14 تشرين الأول 2025

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

وَعَينانِ تَجْرِيانْ؛ زياد الرَّحباني

محمود مروّة

29 تموز 2025

 

الحِداد؛ لم يجعَلني أخلَع التيشرت الحمراء.

 

كنتُ فوق دراجتي الـ Vespa السوداء اللون. أسلُك الطريق الذاهب نحو منارة بيروت. لم تمضِ ساعات قليلة بعد على إعلان وفاة زياد الرَّحباني. تذكَّرتُ يوم كنتُ فوق الدراجة نفسها إنّما في الاتجاه المعاكس، قبل أربع سنوات تماماً. ساعات قليلة لم تكن قد مرَّت بعد على وفاة صاحِبٍ لي. هو وزياد شيوعيان، فقرَّرت لذِكراهما ألّا أخلعها تيشرتي الحمراء. سَحبتُها في الصباح مصادفةً من أقصى الخِزانةِ، من حيث بدَتْ كأنَّها نَسيٌ مَنْسيُ.

 

جلستُ في مقهى على البحر. منذ وقتٍ طويلٍ وهم يقولون إنَّنا نعيش في زمنٍ: «مَكسور من جهة الماضي، مَبتور من جهة المستقبل، والحاضر فيه يتفتّت». استعدْتُ كيف فوق درّاجتي جلتُ بيروت كثيراً في نهاية تموز 2021 إبّان رحيل صاحبي الصحافي. كنتُ في زيارةٍ لأيامٍ قليلةٍ. العاصمة في عِزِّ «الأزمة». أشياء تنوء مثل صاحِبي نحو الفناء والرحيل. بينما من درّاجتي تخرج موسيقى لزياد، من مُكبِّر صوتٍ Marshall أسود وَضَعتُه بين قدَماي وسط دهشة البعض. أُكثِر الاستماع يومها إلى ألبوم العزف بلا غناء بالأفراح. أدمِنُ منه يا حمام «يا مْروَّح بلدك مِتهَنّي». أحِبُ دَخلةَ القانونِ، كما دخلتُه في المقطوعة التي ستليها: سألوني الناس.

 

نَظَرتُ في العيون الملتمَّة من حول مستشفى خوري في صباح يوم الإثنين. هناك أمضى زياد ساعاته الأخيرة في عالمِ الفانين. ومنها سيَخرُج نَعشاً نحو جِنّازِهِ الكنائسيّ في بلدة المحيدْثة في المَتن.

 

«في عْيونْ بْتِبْكي، وفي عْيونْ بْتِضحَكْ، وفي عْيونْ بْتِسْتحي، وفي عْيونْ بتِتْلبَّك، وفي عْيونْ شو ما عملت بتنحب». هذا ما تقوله أغنية لزِياد في سَهرِيِّة. احزَرْ إنتَ عْيونَكْ أيَّ عْيونْ! فليَكُنْ عزاؤك يا ابنَ العَينَينِ فيروزاً، وعاصياً، ووَعْداً، وفَرَحاً، وأفعال رجاءٍ، وليالي طِوالْ. فـ «إلى الأبدِ أحبِبْني، ودَعْ الأبديّةَ تبدأُ هذه الليلة»؛ تَصدَح مُغنِّيَةُ فِرقة Pink Martini.

 

 

بَدَأتُ بالتعرُّف جَدِّياً إلى زياد الرَّحباني في العام الأوّل للمرحلة الثانوية. في صيدا، في ثانوية رفيق الحريري، وبفضل شلَّةٍ "كبيرُها" صديق الصفّ "ك. م.". هو من أرشدَني إلى شخصية رشيد في مسرحية فيلم أميركي طويل. أسرَتني منذ اللحظة الأولى، وما زلتُ أسيرَها. أرى الأرضَ مصدراً لـ «إشاراتٍ» يقول رشيد إنّها تعكف العقول. لم أوقف أحداً في الشارع وضربتُه مثلما فعل. ولكنَّني لطالما قلَّدتُه، بصورٍ غير ماديةٍ. رافِضاً دعوات «تطويل البال».

