26 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

العقوبات الأميركية على الأفراد، تفنيد حكم القوي

جول جمال

5 نيسان 2023

كرس القانون الدولي قرينة البراءة والحق بالمحاكمة العلنية العادلة (AP)

من تجليات القوة الناعمة قدرة من يمتلكها على التحكم في السردية والمصطلحات وتأطير النقاش العام لينحرف عن مساره المنطقي والطبيعي إلى مساحة يرتاح فيها الفاعل. من الأمثلة القدرة التي للوبي إسرائيل في الغرب على تحويل تهمة بحقها إلى نقاش حول معاداة السامية. فمن يتهمها بأنها نظام فصل عنصري سيضطر إلى أن يخصص الجزء الأكبر من وقته في رد تهمة اللاسامية عنه بدلاً من قضاء الوقت في إبراز الأدلة والبراهين التي تثبت أنها بالفعل نظام فصل عنصري.

هذا بالضبط ما تفعله الولايات المتحدة. فبدلاً من تظهير نظام العقوبات على الأفراد كأحد أسلحة الحرب الاقتصادية، ينقَل النقاش إلى عناوين أقل جدالاً مثل مكافحة الفساد وتبييض الأموال والجريمة المنظمة وتجارة المخدرات وتمويل «الإرهاب»، والأخير بحد ذاته مصطلح زئبقي قد يعني كل شيء ولا شي في الوقت نفسه.

عندما تعمل الحكومة الأميركية على إدراج شخص أو مؤسسة على لائحة العقوبات، بعدما تنسب إليهم واحدة من تلك الاتهامات، نجد أن النقاش العام ينحصر حول هل هذا الفرد ارتكب الأفعال المنسوبة إليه؟ لكن ألا يجب أن نأخذ مسافة ونسائل نظام العقوبات على الأفراد برمته بدلاً من مناقشة تلك البيانات المقتضبة الصادرة عن وزارة الخزانة، والتي لا يتعدى مجموع كلماتها مجموع كلمات الفقرة الحكمية، أي الفقرة الأخيرة لأي قرار قضائي يصدر في أي دعوى عادية؟

سنسعى في ما يلي إلى تفنيد نظام العقوبات على الأفراد وإخضاعه للمعايير التي يجب أن يخضع لها كل نظام قانوني قبل إسباغ الشرعية عليه وعلى الأحكام المتأتية منه. وانطلاقاً من مبدأ تدرُّج القواعد القانونية (يقضي بأن الدستور هو التشريع الأعلى رتبة، وتليه المعاهدات الدولية وبعدها القانون وبعده المراسيم)، سنبدأ شرحاً مقتضباً لبعض جوانب الدستور الأميركي التي تخضع لها قوانين البلاد ونظمها.

 

الدستور المقدَّس

يفتخر الأميركيون بدستور بلادهم، بل يقدِّسونه. مهمته هي أولاً تعريف شكل الدولة، وعلى نحو أدق: تحديد صلاحيات السلطات الثلاث (الرئاسة والكونغرس والقضاء)، وثانياً حماية الحقوق الأساسية للأفراد (حرية التعبير وحق حمل السلاح! والحق في الحرية وبالمحاكمة العادلة...). ولهذه المفاهيم الدستورية انعكاس مباشر على القانون الجزائي، فالمشرِّع يسن القوانين التي تجرم أفعالاً معينة، والسلطة التنفيذية تضطلع بمهام الملاحقة وجمع الأدلة ولها سلطة الادعاء، فيما تصدر الأحكام عن محكمة محايدة (السلطة القضائية).

يمثِّل الدستور الأميركي، خاصة بما يحويه من مواد تحمي الحقوق الأساسية للأفراد، الضامن لمحاكمة عادلة (due process). ومن ركائز هكذا محاكمة: العلانية، وحق المتهم بتعيين محامٍ، وبمناقشة الأدلة بعد الاطلاع عليها، وباستقدام شهود، وبقرينة البراءة التي قدَّسها القانون كما الحق في الحرية. فعلى سبيل المثال، يقع على سلطة الادعاء أن تثبت ارتكاب المدعى عليه الفعل الجرمي «بما لا يرقى إلى أي شكّ عقلاني» (beyond all reasonable doubt) لإدانته، وهو معيار صعب وصارم إذا ما قارناه بالمعيار المتبع في القضايا المدنية: «أرجحية الأدلة» (preponderance of evidence).

