29 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

تركيا، ما بين الأيقونة والزعيم

نور الدين العايدي

26 حزيران 2023

قدّم رجب طيب إردوغان إستراتيجية مميزة في التعامل مع أيقونة أتاتورك (DW/B. Secker)

«لن نترك أتاتورك للأوساط الهامشية فاشية الروح ماركسية الخطاب».

رجب طيب إردوغان في حفل تأبين أتاتورك عام 2017.

 

ما زالت كتلة كبيرة من المجتمع في تركيا، ولا سيما بين الكماليين والقوميين وحتى المحافظين، تَصبغ نوعاً من القداسة على شخصية مصطفى كمال أتاتورك بوصفه منقذ الأمة، ومؤسس تركيا الحديثة وصانع هويتها الوطنية. تشكلت هذه الهالة المقدّسة أولاً بسبب إنجازاته التاريخية في حرب الاستقلال ضد المشاريع الاستعمارية في الأناضول وبنائه الجمهورية الجديدة. ثم ترسخت أكثر واكتسبت أبعاداً سياسية وأيديولوجية برعاية الدولة عبر توظيفها في الأيديولوجيا الكمالية (نسبة إلى اسمه) التي صارت الأيديولوجيا المؤسسة للجمهورية وحافظت على وجودها المؤثّر في السياسة التركية طوال قرن.

غير أنّ تركيا شهدت في القرن الواحد والعشرين صعوداً كبيراً لشخصية أخرى هي رجب طيب إردوغان الذي حفر اسمه طوال أكثر من عقدين في قلب السياسة التركية تاريخاً ومستقبلاً، فيما قدّم النصر الذي حققه في أيار/مايو الماضي دليلاً جديداً على مكانته الراسخة كزعيم كاريزمي قادر على توحيد شريحة واسعة من الشعب خلفه. فما هي العلاقة بين أيقونة تركيا وزعيمها الحالي؟

 

الجمهورية وحدود السياسة في تركيا

لعبت الكمالية على مدى عقود دوراً أساسياً في رسم حدود السياسة المشروعة والمقبولة في تركيا، فيما حظيت أيقونة أتاتورك بمكانة مركزية في هذه المعادلة السياسية. ليس هذا فحسب، بل حظي أتاتورك عام 1951 بحماية قانونية خاصة عبر القانون رقم 5816 المعروف باسم «قانون حماية أتاتورك» الذي يجرّم بالسجن إهانته أو انتهاك حرمة ذكراه أو الاعتداء على رموز تمثله مثل تماثيله وصوره.

لا يقتصر حضور أتاتورك المركزي في السياسة التركية على مستوى الحماية القانونية وانتشار صوره وتماثيله ومقولاته في كل مكان إلى يومنا، بل يتجاوزه إلى ظهور تأويلات مختلفة لهذه الأيقونة. فقد ساهمت المكانة التي يتمتع بها إلى تحوّل أفكاره ومحطات حياته السياسية والفكرية المختلفة إلى محل تأويل الأقطاب السياسية كافة، فصاروا يختارون منها ما يتوافق مع أفكارهم وأهدافهم ويبرزونه بحثاً عن الشرعية السياسية.

مثلاً ثمة من قدّم أتاتورك كشخصية يسارية اشتراكية من باب أنّه كان من أعداء الاستعمار والإمبريالية ومن أنصار فكرة الدولانية، وقدّمه آخرون أنّه تغريبي يمهّد للديمقراطية من باب أنّه سعى لإيصال البلاد إلى مستوى الحضارات الغربية المتقدمة. ليس هذا فقط، بل قدّم البعض أتاتورك يمينياً قومياً من باب أنّه حرص على إبراز الهوية القومية للأتراك وضمّنها في مبادئ الكمالية الأساسية.

لم يقتصر هذا على أتاتورك فقط، بل وصل إلى تأويل الكمالية نفسها. فيقدّم بعضهم جزءاً من مبادئها الستة (الحكم الجمهوري، والعلمانية، والقومية، والشعبوية، والدولانية، والثورية) على الأخرى وفق أهدافهم، فهناك كمالية يسارية وتغريبية وأخرى قومية وغيرها. وتطوّر هذا التأويل نفسه إلى ظهور مصطلحين يعبّران عن الأفكار عينها، ولكن يشيران إلى تأويلات مختلفة لها لدى بعضهم. فهناك الكمالية وهناك الأتاتوركية، وكلتاهما تعني الأمر نفسه اصطلاحاً لكن ثمة من يتعامل معهما كمصطلحين مختلفين من باب أنّ الأول تتبناه الأوساط اليسارية، والثاني الأوساط اليمينية خاصة القومية والمحافظة.

