28 آذار 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

تحوّل الإسلاميين ما زال محدوداً في موريتانيا

عالي ولد الدمين

5 كانون الثاني 2023

انتخب المؤتمر ولد سيدي المختار رئيساً جديداً لـ«تواصل»، وهو الثالث منذ التأسيس في العام 2007 (تصميم المراسل)

أثار عقد حزب «التجمع الوطني للإصلاح والتنمية – تواصل» الإسلامي مؤتمره الرابع في نواكشوط نهاية العام الماضي جملةً من ردود الفعل الشعبية المثنية على «فعالية وجديّة امتازَ بهما الحزب» في الساحة السياسية الموريتانية دوناً عن غيره، في مواقف طغى عليها الإعجاب بالتجربة لكنّها أفضت إلى إغفال السيرورة السياسية والتاريخية التي أنتجت هذا الحزب.

ليس تاريخ الإسلاميين في موريتانيا حزبياً إلّا ما ندر، إذ تعود سيرة التحزّب في تجربتهم إلى العام 2007 لحظة تأسيس «تواصل»، غير أنّ ضآلة التاريخ الحزبي على حساب التاريخ الحركيّ والتعبويّ والدعويّ لا تعني غياب الطموحات المبكرة مع ظهور مساع في بداية التسعينيات لإنشاء «حزب الأمة» الذي لم تمنحه السلطة رخصة، فضلاً عن محاولات أخرى أخفقت جميعها للسبب نفسه: منع الترخيص.

كان تأسيس «تنظيم الجماعة الإسلامية» (1978-1979) البداية الفعليّة لنشوء الحركة الإسلامية في موريتانيا. ضمّ التنظيم نحو 50 عضواً توزَّعوا على هيئاته الداخلية، وجاء ظهورهم حينذاك في ردّ فعل على ما رأوه «انحلالاً أخلاقياً» و«تفسخاً قيمياً» يطغيان على مظاهر الحياة العامة في نواكشوط في عقد السبعينيات. فالعاصمة كانت يومئذ مسرحاً لأنشطة حركات فكريّة وسياسيّة تقدميّة، مثل «الكادحين» ذات الميول اليسارية، والحركات القومية العربية، ما حفّز الإسلاميين على السعي الدعويّ ضدّ مظاهر «الانحلال» التي كانوا يعتقدونَ أنّ مثل هذه الحركات تغضّ عنه النّظر بل يمكن أن تحفزه.

في نهاية السبعينيات، وبالتزامن مع إرهاصاتِ نشأتهم الحركيّة، شكّل تأسيس «المعهد العالي للبحوث والدراسات الإسلامية» الحكومي قفزةً كبيرةً في تكوّن الحركة الإسلامية بالبلاد، فقد كانَ لاستناده إلى خلفيّة علوم المدارس الأهليّة التقليديّة المعروفةِ بـ«المحاظر»، في الشريعة واللغة، أن يدفعَ نحو تخرّج معلمين، وقضاة، وغيرهم ممن سيؤمّن التحاقهم بالوظيفة العمومية دفعاً قوياً في بروز حراك الإسلامييّن الدعويّ والتعبويّ.

جاء تأسُّس المعهد في خضم الحراك الديني والدعوي الذي كان الإسلاميون يقومون عليه، فكان تأسيسه محطةً فاصلة في بروزهم لما توفّرَ فيه من تدريس علوم قديمة وفق أساليب ومنهجيّات حديثة، وهو ما جعل له الدور الأكبر في تهيئة أجيال ستغدو خلال سنوات قليلة في صدارة النشاط الإسلامي السياسي كجميل ولد منصور، ومحمد محمود ولد سييدي، والسالك ولد سيدي محمود، وغيرهم.

 

مغارم الصدام مع النظام ومغانمه

أسّس الإسلاميون الموريتانيون وجودهم بالأنشطة الدعوية والتعبوية، وسعوا إلى عقد صلات تربطهم بالبيروقراطية وجسم الدولة القانوني الحديث، وبالتشكيلات المجتمعية والثقافية، وتمكنوا بصورة عامة من اختراق سيطرة نظام ولد الطائع على الفضاء العام بين منتصف الثمانينيات والعام 2005 بنمط من الفعالية غير المضبوطة أمنياً.

في نهاية التسعينيات وبداية الألفية، جاء صدام نظام ولد الطائع مع قيادات الإسلاميين رغبةً منه في تحجيم تمدّد حركتهم وخطابها في المجتمع، على أنّ الوقت كان قد تأخّر. فخطأ ولد الطائع، الذي حملَ عداءً إستراتيجياً للإسلاميين منذ البداية، كان فادحاً حين ظنّ أنّ حرمان القيادات الامتيازات الحزبية والحظوة البيروقراطية كفيلٌ بقتل الحركة سياسياً. وعندما حاول تدارك هذا «الخطأ» بسجن القيادات ونفيها، بدا ذلك فرصةً لإيقاظ نزعات التضامن والمناصرة في جسم الحركة الشعبي النائم.

