1 أيار 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

ذو الياقة، علي شمخاني

المراسل ومتعاونون

3 نيسان 2023

يذهب متابعون للشؤون الإيرانية إلى أنه «يبرز سريعاً كوزير خارجية إيران الفعلي» (المراسل)

حين حلّ آذار/مارس وراح جو طهران ينقى مع اقتراب الربيع، بدا أن الرجل الذي يمزج بين الحنكة والذكاء والسخرية بنظراته من خلف نظارتين، اكتسب قوة دفعٍ تتيح له خلط أوراق بقيت إلى أيام خلت مجمدة تحت ستار التوتر والتشدد والجمود... من الصين حيث وقَّع مع السعوديين اتفاق إعادة العلاقات المقطوعة منذ سبعة أعوام، إلى الإمارات حيث التقى محمد بن زايد ومستشار الأمن الوطني برفقة مسؤولين أمنيين واقتصاديين، وبعدهما العراق حيث تحدّث في الأمن والاقتصاد والحدود.

عاد علي شمخاني إلى المشهد كعاصفة تهب في السياسة الإقليمية الإيرانية في ظرف لم يتوقعه أحد. أسابيع قليلة حوَّلته من مسؤول أنهت تقارير صحافية وقراءات دوره كأمين «المجلس الأعلى للأمن القومي» ووضعت حداً لسيرته كأحد الأبناء الأوفياء لنظام الحكم في الجمهورية الإسلامية، إلى الوجه الأبرز لدبلوماسية إيرانية-عربية متجددة قد تعيد لأبرز مسؤول إيراني من القومية العربية دوره في العلاقات مع الإقليم ضمن إعادة تصويب محتملة للسياسة الخارجية.

كانت الأحاديث حول انتهاء دوره وتوجيه رسائل داخلية إليه بكفِّ اليد والانكفاء عن المشهد قد ترافقت مع خروج قضية علي رضا أكبري إلى العلن في كانون الثاني/يناير الماضي. ففي مدة لم تتجاوز عشرة أيام، كشفت السلطات أن أكبري الذي كان يعد مقرباً من شمخاني أوقف قبل زهاء ثلاثة أعوام وأدين بالتجسس لمصلحة بريطانيا ثم صدر حكم نهائي بالإعدام بحقه.

بعيد تنفيذ الحكم قبل انتصاف الشهر المذكور، قضى حكم التحليلات بأن دور الرجل انتهى، ولا سيما أن الإعلام المحلي أبرزَ مواربةً علاقة الرجلين عبر الحديث عن مسؤولية للمدان في وزارة الدفاع إبان تولي شمخاني لها (من دون تسمية الأخير)، بل نشرَ صوراً لأكبري إلى جانب شخص جرى تمويه وجهه، لكن يتضح من بنيته الجسدية أنه وزير الدفاع الأسبق.

هذا الاندفاع نحو تحميله وزر قضية أكبري عاكسته تفاصيل صغيرة لم تجد سبيلها إلى التغطية الإعلامية. من ذلك تسريبات تفيد بأنه هو الذي «أعاده» من بريطانيا بطريقة أقرب إلى استدراج يتيح توقيفه من دون ضجة. كذلك تصريحات لوزير الاستخبارات إسماعيل خطيب رأى فيها أن ما يصدر بحق شمخاني «غير منصف»، منوِّهاً بـ«الجهود» التي بذلها الأخير في مجال الأمن القومي للجمهورية الإسلامية.

 

رجل التقاطعات

كان اسم ابن الأهواز المولود عام 1955 لعائلة من عشيرة الشماخنة التابعة لقبيلة بني ربيعة قد بدأ يتردد في مسقط رأسه، محافظة خوزستان، قبيل انتصار الثورة الإسلامية بقيادة روح الله الخميني في 1979. ووفق سيرته المتداولة عبر المصادر المفتوحة، سيتعرف في أواخر عهد الشاه إلى آية الله منتظري الذي كان منفياً في تلك المحافظة الحدودية مع العراق، وينتسب بعدها إلى مجموعة محلية مسلحة نفذت عمليات ضد النظام. أما عقب انتصار الثورة فسيتولى قيادة «لجان الثورة الإسلامية» في محافظته التي ستغدو مسرحاً مروعاً من مسارح الحرب مع صدام حسين (1980-1988)، قاتل فيه في صفوف «حرس الثورة» وخسر اثنين من أشقائه.