قواعد المحاكمة العادلة هذه يكرِّسها أيضاً القانون الدولي بطريقة أو بأخرى عبر معاهدات ومواثيق دولية، وتشملها القوانين المحلية للدول عبر قوانين أصول المحاكمات الجزائية. لذلك، وبمعزل عن أحكام دستور الولايات المتحدة، فإن نظام العقوبات الأميركي على الأفراد المقيمين خارجها هو نظام غير عادل، وفق القانون الدولي، كونه يخرق مبادئ المحاكمة العادلة، وهي حق أساسي من حقوق الفرد. لكن كيف يكون ذلك؟

 

ما يسقط بالتجاهل

من مبادئ القانون الدولي أن للدولة الحق في سن قوانين تنظم أفعال مواطنيها، أو الأفراد المقيمين على أرضها، أو الأفعال على أرضها، أو التي تنتج مفاعيلها فيها. وإذا ما سلمنا جدلاً بحق الإمبراطورية الأميركية بممارسة الإمبريالية القانونية (judicial imperialism) وإعطاء الحق لنفسها بمعاقبة مواطني دول أخرى لا يقيمون على أراضيها وأعمالهم جرت وأنتجت مفاعيلها خارجها، فكيف نقيّم العقوبات على الأفراد بمعيار المحاكمة العادلة؟

وإذا ما سلمنا جدلاً أيضاً بحق المشرِّع الأميركي مثلاً بسن قوانين تكافح الفساد في دول غير الولايات المتحدة، فمن المتوقع أن يسن قانوناً يجرِّم الفعل، وبعد ذلك تجمع السلطة التنفيذية الأدلة ويجري الادعاء وفي النهاية يصدر حكم عن محكمة بعد محاكمة علنية وعادلة. لكن ما يجري هو غير ذلك. ففي قانون Magnitsky الشهير مثلاً، تجاهل المشرِّع مبدأ فصل السطات وقرينة البراءة وأعطى للسلطة التنفيذية الحق بمعاقبة شخص ما ارتكب أفعالاً معينة مثل الفساد أو التعذيب، والمعيار هو توافر أدلة ذات مصداقية (credible evidence) وليس «ما لا يرقى إلى الشك».

هنا تتضح ببساطة النية في تجاهل الحق بالمحاكمة العلنية العادلة أمام محكمة مستقلة عن السلطة الإجرائية، تسهر على تطبيق القواعد الأساسية المسلم بها كحق الدفاع والحق بمناقشة الأدلة بوجود هيئة المحلفين (jury)، والحق بقرينة البراءة. فإعمال هذه القرينة يقتضي أن البيِّنة تقع على الجهة المدعية وأن الإدانة لا تجوز إلا بعد إجراء المحاكمة العادلة. لذلك، فإن إعطاء السلطة التنفيذية الحق بمعاقبة شخص ما دون محاكمة، ومن ثم الحديث أن للمعاقب حق الاعتراض، هو قلب للمنطق القانوني رأساً على عقب.

 

تبريرات

بناءً على ما تقدم، كيف وصلنا إلى تبرير العقوبات على الأفراد من ناحية دستورية؟ التبرير الأول هو أن هذه العقوبات ليست عقوبات بالمعنى الجزائي للكلمة والقوانين التي وضعتها ليست جزائية، أي أننا لا نتكلم على عقوبة تطاول الحقوق الأساسية للأفراد كالحق في الحياة والحرية والسلامة الجسدية، بل مجرد حرمان فرد غير أميركي امتياز استعمال الدولار أو السفر إلى الولايات المتحدة. لكن إذا كانت غير جزائية، كما يساق، فيجب إخراجها تماماً من إطار القانون وشكلياته، والإقرار بأنها سياسية.

التبرير الثاني هو أن نطاق أحكام الدستور الأميركي في ما يتعلق بحماية حقوق الأفراد ينحصر في الحدود الإقليمية للدولة، ولذلك، لا يتمتع مواطنو الدول الأخرى خارج الولايات المتحدة بالحصانات المعطاة دستورياً لمن هو داخلها. لذلك مثلاً أُنشئ معتقل غوانتانامو خارج الأراضي الأميركية. فلو أنشئ في فلوريدا، لكان لزاماً على الدولة الادعاء على كل معتقل أمام قاضٍ فيدرالي يسهر على تطبيق أصول المحاكمة العادلة. إذاً، ولأسباب «تقنية»، جرت شرعنة نظام العقوبات، ولكن هذا التبرير - التقني - هو تبرير من وجهة نظر الدستور الأميركي، ويسقط إذا ما عايناه من دون استعمال هذا المنظار الضيق.