تحوّلت هذه الأيقونة إلى رمز فوق سياسي عابر للاصطفافات إلى حد كبير (Utku Tan Çağlan)

 

يمكن المبالغة والقول إنّ الجميع تقريباً خلق أتاتوركه الخاص وكماليته الخاصة ليوظّفهما وفق الحاجة في مواجهة خصومه. فقد صارت أيقونة مصطفى كمال، عبر رأس المال المعنوي المؤثّر الذي تقدّمه، بوابةً رئيسية لخوض السياسة المقبولة في تركيا، خاصة أنّ معظم التيارات السياسية تدّعي تمثيلها «أتاتورك الحقيقي» ومتابعة دربه في النهضة بالبلاد. تحوّلت هذه الأيقونة على مدار السنين إلى رمز فوق سياسي عابر للاصطفافات إلى حدّ كبير، وتجمّعت حولها فئات متنوعة المشارب والتوجهات.

 

المطرودون من الجنة

صعدت الكمالية وأسست الجمهورية في محيط من الأعداء الداخليين والخارجيين الذين كانوا يرفضون لأسباب شتى مقاربتها المختلفة آنذاك. فخاضت النخب التركية الجديدة التي سعت لبناء دولة جديدة من الصفر صداماً مع فئتين رئيستين هما المحافظة/الإسلامية التي اعترضت على التحوّلات العلمانية التغريبية في الدولة الجديدة، والكردية التي اعترضت، بل تمردت على المقاربات القومية التنميطية.

لمّا رسمت الكمالية حدود السياسة المشروعة، ظلت الحركتان السياسيتان (الإسلامية المحافظة، والكردية) خارج هذا الإطار، على أنّ الأولى تمثّل الرجعيين، والثانية الانفصاليين، وفق تعريف الكماليين. عند الحديث عن رجب طيب إردوغان، صعد الرجل في السياسة عبر كوادر حركة «الرؤية الوطنية» التي ولدت نهاية الستينيات ومثّلت التيار الإسلامي، ثم انبثقت منها مجموعة من الأحزاب التي تعرّضت للملاحقة والإغلاق بسبب هويتها الأيديولوجية، لا سيما حزب «الرفاه» الذي فاز عبره الرئيس التركي الحالي برئاسة بلدية إسطنبول الكبرى عام 1994.

بعدما نجح «الرفاه» في الزحف من هوامش السياسة إلى مركزها وبلغ رئاسة الوزراء بالفعل في 1996، بقيادة رمز الإسلاميين الأتراك نجم الدين أربكان، واجه الحزب ضغوطاً مستمرة من ممثلي العقلية الكمالية في الجيش والبيروقراطية والإعلام، الأمر الذي انتهى باستقالة أربكان من منصبه بعد تحركات من الجيش في ما عُرف بـ «انقلاب 28 شباط» عام 1997. أما إردوغان نفسه، فحُكم عليه بالسجن بضعة أشهر بتهمة التحريض على الكراهية الدينية على خلفية قصيدة تحمل إيحاءات دينية ألقاها في واحد من تجمعاته، وقد أمضى عقوبته بالفعل.

جرّاء الحرب على «الرجعية» التي خاضتها نخب الكمالية في تركيا التسعينيات: سياسياً (إغلاق حزبي «الرفاه» و«الفضيلة»)، واجتماعياً (محاربة الحجاب)، واقتصادياً (محاربة رأس المال الأخضر)، توجّه إردوغان وبعض رفاقه إلى تبني خط مختلف، فانشقوا عن خط «الرؤية الوطنية» الإسلامي التقليدي وأسسوا «العدالة والتنمية» الذي يحكم تركيا إلى اليوم كبديل أكثر وسطية.