يبدو أن هذا الدور التأسيسي في الحرس أهَّله لاحقاً لتولي مناصب قيادية فيه كان أعلاها نائب القائد العام، وهو من بين قلة تولت مسؤوليات في الحرس وفي الجيش، إذ قاد القوة البحرية لكل منهما في التسعينيات. لكن ما كان لذلك أن يتحقق لو أن مدينة لوس أنجلس أعجبته حين سافر إليها منتصف السبعينيات ليكمل دراسته، كما كتبت الصحافية الأميركية روبن رايت في مقدمة واحدة من مقابلاته القليلة، والتي أجرتها معه عام 1998 لصالح Los Angeles Times «في مكتبه الفسيح» في مقر وزارة الدفاع في طهران، حين تولاها في عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي (1997-2005).

كان الرجل في عهد الأخير أكثر من وزير في منصب يعد رمزياً إلى حد كبير. فباستثناء الأبحاث العسكرية والصناعات الدفاعية، لوزارة الدفاع تأثير محدود في الشق العسكري المعقود إلى الحرس والجيش والهيئة العامة للأركان المشتركة. كان تحت عباءة خاتمي أشبه بمبعوث دبلوماسي خاص إلى دول الخليج، وبخاصة السعودية. وبعد تبادل الرئيس الإيراني وعبد الله بن عبد العزيز (كان ولياً للعهد آنذاك، لكن حاكماً فعلياً جراء تراجع صحة الملك فهد) الزيارات في نهاية التسعينيات، كان المفتاح الذي أنجَزت عبره طهران، وخاتمي تحديداً، اتفاقات مع الرياض بعناوين اقتصادية وأمنية، رغم أنها كانت أقرب إلى اتفاقات تهدئة فتحت صفحة جديدة من العلاقات بين ضفتي الخليج استكمالاً لمحاولات تقارب بدأت في عهد الرئيس أكبر هاشمي رفسنجاني.

صار شمخاني صلة وصل رابحة لإيران والعرب على سواء، فهو موضع ثقة وصاحب رأي مسموع في طهران، وضمن قلة نادرة من المسؤولين الكبار في الجمهورية قادرة على محاورة المسؤولين العرب بلغتهم دون الحاجة إلى مترجم. يفهم طبيعة تفكيرهم وثقافتهم ويدرك أيضاً أهمية أمن الخليج البحري بالنسبة إلى الطرفين نظراً إلى المسؤوليات العسكرية التي تولاها. وقد تجلى التقدير السعودي لدوره خاصة في اتفاقية تعاون أمني أُبرمت عام 2001، حين قلده الأمير عبد الله وسام الملك عبد العزيز ذا المكانة الرفيعة.

لكنه سيبتعد عن المشهد في عهد محمود أحمدي نجاد (2005-2013) مع دخول إيران في حقبة سلوك دبلوماسي مختلف، انعكس توتراً مع دول غربية بشأن الملف النووي على وجه الخصوص. فبدا أنّ العلاقات مع الجوار، خصوصاً العربي، لم تعد أولوية كما كانت، رغم أن الرئيس الذي عُرف بمواقفه المتصلّبة حافظ على تواصل مع الرياض وزارها أكثر من مرة خلال رئاسته.

لم يعد «الأميرال» إلا مع تغيّر العهد الرئاسي وفوز «المعتدل» حسن روحاني، ليتبوأ في خريف ذلك العام أعلى منصب سياسي يمزج بين الأمن والسياسة في طهران؛ أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي، الذي من مهامه «حراسة الثورة الإسلامية ووحدة أراضي الجمهورية»، ويُنظر إلى أمينه الذي يعينه الرئيس رسمياً، على أنه منتقى من قائد الثورة الإسلامية.

