10 كانون الأول 2024
15 آذار 2023
في غفلة من الجميع تقريباً، ما خلا أصحاب القرار وبعض المطّلعين في الدول الثلاث، أعلنت إيران والسعودية من الصين اتفاقهما على إعادة وصل ما انقطع ذات ليلة من كانون الثاني/يناير 2016. فكان توافقاً على استئناف العلاقات وإعادة فتح السفارتين خلال شهرين، وتفعيل اتفاق تعاون أمني يعود إلى عام 2001 بين الخصمين الإقليميين، من دون أن يعني ذلك التأسيس لإستراتيجية تعاون مستقبلي تحلُّ محلّ التجاذب المعهود منذ عقود.
مضى زهاء أسبوع على الإعلان الذي تبعته تصريحات إيجابية مرحّبة من كلّ من يمتّ بصلة للبلدين، إلا أنّ الغموض الذي أحاط بمراحل إنجازه النهائية لا تفوقه سرّيّة سوى الفحوى (الجديّة) لما جرى الاتفاق عليه. فرغم سيل التحليلات (خاصة الغربية منها) وتسريبات عن بنود أمنية أقرب ما تكون إلى الفكاهة منها إلى الواقع، بقي المضمون المضمر محميّاً من أيّ تسريب جدّي، وهو ما قد يفسَّر بأمرين: إما محاولة لحمايته، وإما أنّ الاتفاق هو أقرب إلى تفاهم حول عناوين عريضة منه إلى التزام فعلي بخطوات عملية ترتبط بالملفات الشائكة التي يفترقان حولها.
ويبقى مفاجئاً تحقّق هذا الإنجاز الدبلوماسي الذي لم يكن وليد لحظته. فمنذ نيسان/أبريل 2021، خاض الطرفان في سلسلة من جولات الحوار بضيافة بغداد، في محاولات بقيت إلى حدّ كبير أقرب إلى مجهود شخصي من رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي الساعي إلى تعزيز أوراقه، من كونها عمل على تسوية كبرى. بدا واضحاً في حينه أنّ الطرفين لم يخترقا أكثر من إيجابية الجلوس إلى طاولة واحدة، خصوصاً بعد انقطاع الأنباء عن جولات إضافية في عاصمة الرشيد اعتباراً من نيسان/أبريل 2022.
وقد كرَّر المسؤولون الإيرانيون بعد ذلك استعدادهم للاستئناف، إلا أنّهم ربطوا الأمر دائماً بخطوات سعودية مطلوبة وإجابات عن أسئلة طرِحت خلف الأبواب الموصدة. في المقابل، بقيت تصريحات المسؤولين السعوديين مبهمة حول جولة حوار جديدة، وظلّ وعد وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين بجمع نظيريه الإيراني والسعودي، مجرّد تصريحات إعلامية لم تثمر.
ورغم دور لاحق لمسقط الضليعة في نسج حبال المفاوضات السريّة بين الخصوم، إلا أنّ إبرام الاتفاق بين قطبين إقليميين على هذا القدر من الأهمية والتخاصم، احتاج إلى ضامن من وزن الصين. فشي جينبينغ ليس مصطفى الكاظمي، وبكين الباحثة عن توسعة دور تصالحي دولي أوكلته بالدرجة الأولى إلى مهندس سياستها الخارجية وانغ يي، أرادت إخراج الاتفاق من رحابها، بقدر ما أرادته طهران والرياض في هذا التوقيت بالذات.
«الجمال يكمن في عين الرائي»
أراد كلّ طرف تحقيق مصلحته في الصورة التي جمعت في 10 آذار/مارس مستشار الأمن القومي السعودي محمد بن مساعد العيبان، وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني الذي يستعيد في طهران أداء دور إقليمي أكثر حضوراً بعد أعوام من انحساره، يتوسطهما وانغ يي بعد أيام خمسة من التفاوض في بكين.
بالنسبة إلى الصين، فهي دخلت مع بدء الولاية الثالثة التاريخية لرئيسها شي جينبينغ، مرحلة من الدور الدبلوماسي الجديد لجهة التوفيق بين أضداد وجمع المتخاصمين، وسط ترجيح محلّلين أنّها اختارت هذا الميدان كاختبار للجائزة الكبرى التي يُزعم أنّها تضعها نصب عينيها وبدأت العمل عليها قبل أسابيع: محاولة التوفيق بين روسيا وأوكرانيا لوضع حدّ للحرب.