عادةً ما تؤدي ظروف المحنة إلى تنشيط جماهيرية الحركات السياسية وزيادة ترابط قواعدها حول قياداتها، ولعلّ هذا ما حدث للحركة الإسلامية في موريتانيا. فقد ساعد ميل نظام ولد الطائع في سنواته الأخيرة إلى الضيق ذرعاً بمعارضيه وقمعهم في إعطاء فرصة كبرى للإسلاميين من أجل صياغة سردية الضحية، فمكّنهم ذلك من حشد التضامن، والأهم من التسلّلِ إلى قلب طيف يعتدّ به من الشارع الموريتاني تحت شعارات كـ«حبس العلماء».

أفسد هذا الاستغلال للموقف بعض خطة ولد الطائع الذي كان يراهن بشدّة في صراعه مع الإسلاميين على الحساسية الشعبية في الأوساط التقليدية منهم، غير أنّ هذه الحساسية، التي تُعرِب عن نفسها بالميل إلى التديّن التقليدي غير المتكلّف والمتصالح مع الأنماط الثقافية والاجتماعية، لم تلبث أن تعرّضت إلى هزّةٍ قويّة بفعل دعاية مناوئة حوّلت الصراع مع السلطة من سياسي إلى عقديّ، والدعاية هي ترويج لسردية، أو فكرة، أو موقف، عن طريق الصحف، أو الدعوة في المساجد، أو اللقاءات والتعبئة في الفضاءات الكبرى كالأسواق.

مثّل الإسلاميون في هذه الدعاية تيّار الضحية الرافع لواء الإسلام، فيما صُوِّر نظام ولد الطائع في دور المتسلّط والمعادي للعلماء وتالياً للإسلام. ورغم مجابهة النظام تأثير هذه الدعاية بأخرى تلقي بتهم الشيطنة ومعاداة الوطن على الحركة، فإنّ ذلك لم يمنع تأثيرها المفصلي في مسار الحركة لاحقاً، خاصة أنّ الأخيرة استطاعت بحصد نتائج دعايتها ودعمها بجهودها الدعوية تليينَ الحاجز الصلب الذي كان يقف حائلاً بينها وبين قطاع عريض من الرأي العام، فخفّت الريبة في قلوب كثيرين تجاهها، وكان ذلك إيذاناً ببداية وجود جديد.

 

التحزّب والوجود الموازي

إن لم يكن تاريخ الإسلاميين في موريتانيا حزبياً بالكامل، فهو تاريخ صراع من أجلِ التحزّب وسعي إليه، وتدلُّ على ذلك محاولاتهم المتكررة لإنشاء حزب خاصّ بهم.

فبعد سقوط نظام ولد الطائع (2005) بوقت قصير، تقدّم الإسلاميون بطلب ترخيص حزب سياسي لكنّ بنية النظام الحاكم كانت لا تزال غير راضية عنهم. ثم عادوا إلى العمل على الدعوة الدينية وبناء قدراتهم عبر الأنشطة الخيرية والطالبية والإعلامية من باب الإعداد، فيما شكّل منع الترخيص المتكرر فرصة مواتية للعمل السياسي من أجل الحصول على الحقوق وربطه بمسألة الديمقراطية في المشهد السياسي الموريتاني.

قد تكون تجربة الصدام مع نظام ولد الطائع المُحفِّز الأهم للحركة في تحوّلها إلى حزب سياسي، وهو الأمر الذي سيحصل في 2007 مع أوّل تحوّل ديمقراطي مدني في البلاد. وعبر حزب «تواصل»، أمكنَ للإسلاميين في موريتانيا لأوّل مرّة المشاركة السياسية، وجاء ذلك تتويجاً لمسار طويل، وبداية مسار من النشاط السياسي المثير للجدل.

مُستفيداً من ثقله الجماهيري في بعض المدن الشرقية والغربية والعاصمة، استطاع «تواصل» أن يصير عملياً أوّل حزب معارض في البرلمان الموريتاني اليوم (14 مقعداً من أصل 157 يمتلك الحزب الحاكم 89 منها). فعلى خلاف أحزاب المعارضة التي قاطعت انتخابات 2014، وتأثر حضورها الانتخابي والتمثيليّ، استطاع الحزب بمشاركته الدائمة في الانتخابات البرلمانية والبلدية بناء قواعده الانتخابية وتوسيع حضوره التمثيليّ في البرلمان وبعض البلديات.