 

بعد اغتيال السيِّد حسن نصر الله شَعَرتُ بي رشيداً يريد لقاء رئيس الجمهورية الأسبق إلياس سركيس. سركيس لي هو الرئيس نبيه برّى. «أعلى سلطة» شيعية أقول لصديقي ابن الضاحية، مناصر الحزب، والذي ينام عندي وقت الحرب. «أعلى سلطة فخامة رئيس الجمهورية [الإستاذ نبيه برّي]... هُصّْ ولا كِلمة!». نَضحَك والزَّنّانات فوق الرؤوس في أحياء بيروت الغربيّة.

 

كنتُ سأخبِر «سركيس» عن هجومٍ لا بدّ أن نقوم به: «وأنا ناطِر الإشارة الخضرا مِنَّك يا فخامة الرئيس... وخِدوا نتيجة مباشرةً دِغري». ثم في فجرٍ في طريقي فوق الدرّاجة نحو المنارة، فكَّرتُ بسُخريةٍ أن أكاشِفَ حرّاس قصر عين التينة المطل على البحر بنيَّتي. وحين وصلتُ أمام إحدى بوّاباته، عبَرتُ فوق الدرّاجة أحمل بيدٍ فنجان قهوة، وألقيتُ على الحارس صباحاً جنوبياً عتيقاً: "صباح الخير يابِن خالْتي!". رشيدياً يضحَك أكملتُ طريقي. رمَيتُ فنجان القهوة بما فيه بعد قليلٍ من مقرّ نقابة الصحافيين الملاصِق.

 

هو رشيد يُؤمِن بوجوب الانقلابات؛ وكلُّ واجبٍ في تركِه ضَررٌ على ما حذَّرَنا الإمام الغزالي في المُنقذ من الضَّلال.

 

 

أتابع النَّظر فينا حيث نترقَّب خروج النَّعش. أبحث بين الوجوه عن "أبو الجَّواهِر". "اللحم بعجين". "أبو ليلى" ونديمه "عمر". وعن القبطيّ الذي كان يسهر معهما في «جلسات التِّنسيم». ولو يخرج بيننا "إستاذ عَبِد" ليُخبِرنا أين وصل في كشفه للمؤامرة! وأي أسماء سَمَّى! وتحتَ أيُّ جسرٍ سيطبَع كتابَه المُبين! و"مِس زَهرة". و"محمود". و"إدوار". و"الستريو". و"هاني" يقول «بأمركم يا خيّي».

 

ثم بين الجمع أصرخ بيني وبيني كما لو في بَرِّيةٍ: «وْلَكْ يا عولِلِلِلِلِمْمْمْمْ». وينكم؟! مثل شخصيةٍ فكاهيةٍ شابةٍ أتابعها في إنستغرام، وأرى فيها كارَكتيراً مسرحياً من عوالم زياد.

 

أنا مِمَّن بدأت علاقتهم بزياد بكونِه مسرَحياً. حتى أنَّ قبل أيامٍ قليلةٍ من بدء ذلك العام الدراسي في ثانوية الحريري في صيدا حضرتُ في قصر بيت الدين حفل فيروز وفرقتها التي يقودها عازف البيانو زياد. لم نهتف نحن الجمهور مثلما هتَفنا في الأخير لمطلع «نَسَّم علينا الهوى» بعد أغانٍ عدَّةٍ له. كان ذلك في الألفَين، ولكنَّ الدنيا والمقاييس تغيَّرَت منذ زمنٍ.

 

هو «ظاهرة استثنائيّة (...) في ثلاثة حقول رئيسة: الموسيقى، والمسرح، والإذاعة»، يقول الناقد الموسيقي اللبناني الفلسطيني إلياس سحّاب في مَقالةٍ ضمن ملف صحافيٍّ خَصَّصته مجلة الآداب لزياد في نهاية 2009. «شخصيةٌ تُعَبِّر عن نفسها في كلّ حقلٍ بأساليب شديدة الغرابة والتَّجدُّد والتفرُّد… حتى لكأنّها نبتةٌ بريّةٌ».