أعطى التقاطع بين الخامنئي وروحاني حول تسميته إشارة إلى احتمال مضي طهران في مسار مختلف، خصوصاً أن من جرى اختياره هو شخص اصطلحت وسائل إعلام عربية على وصفه بـ«مهندس العلاقات الإيرانية-العربية». كما ألمحت تقارير صحافية آنذاك إلى أن تسميته كانت أيضاً جزءاً من لعبة التوازن الداخلية (خصوصاً بين الثنائي روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف من جهة، ومؤسسة الحرس ومن يدور في فلكها من جهة أخرى)، التي ترجِمت بإيلائه منصباً يمنح شاغله دوراً مماثلاً (ومنافساً) لما كان يؤديه أبرز مهندسي السياسة الإقليمية لإيران، قائد فيلق القدس في الحرس قاسم سليماني.

وكان الصحافي في The Washington Post ديفيد إغناسيوس قد نقل نهاية 2014، قبل أشهر قليلة من توقيع الاتفاق النووي، عن مسؤول أميركي اعتباره أنّ شمخاني بدأ بأداء «دور لافت في السياسة الإقليمية الإيرانية» خاصة في العراق، بعدما كان ذلك «اختصاصاً حصرياً» لسليماني.

 

الواقف بجانب الخريطة

لم يخرج الرجل الدائم الأناقة بسترته وقميصه الذي غالباً ما يكون ذا ياقة «غربية»، بخلاف ما يعرف به المسؤولون الإيرانيون، من موقع القرار مع طي صفحة روحاني ومجيء إبراهيم رئيسي بدلاً منه صيف 2021. فقد بقي في المجلس، وإن تراجع حضوره في المشهد العام لسياسة خارجية صارت متشددة، يحدد عناوينها الرئيس الجديد ويطبقها وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان ومعاونه علي باقري، فيما تُعزى لمساتها الخفية إلى سعيد جليلي، أمين «القومي» قبل شمخاني، والذي عرِف بمواقفه المتصلبة في التفاوض مع الغرب وانسحب من الانتخابات الرئاسية الأخيرة لمصلحة رئيسي.

غير أن بقاءه لم ينعكس وحدة حال علنية مع سياسات الحكومة الثالثة عشرة في تاريخ الجمهورية الإسلامية. فخلال المباحثات الهادفة إلى إحياء الاتفاق الدولي بشأن برنامج طهران النووي، لجأ شمخاني مراراً إلى تويتر للإدلاء بمواقف ومحددات سياسية وتوجهات تفاوضية كان بعضها غير متَّسق مع ما تدلي به الخارجية أو كبير المفاوضين باقري. لم يتضح هل كان ذلك نتيجة تفاوت في الرؤى داخل هيئة القرار حيال إحياء الاتفاق بعد الانسحاب الأميركي «الترامبي» منه في 2018، أو مجرد توزيع أدوار حيال ملف لم يبلغ خاتمته السعيدة. لكن المفارقة أن تصريحاته كانت أكثر حدة من الخارجية، رغم أنه الموسوم غالباً بقربه أكثر إلى الإصلاحيين والمعتدلين المؤيدين للتفاهم مع الغرب.

سيبقى بعد ذلك، خلال الاحتجاجات التي أعقبت وفاة مهسا أميني، معتصماً بالصمت في العلن دون أن يسلم من الانتقادات، سواء من أصوليين في النظام رأوا أنه أكثر قرباً إلى موقف الإصلاحيين المنتقد لتعامل السلطات مع التحركات، أو من معارضين حمَّلوه مسؤولية التعامل الأمني مع المحتجين وتوقيف الآلاف. إلا أن أي صورة واضحة عن طبيعة دوره الحالي في ضوء التطورات الدبلوماسية الأخيرة تبقى رهن تحليلات لم تكتمل عناصرها.

يذهب متابعون للشؤون الإيرانية إلى أنه «يبرز سريعاً كوزير خارجية إيران الفعلي، وهو ما يؤشر إلى أن المرشد الأعلى تولى زمام السيطرة على السياسة الخارجية على حساب حكومة (الرئيس إبراهيم) رئيسي»، كما يقول الأستاذ في جامعة Johns Hopkins الأميركية ولي نصر، فيما يرى حميد رضا عزيزي، الباحث زائر في معهد Stiftung Wissenschaft und Politik في برلين، أن توقيع الاتفاق مع السعودية في العاشر من آذار/مارس «يعزز أيضاً موقع شمخاني على المستوى الداخلي».

