعيد الاقتصادي إبطاء تقدّم الصين في مجال التقنيات المتقدّمة من أجل ضمان السيطرة على مفاصل هذا القطاع الإستراتيجي. لكن يمكن لهذه المواجهة الاقتصادية أن تسفر عن بروز صدع خطير في العلاقات بين ضفّتَي الأطلسي، ذلك أنّ الكثير من الدول الأوروبية، المتضرّرة أساساً من قطع العلاقات التجارية مع روسيا، تبحث عن زبائن في السوق الصينية.
هكذا تتجه الصين والولايات المتحدة إلى التنافس بحدّة أكبر على القوّة في المستقبل المنظور. وممّا لا شك فيه أنّ هذا الصراع سيتفاقم جزئياً بسبب معضلة الأمنية [Security dilemma] الشهيرة، حيث يفسّر كلّ طرف الخطوات الدفاعية للطرف الآخر بأنّها دليل على نيّته العدوانية. وستكون هذه المنافسة الأمنية شديدة الخطورة لسببين إضافيين: فمن ناحية، تتمحور هذه المواجهة حول جزيرة تايوان التي يعتبرها جلّ الصينيين أرضاً مقدّسة تابعة لبلادهم، في وقت تعتزم الولايات المتحدة الإبقاء عليها دولة مستقلة بحكم الأمر الواقع وحليفة لها.
من ناحية أخرى، في حال نشوب حرب بين هذين الخصمَين اللدودَين، يُرجّح أن تدور المعارك على الجزر الواقعة قبالة الساحل الصيني، بواسطة القوّات الجوية والبحرية والأسلحة الصاروخية. وليس صعباً تصوّر سيناريوهات ممكنة لنشوب حرب في مثل هذا الإطار الجغرافي، حتى وإن كان ذلك عن طريق الخطأ. أمّا إذا خيضَت الحرب بين الصين والولايات المتحدة على البرّ الرئيسي للصين، فمن المؤكد أن عدد ضحاياها سيكون مرتفعاً جداً وبالتالي فإنّ احتمالات نشوبها متدنية، مثلما كان الحال عليه بين حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو في قلب أوروبا إبّان الحرب الباردة. لذا، تبدو فرضية الحرب البرية الكبرى في آسيا مُستبعدة، لكنّ تفاديها يتطلّب بذل جهود دبلوماسية حثيثة من الجانبين.
ساهمت الولايات المتحدة إلى حدّ كبير في إثارة هذه المنافسة المحفوفة بالمخاطر بسبب تجاهل مبادئ واقعية. ففي مطلع التسعينيات، لم تهدّد أيّ دولة القوّة الأميركية، فيما كانت الصين لا تزال متأخّرة اقتصادياً. غير أنّ القادة الأميركيين قرّروا اتّباع وصفات ليبرالية، ففتحوا أذرعهم لبكين وساعدوها على تحفيز نموّها الاقتصادي وسعوا إلى دمجها في النظام الدولي. فقد افترضوا أنّ الصين الغنية ستغدو «شريكاً مسؤولاً» في النظام العالمي الجديد الذي تهيمن عليه واشنطن، وأنّ هذه الظروف ستحوّلها في نهاية المطاف إلى ديمقراطية ليبرالية. باختصار، اعتبروا أنّ الصين المزدهرة والديمقراطية لن تشكّل أي خطر على الولايات المتحدة.
تُرجِمت هذه الحسبة إخفاقاً إستراتيجياً ذا عواقب وخيمة. فلو اتبع القادة الأميركيون منطقاً واقعياً، لتجنّبوا المساهمة في نمو الصين ولسعوا إلى توسيع فجوة القوّة بين البلدين بدلاً من تقليصها.