 

يتكاثَر الحشدُ أمام المستشفى تباعاً. أغلبهم تجاوزوا الثلاثين. فجأةً يبدأ شابٌ يُغنّي نَشازاً حُلواً اسمَع يا رضا. «ومِش هم بعد اليوم إنْ بهدَلني حَدا»... صريخاً لا غناءً... يُعلِّق مُمثِّلٌ شابٌ بجانبي بصوتٍ خفيضٍ: «زياد حَ يبَهدْلَك».

 

يعصف الحنين عَصفاً. إنَّه (الحُبُّ) «ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ ﴿12﴾» كما في سورة الرَّحمَن. فزياد الرَّحباني «أضاءَ ملامحَنا بالضحكة، وبيّنَ لنا بصيصَ بسمةٍ في نهاية الألم، ووصَّقَ رابطَنا إلى منزلٍ يتهاوى ولا نتركه»، يقول رئيس تحرير مجلة الآداب الراحل سماح إدريس. يُتابِع إدريس أنَّه «إنسانٌ مُتعدِّدٌ، وفريدٌ في تَعدُّدِه... فنّانٌ جادّ، في مدينةٍ تكاد الضحالةُ تكتسحُ روحَها. يساريٌّ نظيفٌ في زمن تهافتِ جموع "اليساريين" على فتات الطبقات العليا والطوائف».

 

أما «ملامح العصر الفنيّ الذي ظهر» خلاله في السبعينيات، فيوضِح إلياس سحّاب: «يُمكِن اختصارها بأنّها تجمع بين ذروة عصر النهضة الموسيقيّة والمسرحيّة والإذاعيّة في لبنان في الربع الثالث من القرن العشرين، وبين بداية ذبول هذه النهضة تحت ضربات الحرب الأهليّة في السبعينيّات والثمانينيّات – وهما العقدان اللذان شهدا بالتزامن تفتُّح بذور الإبداع عند زياد، ووصول هذا الإبداع إلى أعلى ذراه في الحقول الفنيّة الثلاثة».

 

هو السَّلطنةُ التي تتكرَّر بعُذوبةٍ، وبجِدَّةٍ في كلِّ مَرَّةٍ. هو نَردٌ مُحرَّمٌ؛ نَرْدٌ على الاسم الذي سيأخذه في يومٍ من الأيام موقعي المهجور هذا، المراسل.

 

 

صديقٌ علَّمني في إسطنبول حيث التقَينا في عملٍ لشهورٍ كيف أُغرِقُ في زياد بكونه عازف جاز. أرشدَني إلى التعلُّق بـ الخريف بدايةً، ثم تُهتُ من عالمٍ إلى آخر. قرأتُ في مكانٍ ما: «لا يَتردَّد زياد في اقتحام العبارات الموسيقية، وكأنّه يهجم على البيانو ليطبع بصمته». عازف بيانو جاز بارع، ذو أسلوبٍ جريءٍ، وسلاسةٍ لافتةٍ في التنقُّل بين الأنماط، «من السوينغ إلى البوب، وصولاً إلى نُسجٍ شرقيّةٍ أكثر شفافيّة وتجريداً».

 

إنَّه نوفيتشينتو: عازف البيانو؛ بطل الروائي ألسندرو باريكو. وُلِد نوفيتشينتو على باخرةٍ، ليعيش عليها يتيماً. لا يلمس اليابسة. يعزف البيانو للمسافرين في البحر المحيط. يذهب بالموسيقى «عبر الخيال والذكريات». أعدتُ تصفُّح الرواية في الصباح قبل التوجُّه إلى المستشفى. وبينما أنا هناك، حاولتُ دون جدوى أن أتذكَّر الفقرة الآتية:

 

«أعرِف الآن أنّ نوفيتشينتو قرَّر في ذلك اليوم أن يجلس أمام مفاتيح حياته البيض والسود، ويبدأ بعزف موسيقى، عبثيّة وعبقريّة، معقّدة لكن رائعة، وهي أعظم ما يكون. و(قرَّر) أن يرقص على تلك الموسيقى (...) وألّا يكون تَعيساً بعد ذلك أبداً».