أتت خطوتها أيضاً بعد زيارة شي إلى السعودية نهاية 2022، حيث عقد مع قادة الخليج قمة أثارت توتّراً مع طهران على خلفية بيان تطرّق إلى سيادة الإمارات على الجزر الثلاث المتنازع عليها مع الجمهورية الإسلامية، واستتبع رداً إيرانياً غير مباشر من الرئيس إبراهيم رئيسي الذي قبيل سفره إلى الصين في شباط/فبراير، وقف يتحدّث إلى الصحافة في مطار مهرآباد من أمام خريطة كتِب عليها حصراً عبارة «خليج فارس» بأحرف ضخمة.
من جهة إيران، جاء الاتفاق في لحظة تشنّج مع الغرب لم تشهد لها العلاقات مثيلاً منذ أعوام طويلة، بخاصة مع الأوروبيين الذين أبقوا دائماً خطوط تواصل معها مهما بلغ التوتر في العلاقة بينها وبين الولايات المتحدة. كما أنّه جاء في لحظة البحث عمّن يجرؤ عملياً على تسهيل مهمّة أن يسلِّم الاتفاق النووي لعام 2015 الروح، وفي لحظة اختناق في ظلّ تراجع غير مضبوط لقيمة العملة المحلية، وتنامي الشرخ الاجتماعي بعد أشهر من احتجاجات تلت وفاة الشابة مهسا أميني.
على الضفة الأخرى من الخليج، حلّ الاتفاق بالنسبة إلى السعودية في لحظة تنافر غير معلن مع أبوظبي محورها النفط وتناتش الدور الإقليمي والعلاقة مع واشنطن، وفي خضم تباعد واضح المعالم مع إدارة جو بايدن، وإفاضةٍ في المشاريع الكبرى لولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وهي مشاريع عاجزة عن إبصار النور بأمان بينما الملك المؤجَّل تتويجه غارق في مستنقع مجهول القعر في الحرب المفتوحة في اليمن، وعلى خصومة مع جار قادر – عسكرياً – على تعكير صفو أحلامه.
أما بشأن الأحاديث الكثيرة والمتشعّبة حول العلاقات السعودية الأميركية في ضوء الاتفاق، فقد كان لافتاً في مقابلة لسفير الرياض الأسبق لدى واشنطن ورئيس الاستخبارات السعودية من نهاية السبعينيات إلى بداية الألفية الأمير تركي بن فيصل مع قناة LCI الفرنسية بداية هذا الأسبوع، إجابته بابتسامة على سؤال حول «أنّ الصورة (في بكين) مزعجة لعين أميركية»، بأنّ «الجمال يكمن في عين الرائي (...) إذاً فالسؤال هو من ينظر إلى ماذا؟». لكنّ الرجل الذي يُرجَّح أنّه من الدائرة المقرّبة لابن سلمان في ما يخصّ السياسة الخارجية، عاد ليؤكد أنّ علاقة بلاده بواشنطن «إستراتيجية ولن تتأثر بعلاقتنا مع الصين»، مضيفاً بأنّه «حين تفكّر من ناحية القوّة الإستراتيجية (...) فالأمر لا يقارن (بين واشنطن وبكين). لا تزال الولايات المتحدة القوّة الأولى في كلّ مكان».
«تريّثوا، تريّثوا»
اختصرت الباحثة الأولى في مركز الجزيرة للدراسات فاطمة الصمّادي الاتفاق بالقول إنّ «إيران تحتاج هذه التهدئة، والسعودية تحتاجها»، مشيرة الى أنّ للصين مصلحة اقتصادية بالدرجة الأولى في الدفع نحو اتفاق بين قوّتين إقليميتين تشكّلان شرياناً رئيسياً لإمداداتها بالطاقة.