كانت التجربة في بداياتها محاولة صريحة للالتفاف على محظورات النظام السياسي التركي وحدوده عبر التأكيد أنّ الحزب الجديد غير مرتبط بالحركة الإسلامية، وأنّه يدعم قيم الجمهورية ومبادئها خاصة العلمانية، وهو متصالح مع الأهداف الأوروبية والديمقراطية للبلاد. هكذا، سار إردوغان وحزبه على خيط رفيع تماهيا فيه مع قواعد اللعبة السياسية، واستغلا الظروف الداخلية (الإصلاحات الاقتصادية...) والخارجية (ملف عضوية الاتحاد الأوروبي...) لتحسين ظروفهما وتأكيد شرعيتهما السياسية في مواجهة التحديات مثل ضغوط الجيش وتهديداته، بل حتى محاولة إغلاق «العدالة والتنمية» في عام 2008.

سعى الحزب منذ البداية إلى الخروج من قوقعة الإسلاميين نحو فضاءات يمين الوسط عبر استهداف طيف واسع من الفئات السياسية في الشارع بما يضم الإسلاميين والمحافظين والقوميين والليبراليين والأكراد (المحافظين)، مع اختلاف حضورهم في ضوء تحوّلات «العدالة والتنمية» على مدار عشرين سنة مضت. وترافق النجاح الملحوظ في هذه المهمة مع حاجة ماسة إلى مراعاة توازنات دقيقة تجسدت أيضاً في ملف التعامل مع أيقونة أتاتورك الذي هو شخصية فوق سياسية، حتى لدى كتلة وازنة من أنصار وقواعد «العدالة والتنمية»، على عكس التبسيط السطحي عند الإسلاميين العرب، والذي ينظر إلى أتاتورك من الخارج فحسب.

في النتيجة، وبالنظر إلى جذور إردوغان الإسلامية ومكانة أتاتورك في السياسة، قدّم الأول إستراتيجية مميزة في التعامل مع هذه الأيقونة، بل يمكن القول إنّها تطوّرت على مرحلتين متداخلتين.

 

تجنّب الصدام، أو أتاتورك المحايد

رغم حدوث الكثير من المتغيّرات والأحداث المفصلية، حرص رجب طيب إردوغان طوال المرحلة الأولى التي يمكن القول إنّها امتدت ما بين 2002 و2016 على مراعاة تجنّب الصدام مع أيقونة أتاتورك نفسها على اعتبار أنّ مثل هذه الخطوة تمثّل انتحاراً ليس سياسياً فقط، بل قانونياً واجتماعياً أيضاً. تميزت هذه المرحلة بالاهتمام بالحفاظ على الرسميات المتعلقة بأتاتورك دائماً خاصة فيما يتعلق بنشر رسائل ترحّم في ذكراه وتنظيم فعاليات تخليدية له.

لكن رغم ذلك، تحدّث إردوغان في واحد من خطاباته عام 2013 عن «سكّيريَن» في سياق الإشارة إلى من أقرّوا قوانين المشروبات الكحولية في تركيا في عام 1924، الأمر الذي تعتبره المعارضة حتى اليوم إشارة إلى أتاتورك ورفيقه عصمت إينونو، وتعاير الرئيس التركي بالهجوم على مؤسس الجمهورية عبر ذلك. ويرى بعضهم أنّ هذا الجدل هو أوضح صدام بين إردوغان وأيقونة أتاتورك، فيما حرص هو وحزبه مراراً على التأكيد أنّ الأخير لم يكن المقصود بهذا التعبير.

تجنّب الرجل عامةً أيّ صدام مباشر، بل ولم يكتف بذلك إذ سعى أيضاً لخلق أتاتورك خاص به كالتيارات السياسية كلها، عبر إجراء عملية جراحية دقيقة لمحاولة فصل هذه الأيقونة عن الكمالية وحزب «الشعب الجمهوري» الذي أسسه مصطفى كمال نفسه. لذلك، قدّم إردوغان أتاتورك محايداً تمحور حول شخصية مصطفى كمال كبطل حرب الاستقلال الذي أنقذ تركيا من الاستعمار، مع تسليط الضوء المستمر على دفاعه عن الإرادة الوطنية ضد التدخلات الخارجية. وهو ما يمكن اعتباره محاولة لتبني نسخة أقل سياسية وأيديولوجية من هذه الأيقونة عبر التجاهل المتعمد لإرثها في الجمهورية. ويمكن بسهولة ملاحظة أنّ الرئيس التركي يكرّر كثيراً تعبير «الغازي (المحارب) مصطفى كمال»، في إشارة واضحة إلى تاريخه العسكري وبطولاته في الوعي التركي.