 

بلى، لن يكون تعيساً بعد ذلك أبداً. فالعلاقة بزياد الرَّحباني كما خبِرتُها عن بُعدٍ دون معرفةٍ شخصيّةٍ: حبّاً يشوبه القلق على ما قد يبدو اكتئاباً حادّاً يُعاني منه. حزِنتُ لأنّه بدا كأنَّه يتكوَّر على نفسه، لمّا رأيتُه قبل سنواتٍ قليلةٍ يدخل في آخر السَّهرة حانةَ صديقه ربيع الزَّهر البارومتر. غادر الجميع. منزله على مرمى حجرٍ.

 

في مَرَّةٍ، قال لي ربيع: «إذا راح زياد مْنِتيَتَّم». أوضح في مقابلةٍ قرب المستشفى أنّ زياد رفض في أيامه الأخيرة اللّجوء إلى قسم الطّوارئ الواقع عند زاوية الشارع لا غير. ذهَبتُ نحوه أعزّيه فيما هو ملهيّ بأعمال تنظيم التشييع. وعلى مسافة نحو ثلاثة أمتار في الضفّة الأخرى للشارع، عند حائط أدراج البارومتر الممتلئة على آخِرِها، رأيتُ شابةً من قريتي الجنوبية. لفَّت العنقَ بكوفيَّةٍ.

 

بعد قليلٍ مرَّ من أمامنا المخرج والممثِّل الشاب محمد الدّايخ. تابعتُ كثيراً حلقات لبرنامجه في الأيام الأخيرة. تُذكِّرُني في مواضع عِدّة بالمسرح السياسي الذى أرسى له زياد. يَظهر ربيع الزَّهر في بعض الحلقات. الموسيقى التصويرية لجمال عبد الكريم؛ شاب موسيقي شديد التأثُّر بزياد. وفي البرنامج شخصية أعشقها يؤدّيها الممثِّل حسين قاووق، وهي لدركيٍّ رشيديّ الهوى.

 

ربما الجواب الأمثل على سؤال صديقٍ مصوِّرٍ صحافيٍّ: «وينَك مِختفي؟!»، هو ما يقوله حسين قاووق: «القمر قرَّب عَ الكُرة الأرضية، وفي زلازل حَ تِهتُكْ البشرية...». يا عفوْ الله

 

 

«عَم قِلَّك هَيك... ياااا مَجنون لأنِّي بْحِبَّكْ».

 

يأخذنا زياد من نقاط ارتكازنا. فيجعلَنا كمن يوصَفون بالبدو الارتِحاليين. «نذهب [بلغة ديلوز] من نقطة إلى أخرى بمثابة محصلة (جماليةٍ) وضرورة لا غير». لا كمثل المهاجِرين إذ «يَذهبون على نحوٍ أساسيٍّ من نقطةٍ إلى أخرى، حتى لو الغموض شابَ هذه النقطة». في هذا المقام يُقال عن زياد إنَّه «خَطُّ فرارٍ خَلّاقٍ في فضاء أملس مثل سهوبٍ، أو صحراء، أو بحرٍ».

 

هو عندي أميرٌ في البيان. نَثْراً وشِعراً؛ وموسيقى. جُمَلٌ تَصنَع الأحداثَ وتقتُلها بنفسِها. واحداً تلوَ آخر على امتدادٍ زمنٍ لم ينقطِع بعد. جُمَلٌ تَجعلنا نسكنها، لأنَّ الحياة هناك. وابنُ فيروزنا وعاصينا جمالياته وحبكاته بسيطتان، سَلِسَتان. «فيهما عينان تَجرِيان» كما في سورة الرَّحمَن. يُقيم الأوزانَ بالقسط، ولا يُخسِر الميزان. كأنْ «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ﴿5﴾»؛ فعلى مقام الصَّبا الحزين، مقام الأفق المحلول على الشَّجن يا عصفورة الشَّجن ذات التسعين، باسمِ الله

الرَّحْمَٰنُ ﴿1﴾ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴿2﴾ خَلَقَ الْإِنسَانَ ﴿3﴾ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴿4﴾

الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ﴿5﴾ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ﴿6﴾ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴿7﴾

 