حين يتعلّق الأمر بحرب أوكرانيا، فإنّ النظرة الغربية السائدة ترى أنّ روسيا تتصرّف في أوروبا مثلما تتصرّف الصين في آسيا، وأنّ بوتين تحرّكه طموحات إمبريالية لبناء روسيا الكبرى على شاكلة الاتحاد السوفياتي، والاستيلاء مجدداً على الدول الحاجِزة [buffer countries] لحلف وارسو سابقاً، ما من شأنه أن يهدّد أمن أوروبا قاطبةً. ووفق هذا التحليل، فإنّ أوكرانيا لن تشكّل سوى فاتحة للتغوّل الروسي الذي سيطال بعد ذلك بلداناً أخرى. وعليه، ما تقوم به منظمة حلف شمال الأطلسي هو احتواء القوّة الروسية، تماماً مثلما صدّت الاتحاد السوفياتي عن السيطرة على أوروبا كاملةً زمن الحرب الباردة.
غير أنّ هذه الرواية، ومهما جرى ترديدها، لا تعدو كونها خرافة. فلا دليل إطلاقاً على أنّ بوتين يرغب في دمج أوكرانيا كاملةً بروسيا، أو أنّه ينوي غزو دول أخرى في أوروبا الشرقية. حتى لو رغب في ذلك، فإنّ روسيا تفتقر إلى القدرات العسكرية لتحقيق مثل هذا الهدف الطموح، وبدرجة أقل بكثير للتحوّل إلى مهيمنٍ أوروبي.
لا شكّ في أنّها هي التي هاجمت أوكرانيا، ولكن من الواضح أيضاً أنّ الصراع أثارته الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون عندما قرروا جعل أوكرانيا درعاً لهم على حدود روسيا. كانوا يأملون في ضمّها إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي وتحويلها إلى دولة ديمقراطية ليبرالية موالية للغرب. وقد شدّد القادة الروس مراراً على أنّ هذه السياسة تشكّل تهديداً وجودياً لموسكو، وبالتالي لن تتسامح معها. كان الأحرى أن يأخذ الغرب تهديداتهم على محمل الجدّ.
في نيسان/أبريل 2008، عندما اتخِذ قرار [بدء مسار] ضمّ أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، أرسل السفير الأميركي لدى موسكو إلى وزيرة الخارجية آنذاك كوندوليزا رايس مذكرةً جاء فيها: «إنّ انضمام أوكرانيا إلى الحلف هو أنصع الخطوط الحمر بالنسبة إلى النخبة الروسية (وليس فقط بوتين). خلال أكثر من عامين ونصف العام من المحادثات مع صُنّاع القرار الروس... لم أصادف أحداً بعد لا يرى في انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي سوى أنّه تهديد مباشر للمصالح الروسية». وبدورها، عارضت المستشارة الألمانية آنذاك أنجيلا ميركل انضمام كييف إلى الحلف قائلة: «كنت على يقين تام... أنّ بوتين لن يتسامح مع ذلك. فمن منظوره، يُعدّ الأمر بمثابة إعلان حرب».
احتواء روسيا أم تهديدها؟
بدأ الصراع في أوكرانيا في شباط/فبراير 2014، بعد ست سنوات من إعلان حلف شمال الأطلسي عن خطة انضمام أوكرانيا. حاول بوتين في البداية حلّ النزاع بالسُبُل الدبلوماسية من خلال إقناع الولايات المتحدة، التي تعدّ الداعم الأبرز لانضمام كييف إلى الحلف، بالتخلي عن الفكرة. غير أنّ واشنطن رفضت، وكانت عوضاً عن ذلك تكثّف جهودها في كلّ مرّة – تسليح الجيش الأوكراني وتدريبه ودعوته إلى المشاركة في مناورات الحلف العسكرية. وخوفاً من أن تغدو أوكرانيا عضواً بحكم الأمر الواقع، أرسلت موسكو في 17 كانون الأول/ديسمبر 2021 رسالة إلى الرئيس جو بايدن وإلى حلف شمال الأطلسي نفسه تطلب فيها التزاماً خطياً بأنّ أوكرانيا لن تنضم إلى الحلف، وتلتزم الحياد بدلاً من ذلك. غير أنّ وزير الخارجية أنتوني بلينكن وجّه ردّاً شديد الاقتضاب في 26 كانون الثاني/يناير 2022، بالقول: «لا يوجد تغيير، ولن يكون هناك تغيير». بعد شهر واحد، هاجمت روسيا أوكرانيا.