عمل إردوغان، بالتوازي، على إلقاء مسؤولية مختلف الأخطاء التي ينتقدها في العهد الجمهوري، خاصة مظلوميات التيار المحافظ، على حزب الشعب الجمهوري وأيديولوجيته، في عملية فصل ممنهجة لأتاتورك عن هذا البرنامج رغم أنّه كان جزءاً منه بالفعل. فمثلاً عند حديث إردوغان عن أهداف 2071 في خطاب ألقاه عام 2012، قدّم توليفة جمع فيها أتاتورك مع السلاطين العثمانيين مثل محمد الفاتح والساسة المحافظين مثل أربكان، على أنّه وحزبه يسيران على درب هؤلاء كلّهم. كما ركز هجومه في الخطاب نفسه على «الشعب الجمهوري»، متهماً إياه بالمشاركة في الانقلابات التي تعرّضت لها البلاد بالفعل أو بالفكر.

يحرص إردوغان في مناسبات مختلفة على مهاجمة «الشعب الجمهوري» والتأكيد أنّه يتاجر بأيقونة أتاتورك والجمهورية منذ عقود، معتبراً أنّها «أكبر تجارة» في السياسة التركية. ويدافع أيضاً بأنّ من وصفهم بالانقلابيين ومحبي الوصاية وأعداء قيم الشعب وتاريخه يحاولون التخفي خلف مصطلح الأتاتوركية دائماً.

لكن من اللافت أنّ هذه المرحلة شهدت أيضاً تركيز إردوغان وحزبه على النقد الواضح للكمالية وخطواتها على جبهات عدة كما في نموذج انتقاد «ثورة الحرف» وتغيير الأبجدية التي لعب فيها أتاتورك شخصياً دوراً رئيسياً، إنّما مع تجنّب الصدام المباشر مع الأخير.

 

المزاحمة على أتاتورك

بدأت المرحلة الثانية من إستراتيجية رجب طيب إردوغان في التعامل مع أتاتورك تظهر بوضوح أكثر مع التحوّلات نحو الخطاب القومي التي عاشها «العدالة والتنمية» منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في 2016. فإضافة إلى اندماج الحزب المتسارع مع الدولة وخطابها التقليدي، ساهمت عوامل أخرى مثل التحالف المصيري مع حزب الحركة القومية في تعزيز الهوية القومية لديه، وهو ما انعكس بوضوح على إستراتيجية الرئيس التركي.

ففي هذه المرحلة، صار الأخير يزاحم المعارضة أيضاً على تبني أيقونة أتاتورك، بل يقدّم نفسه بوصفه الوريث الحقيقي لها. وقد شدد في العديد من خطاباته على أنّه لن يتركها تحت رحمة العقلية التي تستغلها، مؤكداً أن مصطفى كمال من أهم قيم الشعب التركي.

يشير إردوغان في الوقت نفسه باستمرار وبلغة دبلوماسية حذرة جداً إلى أنّه قد تكون هناك بعض الأخطاء لأتاتورك «ككل فانٍ»، مشدداً على أنّ ذلك «لا يمكن أبداً» أن يهز مكانة هذه الشخصية التاريخية في قلوب الشعب. وينبّه في كل فرصة على أنّ تخليد أتاتورك واستذكاره الحقيقي يأتي باتباع مسيرته النضالية للنهضة بالبلاد، داعياً إلى العمل على محاولة «فهم هذه الشخصية» وإرثها بأسلوب صحيح.

كما يؤكد باستمرار أنّ حكومات حزبه هي من قدّمت أكبر خدمات وإنجازات إلى الجمهورية، معتبراً أنّهم لم يكتفوا كغيرهم بالحديث، بل نفّذوا ذلك بخطوات عملية. ويهاجم إردوغان ادعاء «الشعب الجمهوري» اليوم بأنّه ممثل أتاتورك وأفكاره عبر التشديد في مناسبات مختلفة على أنّ قيادة هذا الحزب «خانت أتاتورك»، وأنّه لم يعد الحزب الذي أسسه مصطفى كمال، بل لو كان الأخير حياً، لطارد قيادته الحالية بالعصا.