آخذُ سور القرآن آياتٍ تفقد تسلسلَها، لأنّ الجمال هو الغاية. أظهَرَ زياد على الدوام ولعَه بالتّجويد، وبوجهٍ خاصٍّ بمكانة الصَّمت فيه. نحن بمثابة صعاليك حين نستمع إلى التجويد؛ وهذا ليس ذَمّاً على الإطلاق. فعلى مقام الصَّبا باسمِ الله. «كيرياليسون... ارحَم يا رب... انصُت إلينا». البُخور يتصاعَد في كنيسةٍ صغيرةٍ حَوَت آخر نَسمات زياد. ورجل دين يُلقي خطبةً بلهجةٍ طَرَفيَّةٍ من خارج جبل لبنان المُتخَيَّل الذي غنى له الرَّحابِنةُ وسَخِرَ منه زياد في مسرحيته شي فاشِل.

 

"إستاذ نور!". "مدام جْرَيديني". "المختار". "عِناية". "صباياااااا". «يي يِقْطَع بَهِلتِكْ». صحافي جريدة السفير. "كريكور". "خواجة نزيه". "رِفْعَت". الشلّال. "علي وشْلِكتَك"... وْلَكْ «يا عولِلِلِلِلِمْمْمْمْ!!!»... "أبو الزُّلُف"، ومعه "كامل الأسعد". «سيدْنا والله لَيِلْعَنوا لِخَلَقني بِـ كْفَرْنَبرَخ».

 

... ووالدةٌ في الكنيسة تَتَضَرَّعُ. لأجلِنا. مثل «إناء العبادة الجَّليلة»؛ «كيرياليسون... وردة سريّة... أرزة لبنان... بُرْج العاج... بَيتُ الذَّهبِ... تابوتُ العَهدِ... بابُ السماءِ... نَجمةُ الصُّبحِ... مُعزِّيةُ الحَزانى». «ميمُ المُتَيَّمُ، والمُيَتَّمُ والمُتَمِّمُ ما مَضى؛ حاءُ الحديقة والحبيبة، حَيْرَتانِ وحَسْرَتان». «كيرياليسون... سُلْطانةُ الرُّسُلِ». «الرَّسولةُ بِشعرِها الطَّويلِ حتّى الينابيع»

 

 

صَبَّحناكْ بالخير بالأمس يابِن خالْتي.

 

يا ابنَ العَينَينِ أنا في جنازتك ابن الجنوب. مَكلومون من حولِكَ. صرنا مثل نصوصٍ تبدو كأنَّ لا شيء يَجري فيها. ولكنَّ نهاياتها وبداياتها مُوزَّعةٌ في المكان كلّه. نحن وُجدانٌ مَكسورٌ. نحن جنوبيون ما بِنا لا نُغادِرُ ريفيَّاتِنا! نحن كَمَن «بْيِتْدَروَش وُبْيُبْرُمُ على الجيرانْ... وعَ كِلْ عَتبِة بْيِنْحِني جْبينُه»؛ قالها من ظنَنتُه آخر زَجَّالينا أبو علي زين شعيب. نحن عندي أكبر سوء فهمٍ في تاريخ هذا البلد. نحن زَجَليّات تخرج من حناجر كحناجر عهدتُها في منطقتي الساحلية الزَّهراني وقريتي الزّرارية، تُشبِه ثنايا وتَعرُّجاتِ أكباش جوزٍ جَفَّفتْها شُموسُ الجنوبِ.

 

رَأيتُ مُمَثِلاً عن حزب الله في الصف الأوّل عند عتبة المستشفى. أصدروا نعياً رسمياً. كنّا جميعنا ننتظِر خروجَ النَّعشِ من مدخل قسم الطَّوارئ نحو الأبد يا زياد يا أبا عَليّ. لَقبٌ هو عندنا نحن الجنوبيين الشيعة كناية عن القبضاي وسَليلِ الإمامةِ. نَستَوحِد كأقمار صيفٍ من بعدِكُم الراحلين تِباعاً سريعاً؛ اقتباساً من الشاعر الجنوبيّ محمد العبد الله. أيضاً صديقي الذي تعرَّفتُ إليه في إسطنبول هو من أرشدَني إلى العبد الله. هل تتخايَلون عَبَّارات تلك الأخّاذة الساحرة تروح وتجيء في البوسفور فوق المياه والسماء نفسَيهما، ولكن تحت نوارس بيض تتكاثَرُ وتَتَجَدَّد؟ أنا كِدتُ أراهم أمامي في محيط المستشفى. وكاد الصوتُ الفَجريُّ لسُفن المضيق ونوارسه يَبلُغُني كأنّي في شقَّتي التي كانَتْ.