حرصَ «تواصل» منذ البداية على ربط الشارع به عن طريقِ ناشطيه التعبويين والخيرييّن أحياناً، وكانَ دوماً منخرطاً في هموم الشارعِ وحاملاً لها على نحو قد يبدو انتهازياً بعض المرّات. هذا ما أكسبه شعبية متزايدة وفتيّة، فيما مكّنَه الدمج الدائم للناشطين الجدد من خلق صورة حسنة عنه في الشارع. ولعلّ روح الطاعة والولاء، التي يتصف بها أعضاء الحزب وقيادته، ساعدت في إكسابه صلابةً طوال السنوات الماضية، ما جعله من أقوى الأحزاب في موريتانيا.

غير أنّ ما وفّر لـ«تواصل» صلابةً شديدة رغم تعرّضه لمضايقات سياسية هو حضوره من وراء الستار في الجمعيات الدعوية الثقافية والهيئات الخيرية والمؤسسات الإعلامية، على غرار «جمعية المستقبل للدعوة والثقافة والتعليم»، و«جمعية بسمة وأمل»، و«قناة المرابطون»، وغيرها. فهذا الوجود الموازي النشيط والمتشعب في المجتمع والعامل على تغيير مفاهيم الحياة بهدوء هو ما ظلَّ إلى اليوم يُكسِب الحزب القوّة اللازمة للبقاء والفعالية.

اللافت أنّ الإسلاميين حتى وهم ينعمون اليوم بمكاسب الشرعية الحزبية القانونية وثمارها، فإنّهم غير قادرين على الاستغناء عن ذلك الوجود الموازي. فكما أنّهم في بداية نشأتهم تحقّقوا بالعمل الدعوي والثقافي والتعبويّ، هم اليوم في حقبتهم الحزبية العليا إنمّا يسيطرون ويصعدون بهذا الوجود نفسه.

 

معركة الاستيعاب

إنّ خلوّ غالبية تاريخ المجتمع الموريتاني الحديث، منذ قيام دولته في بداية الستينيات، من نشاط حزبيّ-إسلاميّ، يمكن أن يفسِّر لماذا كان تحوّل الإسلاميين إلى النشاط الحزبيّ ودخولهم فيه، والمكانة التي وصلوا إليها في ظلِّه، تحوّلاً كبيراً.

لكنّ نجاحات الإسلاميين الحزبيّة، على ما تُلفت إليه من جهد ونشاط حركيّ وسياسيّ، تظلّ تواجه صعوبات كبرى في الساحة الموريتانية. ولعلّ أبرزها استحالة استيعاب «تواصل» وقنواتَ تأثيره الموازيّة من هيئاتٍ وجمعياتٍ ثقافية، لـعمق المجتمع ونخبته استيعاباً فكرياً واجتماعياً.

لا يزال في المجتمع الموريتاني تيّارٌ عريض لا يجد نفسه متوافقاً مع رؤية «تواصل» وممارسته، ويشمل هذا التيار القوى التقليدية وحواشيها وغالبية النخب السياسية والفنية والدينية والعسكرية. وإن كان الحزب وقنوات تأثيره قد عوّضوا نسبياً عدم استيعاب هذا التيار العريض المتنوّع بالتركيز على الفئات الجديدة، من طلاب ودعاة ونشطاء جمعويين، مع ضمّ نسبة مهمة من التجّار المتوسطين والمهنييّن الصغار، فإنّ عدم استيعاب هذا التيار المجتمعي والنخبويّ يجعلُ أثرَ حزبيته محدوداً في المشهد الموريتاني.

ما يبدو هو أنّ «تواصل» ما لم يراجع رؤيته الفكريّة والمؤسسية، ليستوعب هذا التيّار، أو تحدث تغييرات ثقافيّة واجتماعية عميقة في موريتانيا تدفعُ نحو تجاوز شكل المجتمع ونخبته، سيظلّ عاجزاً عن الاستيعاب. وبحكم أنّ لا هذا الاحتمال ولا ذاك على وشك التحقّق في أفق قريب، فإنّ تأثير الحزب سيظلّ محدوداً رغم تميّزه التنظيمي والتعبوي.

ورغم أنّه نادراً ما جرى التشكيك في «حزبية تواصل» في موريتانيا حيث يكثر التشكيك في حزبية الأحزاب بالقول إنّها ليست أحزاباً سياسية، بل مجرّد حقائب ارتزاق، أو عناوين قبلية وأهلية، تنظر النخبة الموريتانية التقليديّة وأذرعها إلى «تواصل» بوصفه مشروعاً غريباً يحمل داخله تهديدات جسيمة للنمط الاجتماعي والثقافي «المعروف في البلاد». وبما أنّ هذه النخبة لا تزال مهيمنة ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وإدارياً، فهذا يجعل معركة الحزب ضدّها خاسرة، أقلّه حالياً. ولذا بدلاً من صراع صريح ضدّها، يحاول الحزب ببرغماتية استيعابها، ولكن دونما نجاح كبير.

عالي ولد الدمين

كاتب موريتاني وباحث في العلوم الاجتماعية.

×