من وجهة نظر واقعية، يشكل ردّ فعل موسكو على توسّع منظمة حلف شمال الأطلسي إلى أوكرانيا مثالاً نموذجياً لسياسة الموازنة السالفة الذكر في مواجهة تهديد خارجي. فهدف بوتين هو منع التحالف العسكري الذي تقوده أعتى قوّة في العالم، والعدو اللدود للاتحاد السوفياتي سابقاً، من ضمّ أوكرانيا، الكائنة «عند عتبة دارنا». في الواقع، يبدو الموقف الروسي هذا مستوحى من عقيدة مونرو الأميركية، التي تنص على عدم السماح لأي قوة كبرى بعيدة بنشر قوات عسكرية قرب الحدود الأميركية. فبعدما أخفقت الدبلوماسية في حلّ أزمة يعتبر الروس أنّها تشكّل خطراً وجودياً، شنّ بوتين حرباً وقائية بهدف منع أوكرانيا من الانضمام إلى الحلف. وترى موسكو أنّها حرب تندرج في إطار دفاع عن النفس، لا الغزو، وإن كانت أوكرانيا والدول المجاورة تنظر إلى الأمور بشكل مختلف تماماً بطبيعة الحال. ولسنا هنا في معرض تبرير الحرب ولا إدانتها، بل نودّ ببساطة تعليل اندلاعها.
إذا سلّمنا بخرافة أنّ بوتين يهدف إلى تنفيذ مشروع توسّعي، قد يتهيّأ للبعض أنّ هدف توسيع حلف شمال الأطلسي يرتكز هو الآخر على منطق واقعي راسخ، مفاده أنّ الولايات المتحدة وحلفاءها لا يسعون سوى إلى احتواء روسيا. لكنّ هذا الاعتقاد سيكون خاطئاً بدوره. فقد اتُّخِذ قرار توسيع الحلف في منتصف التسعينيات، أي في وقت كان فيه الجيش الروسي في حال ضعف شديد، وكان في وسع واشنطن فرض هذا التوسع على موسكو. مرّة أخرى، نلمس المخاطر المترتّبة على أن تكون ضعيفاً في النظام الدولي. ولم تمثّل روسيا تهديداً لأوروبا في عام 2008، حين اتُخِذ قرار ضمّ أوكرانيا إلى الحلف. نرى إذاً أنّه لم يكن ثمة حاجة إلى احتواء روسيا، لا في السابق ولا الآن. لا بل للولايات المتحدة مصلحة جدّية في الانسحاب تدريجياً من أوروبا والتوجّه نحو شرق آسيا، وضمّ روسيا إلى تحالف موازنة في مواجهة الصين، وعدم التورّط في حرب في أوروبا الشرقية وفي دفع الروس إلى أحضان الصينيين.
هكذا على غرار السياسة الخاطئة المتمثّلة في مدّ اليد إلى الصين، شكّل توسيع حلف شمال الأطلسي أحد مكوّنات مشروع الهيمنة الليبرالية. كان الهدف ضمّ شرقيّ أوروبا وغربيّها إلى الحلف من أجل تحويل القارة إلى واحة سلام. لكنّ واقعيين مثل جورج كينان عارضوا سياسة توسعة الحلف لأنّهم أدركوا أنّ ذلك سيشكّل تهديداً لروسيا وسيؤدي إلى كارثة.
لو ساد المنطق الواقعي ولم يتمدّد حلف شمال الأطلسي شرقاً، أو لم يلتزم على وجه الخصوص بضمّ أوكرانيا في نهاية المطاف، لكانت أوروبا في وضع أفضل اليوم بلا شك. ولكن قُضي الأمر: أفسحت الأحادية القطبية المجال أمام نشوء تعدّدية قطبية، والولايات المتحدة وحلفاؤها حالياً مقيّدون في منافسة جيوسياسية خطيرة مع الصين وروسيا. ولا تقلّ هاتان الحربان الباردتان الجديدتان خطورة عن الحرب الأخيرة، لا بل قد تتجاوزانها بأشواط.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، ويعدّ حالياً من أبرز منظّري المدرسة الواقعية في مجال العلاقات الدولية.