 

إنْتَ... «كيفَك إنتَ؟ بْحِبَّك إنْتَ مَلّا إنتَ». كنتُ ما أزال طفلاً لم يَتجاوَز سبعَه الأول بعد حين غنَّت لك من جلَسَت في الجِّنّاز قرب النعش؛ آلهة على عرشِ أنصافهم. «يا صَبي لْـ ما بْتِفهَمْ مِنْ نَظرة، ولا بْـ حَتّى حَكي». «وا حبيبي... أنتَ أنتَ المُفتَدي».

 

 

سَمعتُ أنَّ زياد اعتزَل المهرجانات والحفلات حِداداً منذ السابع من أكتوبر. «زَلَمِة كان كُوْع»، يقول لي صديقٌ يَشتغِل في مرفأ بيروت. «يعني يا خَيِّي ما فيك تُقْطَع مِنْ حَدُّه وتِتجاوَزُه كأنَّك بْسَهْل... زَلَمِة كوع بَدَّك توقف وتخفِّف وثقافة وموسيقى وشعر...». أتذكَّرُه وأضحك بصمتٍ فيما أنا أصفِّق مع المُصفِّقين للنَّعشِ يَعبُر في سيارةٍ جنائزيّةٍ داكِنَةٍ.

 

وقفتُ أرتدي بنطالاً زيتيّ اللّون، وتيشرت نبيذية؛ تكريماً لمُفسِّر أحلامنا وقد ذهب «يَسقي ربَّه خَمْراً». حين رَكَنتُ الدراجة مع وصولنا زوجتي وأنا عند الساعة 7,15، سمِعتُ سِتينيّة تقول لأخرى صادفَتْها: «هيدي أوَّل مرّة بِلبُس أحمر بِعزا، بس لأنُّه كان شيوعي». رفع آخرون لافتات يتأسَّفون أنّ البلد "طلع" لا يتَّسِع له ولجورج عبد الله العائد لتوِّه حرّاً من فرنسا. ولكنْ لَفتَني غياب الشعارات والرايات. «الكل تعبان»؛ «ويتَّجِه سريعاً نحو الفردانيّات»، أردِفُ لصديقٍ.

 

أين الأحلام؟ أين الأعلام والرَّايات؟ أين من يَتَسَلَّقون العواميد؟ أين الغد؟ لقد هربَ المستقبل مثلما يقولون. انتهى «آثاراً على الرِّمال». على مقربةٍ من زوجَتي، سألَت مذيعةٌ محمد الدّايخ عمّا يودُّ قوله. فأجاب باسِماً بما معناه أنَّ زياد نفسه رحل ولم يَتغيَّر شيء، «فَلَروح شوف شو بدّي إعمَل بِحالي».

 

 

عزَّ على الدولة إقرارَ حدادٍ وطنيٍّ. مرَّ أحدهم يوزِّع عدد جريدة الأخبار مجاناً. أكمَلتُ أراقِبُ الجمعَ، لأنّ لا حدث بلا ريبورتاج. على ما يُقال.

 

اعتقدتُ موكبَ التشييع سيلتَفُّ عند الكوع القريب على بعد أمتارٍ في طريقه إلى الكنيسة ومدافن العائلة في بكفيا. ولكنَّهم اتَّجهوا في عكس السير صعوداً نحو الحمراء حيث وقف رشيد في يومٍ من أيام حربنا الأهلية وأوقف السَّير. سلَكَت الجنازة شارع الحمراء حتى آخره حيث تنتهي «رأس بيروت» مطلاً على البحر. هي الجنازة الأولى على طول الشارع منذ أيام الحرب على ما قالوا. بينما نبَّهت أخرى زوجتي التونسية: «يمكن باستثناء جْنازِة رفيق الحريري». هكذا يَخرج الكِبارُ من المشهد.