لم تقتصر التقارير الصحافية وتعليقات المختصين عن دور متجدد لشمخاني على شخصه فقط، بل رُبط بسياق إعادة تصويب لبوصلة السياسة الخارجية، خصوصاً مع الجمود الذي أصاب ملفات مختلفة: مباحثات إحياء الاتفاق النووي، التوتر مع الأوروبيين على خلفية حرب أوكرانيا والموقوفين الأجانب، والتعامل مع الاحتجاجات.

كما ركَّزت التقارير، وبعضها صادر من طهران، على أن «الأمن القومي» ممثلاً به، إضافة إلى نائب وزير الخارجية باقري، سيتوليان أدواراً أكبر على حساب أمير عبداللهيان. وربما هذا ما دفع الأخير إلى التأكيد قبل توجّه شمخاني إلى بغداد في 19 الماضي أن «زيارة الأميرال إلى الإمارات العربية المتحدة والعراق في إطار العلاقات الأمنية القائمة، وهي ليست ظاهرة جديدة. ممثل الخارجية يرافقه في هذه الزيارات. ثمة تنسيق في السياسة الخارجية. كل شيء يجري في إطار النظام وتحت إشراف رئيس الجمهورية. ليعلم الأعداء: لا يوجد خلاف».

لقد بعث حضوره بهذا الشكل في السياسة الخارجية، وفق المختص في الشؤون الإيرانية ضمن Eurasia Group البحثية غريغوري برو، «رسالة بلا شك حول مركزه في الهيكلية، خصوصاً دوره كشخص تولى مناصب مع حكومات إصلاحية وأصولية». و«مما لا شك فيه أنه شخصية ذات قيمة أعلى من أمير عبداللهيان الذي يعد أقرب إلى موظف تنفيذي، لكن استنتاج تبدُّلٍ في موازين القوى داخل الحكم (بعد اتفاق بكين) أمر يبقى موضع تساؤل»، يضيف برو. إلا أنه يشدد على أن شمخاني «مفتاح لكل الأبواب: علاقات مع الحرس الثوري، بعض التركات الحسنة من عمله في حكومة خاتمي، منصبه في الأمن القومي، علاقته مع المرشد الأعلى… هو أيضاً من القومية العربية، ما يجعل منه مبعوثاً جيداً إلى دول مجلس التعاون الخليجي».

هذه ليست المرة الأولى التي يمد فيها الرجل، المقلّ في تصريحاته، يديه إلى ميدان مرتبط بالسياسة الخارجية. ففي مقابلته مع Los Angeles Times، سُئل عن حديث لزميله وزير الخارجية كمال خرازي حول إمكان التعاون مع الولايات المتحدة في مجالات ضبط المخدرات والإرهاب وأسلحة الدمار الشامل. قال: «هل يمكن أن تهين شخصاً وتزعم في الوقت عينه أنك صديقه؟ هل من الممكن أن توجّه المسدس إلى شخص وأن تزعم أنك صديقه؟ هل من المنطقي إجراء مناورات عسكرية إذا كان العدو طرفاً يُفترض أنك تريد أن تصبح صديقه؟».

يعود اليوم بعد أكثر من عقدين على هذا التصريح، إلى مساحة مشتركة بين إيران وجيرانها العرب في «الخليج الفارسي» الذي تتوسط خريطتُه الكبيرة الاجتماع بينه وبين كل زائر يستضيفه في مقر أمانة مجلس الأمن القومي في طهران. والخريطة هي ما اختارته صحيفة «همشهري» الصادرة عن بلدية طهران لتتصدّر إحدى صفحاتها الأولى بعد اتفاق بكين بعنوان عريض لا لبس فيه: «خريطة جديدة» مع كاريكاتير لشمخاني وهو يجمِّعها بقطع بازل صغيرة، أولها السعودية وثانيها الإمارات... التي سيؤكد منها منتصف الشهر الماضي أن «دول المنطقة أجمع تواجه مصيراً مشتركاً وتنتمي إلى أسرة عظيمة واحدة».

المراسل ومتعاونون

مواضيع يعدُّها محرِّرا الموقع ومتعاونون.

×