يدرك كلّ بلد من الإثنين هوامش الآخر في تعكير استقراره. فالسعودية عرفت لدى سقوط الصواريخ والمسيّرات على منشآتها النفطية في 2019، إلى أيّ حدّ يمكن أن تؤذيها لَسعةٌ إيرانية (إيرانية التنفيذ، أو التوجيه). وخبرت طهران بدورها أنّ ظلالها الوارفة في الشرق الأوسط لا تقوِّض قدرة الرياض على توجيه ضربات موجعة، بخاصة من خلال دور وسائل إعلام ناطقة بالفارسية في التأثير على الرأي العام الداخلي وتغذية الاحتجاجات المناهضة للسلطات، أو من خلال المساندة الخفيّة للتحرّكات ذات الطابع الأمني لمجموعات عربية أو بلوشية انفصالية التوجّه في جنوب شرقي الجمهورية الإسلامية وجنوبها الغربي.
قلّ ما يجد هذا الاحتكاك المباشر بين السعودية وإيران مكانه لدى الحديث عن تنافر بينهما أو تقارب، فيحتلّ موقعاً ثانوياً مقارنة بـ «حروب الواسطة» التي يخوضانها على غير جبهة في الإقليم. إلا أنّ أحد البنود المعلنة لاتفاق بكين، وهو التعهّد بـ «احترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية»، يعكس الأهمية التي يوليها كلّ طرف لعدم مسّ الآخر به بالمباشر، وذلك قبل الحديث عن المصالح الإقليمية لكلّ منهما.
فقد تبدو هذه العبارة هامشية في ظلّ ترقّب الإقليم بمجمل ملفاته، من العراق إلى اليمن ولبنان وسوريا، لتسوية كبرى يتوزّع فيها القطبان حصص المصالح والتهدئة. لكن من المحتمل أن تكون الرياض وطهران اختارتا، في لحظة براغماتية نادرة في رسم حدود العلاقات بينهما، البدء من التفاصيل الصغيرة واختبار نجاحها قبل الحديث عن القضايا الكبرى الشائكة.
ورأت الصمّادي، في تصريحات إلى قناة الجزيرة، أنّه «في ما يخصّ التأثير على ملفات المنطقة، يجب أن نتريّث قليلاً لأنّ الأمر سابق لأوانه، فالسعودية وإيران ستبقيان متنافستين إقليمياً». هذا الموقف الداعي إلى التريّث عكسه أيضاً هونغدا فان، الأستاذ الجامعي الصيني المتخصص في دراسات الشرق الأوسط وإيران على وجه الخصوص، إذ كتب عبر تويتر: «أقرأ بعض التعليقات اليوم بشأن توسّط الصين لتطبيع العلاقات بين السعودية وإيران، ويتكوّن لدي انطباع بأنّ الشرق الأوسط سيتغيّر جذرياً اعتباراً من الغد»، مستدرِكاً: «كيف يحصل ذلك؟ تريّثوا، تريّثوا، يجب الحفاظ على الهدوء بشأن الشرق الأوسط».
كانت خلافات الإقليم وتوترات البلدين حاضرة حتى في ظلّ العلاقات الدبلوماسية بينهما، والأرجح أنّ استئناف العلاقات لن يعني – أقلّه في المراحل الأولى – أكثر من فتح قناة تواصل دائمة تمكّنهما «من الحوار الدبلوماسي المباشر في بحث مجمل القضايا الموجودة»، وفق رئيس مركز الخليج للأبحاث عبد العزيز بن صقر.
هذا الأفق المحدود للاتفاق عكسه مصدر دبلوماسي عربي تحدّث إلى صحيفة Financial Times البريطانية، التي كانت العام الماضي أوَّل من نشر نبأ الحوار السعودي الإيراني في بغداد. وقال إنّ ما جرى «سلام بارد، إيران والسعودية لن يجمعهما سلام فعلي»، مضيفاً أنّ «التوتّر سيتراجع، والأمور ستتحسّن بعض الشيء، إلا أنّ ذلك لن يوقف عمليات الخداع. وقد أظهر الجانبان في السابق أنّه في حال تمّ تفعيلها، يمكن (لهذه العمليات) أن تؤدّي إلى ردود فعل متهوّرة».
أبعد من التحاليل والأدوار الكبرى، يبقى لهذا الاتفاق اختبارات صغيرة كفيلة بأن تعكس جديته من عدمها، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، ما إذا كانت الجماهير التي ستحتشد في طهران في أيّ مناسبة مقبلة تقام بتنظيم رسمي، ستردّد الشعار الذي يسمع منذ أعوام «مركَ بر (الموت لـ) آل سعود خائن».
مواضيع يعدُّها محرِّرا الموقع ومتعاونون.