 

تذكَّرتُ صوراً لجنازةٍ مهيبةٍ لموسيقار مصريٍّ في الستينيات، تعبرُ بَجلَلٍ في شوارع "السَّيِّدةِ زينب" ربما. ركبتُ درّاجتي مُتَّجِِهاً في الجهة المعاكِسةِ للمُشيِّعين. أخذتُ أنا الكوع الشديد في النَّزلةِ على مسافة أمتارٍ قليلةٍ، مقابل الجامعة الأميركية. ذاهباً باتِّجاه مقهى قرب "برج المرّ". هناك في تلك المنطقة خلال الحرب الأهلية صنع زياد موسيقى أبو علي، على ما أذكر من مقابلةٍ له، ولستُ أكيداً. ومعه هناك سجَّل نَديمُه جوزيف صقر صرخات رجاء لأبي عَليٍّ الذي ظلَّ مُتَخايَلاً حتى يوم الرحيل السبت.

 

أتأسَّف لأنّني لم أحظَ بفرصة لقائه. «قِلُّه عُيونُه مِش فجأة بيِتنَسوا».

 

بَرَمْتُ رأسي إلى الخلف. ثم نظرتُ في أفق الشارع شبه الفارغ عند التاسعة صباحاً. «وَيْنُنْ؟!». بكى الشاعر طلال حيدر بشدّةٍ على نعشِ مُفارِقِنا. «بِرجْ الحَمام مْسوَّرُ وعالي/ هَجّْ الحمام وبْقِيتْ لحالي». «لو كِنْتْ بِتكِشْ حمام، بتعرف إنُّه المنيح غير البَلَدي، لا بِطوِّل ولا بِخَلِّف...»، يُعلِّقُ صديقي عامل مرفأ بيروت. نحن هم أبناؤه يا عصفورةَ الشَّجَنِ.

 

أقترِب فوق الدرّاجة من منطقة الوردية في بداية الحمراء، حيث سكن زياد مدَّةً على ما أظنُّ. في الورديّة نفسها جاءني في الراديو قبل مُدَّةٍ من يُغنّي بتَحدٍّ «يا ليل ويا العين مِنْ بَعدِك عُمُر ما هْوينا». رجوليات من زمن بعد زياد. قد أندمج معه، ولكن أنا من جيل عرف زياد، وملحم بركات تلميذ «شيخ المُلحِّنين» فليمون وهبي، وجورج وسوف؛ والجميلة «سعاد حسني الجيل» هيفا وهبي، وآخرُنا مي الحريري التي أرادَ زِياد أن يُعطيها من أغانيه.

 

بيني وبيني أصرخ في الوردية، وأحياناً أعلى. لـ أبو علي. أمُدُّ الصوتَ نحو أبديةِ زياد. عقدي الأربعون بدأ معها مصادفةً في يوم الدَّفن في 28 تموز. شو بالنِّسبِة لَبُكرا؟ أبحث في الطريق عن "زكريا". "ثريا". "رضا". "أبو كريم". "نجيب". "مسيو أنطوان". صاحِبي الصحافيّ وسام أنطوان متّى. "رامِز". "سانْغي سناك"... «يا أينَكُم من أصلِ الصورة؟!».

 

 

هَل تَسمعون هبوط الموسيقى بنا بَغتات حلوة كمثل مقام بيروت في هذه الأيام؟ ثم بعد هنَّةٍ لا غير تعود بفعلِ ساحرٍ رحَلَ لترفعَنا لَعِندْ الله وِلُوْوْوْوْوْوْوْوْوْ

 

محمود مروّة

صحافي ومحرِّر. عمل في صحيفتَي السفير والأخبار اللبنانيَّتين، وفي وكالة الصحافة الفرنسية. حائز على ماستر وإجازة في العلوم السياسية من جامعة القدّيس يوسف في بيروت، وشهادة في التاريخ من جامعة ليون الثانية في فرنسا. صدرت له عن دار الساقي في بيروت ترجمة «هزيمة الغرب» لايمانويل تود.

×