اللافت في هذه المرحلة كذلك أنّه كلما تزايد مستوى تبني إردوغان أيقونة أتاتورك، تراجع مستوى انتقاد الكمالية على المستوى العلني على الأقل. فمثلاً في 2022 اضطر نائب رئيس المجموعة البرلمانية لـ«العدالة والتنمية»، ماهر أونال، إلى الاستقالة على إثر جدل على خلفية تصريحات انتقد فيها «ثورة الحرف»، مدّعياً أنّها «أعاقت القدرة على التفكير ودمّرت القاموس والأبجدية واللغة وفي المحصلة أنظمة التفكير كافة في تركيا».

رغم أنّ إردوغان نفسه وغيره من قادة «العدالة والتنمية» انتقدوا «ثورة الحرف» مراراً في السابق، لكن اعتراض الحلفاء القوميين في «الحركة القومية» وتقديمهم حساسيات الجمهورية كخطوط حمر، إضافة إلى التحوّلات القومية التي يمرّ بها «العدالة والتنمية» نفسه، ساهمت في الحرص على دفع الخلاف الصدامي مع الكمالية إلى خلفية المشهد، لو مرحلياً.

 

الزعيم وأتاتوركه

يمكن القول اليوم إنّ رجب طيب إردوغان نجح إلى حدّ ما، طوال أكثر من عقدين في السلطة، في تحجيم الكمالية التقليدية ونخبها في خطاب الدولة ومؤسساتها إلى شكليات وشعارات عابرة على المستوى الرسمي على الأقل. لكن لا يخفى على أحد، ولا سيما إردوغان نفسه، أنّ أيقونة مصطفى كمال مستمرة في موقعها المركزي في الوعي السياسي والشعبي. وهنا يبدو بوضوح أنّ الرئيس التركي قرر المزاحمة على رأس المال المعنوي اللانهائي الذي توفّره أيقونة أتاتورك بدلاً من تجنّبها أو الصدام معها حتى بعدما تمكن من السلطة فعلاً.

فإذا كان تجنّب الصدام مع رمزية أتاتورك انطوى في لحظة ما على مساعي للتسليم بقواعد اللعبة لتجنّب الصدام مع الجيش والبيروقراطية الكمالية وداعميهم في الشارع (مظاهرات الجمهورية مثلاً)، فإنّ الحال لم تعد كذلك بعدما تمكن إردوغان من تفكيك هذه التهديدات والسيطرة على مفاصل الدولة على مر السنوات الماضية.

يتبنى الرجل اليوم رؤية «قرن تركيا»، لكنّه وبينما يستمر في الهجوم على «تركيا القديمة» يحرص بحذر على تضمين أيقونة مؤسس الجمهورية الأولى في مشروعه الطموح. لقد وظف إردوغان إدراكه للحضور المهم الذي ما زال يتمتع به أتاتورك اليوم للرهان على تحويل هذا الحضور لصالحه سياسياً، فمن جهة ركّز على الهجوم على المعارضة من بوابة أتاتورك بالذات عبر التأكيد المستمر أنّها حادت عن دربه، ولا سيما عبر توظيف مقولات مصطفى كمال ضدهم، ومن جهة أخرى سعى لتبني هذه الأيقونة أملاً في فتح آفاق جديدة أمامه وحزبه.

يمكن القول إنّ الحملة الانتخابية الأخيرة نموذج واضح على هذه الإستراتيجية المركبة التي تطوّرت مع الزمن في خطوة يمكن المبالغة ووصفها بأنّها مصالحة علنية وعملية مع أيقونة أتاتورك، ليس بالضرورة من الناحية التاريخية الأيديولوجية، لكن على الأقل مع مكانتها الوازنة المستمرة في المجتمع. فهل كان لهذه الإستراتيجية المركبة دور في فوز إردوغان الأخير؟ أكاد أجزم بذلك!

نور الدين العايدي

طالب علوم سياسية في تركيا.

×