فمن ناحية أولى، لا يمكن التسليم بأن المُعاقب هو شخص سيحرم فقط امتياز (وليس حق) استعمال الدولار. فالأخير هو عملة التداول العالمي، ومن يُمنع من فتح حساب مصرفي به، ستتقيد مباشرةً حريته في ممارسة التجارة والعمل والسفر وسيمنع من الوصول إلى قسم من أمواله والتصرف بها.

من ناحية ثانية، قلنا إن قرينة البراءة والحق بالمحاكمة العلنية العادلة كرسهما القانون الدولي ومن حقوق الإنسان. ولذلك، لا يكفي وضع مثل هذه الحقوق جانباً لمجرد وجود أسباب «تقنية» متعلقة بالنطاق الإقليمي للدستور الأميركي. هذا منطق لا يخلو من النفاق، إذ من جهة يقع توسيع مجال تطبيق القوانين الأميركية، ومن جهة أخرى، يُفتى بتضييق نطاق تطبيق القواعد الدستورية كي لا يشمل المعاقبين ويحميهم.

 

حبكة «حق تقرير السياسة الخارجية»

سبق وشاهدنا بعض الذين وضعوا على لوائح العقوبات وهم يقولون إنهم سيعترضون أمام القضاء الأميركي (بكل ثقة!). يظهر أحياناً محامون أميركيون (أو لبنانيون!) على وسائل الإعلام يتحدثون عن إمكانية الاعتراض على قرار ما، ولكن ماذا سيحدث على أرض الواقع؟ في غالبية الأحيان، سيكلف الشخص المعاقب مكتب محاماة في العاصمة واشنطن لتمثيله، ويسعى هذا المكتب لطلب الاسترحام أمام الجهة التي أدرجت الموكل على لائحة العقوبات، أو لرفع دعوى أمام القضاء للاعتراض على قرار العقوبات.

المسعى الأول، الاسترحام، هو مسعى سياسي يستخدم اللوبيات للوصول إلى النتيجة المبتغاة، مع أنه سيوضع ضمن إطار قانوني لضرورات الإخراج السينمائي، وهو ينفع في بعض الأحيان. على سبيل المثال هو نجح في رفع أسماء رجال أعمال عن بعض اللوائح، ولكن الأمور لن تكون بهذه البساطة عندما يتعلق الأمر بسياسي سعت لوبيات قوية لمعاقبته وهناك من يكن له العداء في الدولة العميقة ويريده أن يكون عبرة.

أما المسعى الثاني، أي الاعتراض أمام المحاكم، فحظوظ نجاحه ضعيفة جداً، وهنا نعود إلى الأسباب التقنية: لقد رأى الاجتهاد الثابت للمحاكم الأميركية أن الدستور أعطى الحق في تقرير السياسة الخارجية للدولة، أي للسلطة التنفيذية (الرئيس) والسلطة التشريعية (الكونغرس)، ولذلك اعتبرت المحاكم أن سلطتها الرقابية على أفعال السلطتين الأخريين في مجال السياسة الخارجية هي في حدها الأدنى، أي ستذعن المحاكم الأميركية في ما يتعلق ببرامج العقوبات على الأفراد لما قررته السلطة التنفيذية وفق سلطتها الاستنسابية التي أعطاها إياها المشرِّع.

إذن، الاحتمال الأكثر ترجيحاً هو أن المُعاقب سيخسر دعواه ليس لوجود أدلة دامغة ضده، بل لأن القضاء سيذعن لقرار الحكومة بمعاقبة هذا الفرد بما لديها من سلطة استنسابية في الشأن الخارجي وبما أعطيت من صلاحية من المشرِّع نفسه.

الخلاصة هنا ببساطة: النظام الذي تخضع له العقوبات الأميركية على الأفراد نظام سياسي لا يخضع للمعايير القانونية المتعارف عليها: صدور حكم عن سلطة قضائية مستقلة بعد محاكمة علنية عادلة تضمن حق الدفاع وتحترم قرينة البراءة. فمن يريد أن يحتج بهذه العقوبات للقول إن فلاناً فاسد هو يقر بالحق المطلق للحكومة الأميركية في أن تكون شرطي العالم وقاضيه. أما من ينظر إلى الأمور من منظار الحقوق الأساسية للفرد والحق بالمحاكمة العادلة، فسيسلِّم بأن هذه العقوبات سياسية أولاً وأخيراً، وبعبارة أخرى: حكم القوي على الضعيف.

جول جمال

اسم مستعار لكاتب لبناني.

×