20 كانون الثاني 2025

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

الإمبراطورية والليبرالية «من منظور إدوارد سعيد»

مسافر

28 تموز 2024

مورفيلد وسعيد: لردْكَلة النظريّة والخروج بها إلى الحيِّز العام (Tyler Comrie©)

هذه المقالة ترجمةٌ لـ Empire and Liberalism—a Saidian Reading: On Jeanne Morefield’s Unsettling the World [الإمبراطورية والليبرالية من منظور إدوارد سعيد: حول مؤلَّف جين مورفيلد زعزعة العالم]. صدرت في Los Angeles review of books، ووقّعها كونور مكارثي، أستاذ الأدب الإنجليزي وتاريخ الفكر في Maynooth University في أيرلندا، ومؤلِّف The Cambridge Introduction to Edward Said [مقدمة كامبريدج لإدوارد سعيد] (2010). ليس الغرض من الترجمة والنشر التبنّي، إنّما الإضاءة على نقاشٍ قائمٍ.

 

 

قبل بضعة أشهر، مرّت الذكرى العشرون لرحيل إدوارد سعيد (1935-2003)، أحد أبرز النقّاد الأدبيين في الولايات المتّحدة منذ الخمسينيات. غير أنّ سعيد كان أيضاً مثقَّفاً ضاقت به حدود مهنته، فراح يفكّر ويخطب علناً عن قضايا الشأن العام أمام الناس ومن أجلهم.

صحيح أنّه تدرّب وبنى خبرته في مجال النقد والأبحاث، غير أنَّ صفة «المثقَّف» الاجتماعية-المهنية هي التي استهوته عن حق. فاهتمام سعيد بالمثقَّفين وسعيه لجعل نفسه مثقَّفاً (وهو محور أساسي في كتابَيْه الأوّلَيْن، كما أشار تيموثي برينان منذ سنوات) دفعاه إلى اعتبار الثقافة ميداناً أساسياً للعمل السياسي. بالنسبة إليه، يمكن للمفكّر الثقافي –لا بل يجب عليه– تولّي المهمة التي أوكلها إليه نعوم تشومسكي في مقالته الصادرة عام 1967 The Responsibility of Intellectuals [مسؤولية المفكّرين]، ألا وهي: «قول الحقّ وفضح الأكاذيب».

لا شكّ في أنّ سعيد أخذ تلك المسؤولية على محمل الجدّ طوال حياته. حتى إنّ أعماله ومواقفه ما زالت تحرّض على العمل والالتزام السياسيَّين في مجالات واختصاصات جديدة. في المؤلَّف الشيِّق Unsettling the World: Edward Said and Political Theory [زعزعة العالم: إدوارد سعيد والنظرية السياسية] (2022)، تتعمّق الباحثة السياسية والأستاذة في جامعة أكسفورد جين مورفيلد في أصداء كتابات سعيد وأثرها المستمرّ في تلك المجالات، وتحاجج بأنّ أفكاره وأعماله كفيلة بإحداث تحوّل جذري في النظرية السياسية، حتى وإن اكتفت الأخيرة بذكرها بمثابة هوامش.

أحدَثَ سعيد ثورة في الدراسات الأدبية باللغة الإنكليزية عبر تناوله مسألة الإمبراطورية وإرثها. ومع أنّ نقّاداً آخرين سبقوه في ذلك، تميّز سعيد ببراعته وعناده وعمق معرفته وحنكته في التنظير. وتركّزت هذه الصفات كلّها في مؤلَّف Orientalism [الاستشراق] (1978)، الذي بقي أحد أهمّ الأعمال في مجال العلوم الإنسانية لسنوات طويلة. ففي هذا المؤلَّف وفي تكملته، أي Culture and Imperialism [الثقافة والإمبريالية] (1993)، بيَّن سعيد كيف أنّ أمّهات الأعمال الأدبية الأوروبية (مثل روايات جاين أوستن الخيالية، أو كتابات غوستاف فلوبير وألفونس دو لامارتين عن رحلاتهما) عكست تخبُّط القوى الأوروبية –ولاحقاً الولايات المتّحدة– في فهم عوالم المستعمرات والسيطرة عليها، لا بل أسهمت في هذا التخبُّط.

ثانياً، والأهم، لم يكتفِ سعيد بتناول الأدب والفكر والإمبراطورية بصفتهم مجرّد مسائل تاريخية من زمنٍ مضى، أو مسائل مهنيّة-أكاديميّة بحتة. فنقده الشجاع للصهيونية وضلوع الولايات المتّحدة في محاولات إسرائيل المتكرِّرة لمحو الأفكار والثقافة الفلسطينية والشعب الفلسطيني دليلٌ على استعداده لنقد الإمبراطورية في اللحظة التاريخية الراهنة. بالتالي، حرّر سعيد تلك القضايا وأخرجها من قاعات الدراسة إلى الشارع –وهذا هو جوهر مفهوم النقد الدنيوي worldly الذي تحدّث عنه.

غالباً ما تركَّز نقد سعيد للإمبراطوريات التاريخية وللصهيونية المعاصرة حول خيبته، لا بل غضبه، إزاء المفكّرين الذين يحملون راية «الليبرالية» –على غرار ألكسيس دو توكفيل أو جون ستوارت ميل في القرن التاسع عشر، أو الليبراليين والليبراليين اليساريّين الأميركيّين في القرن العشرين– لعدم تطرّقهم إلى مسألة الإمبراطورية. ترى مورفيلد أنّ النظرية السياسية أنتجت، في خلال السنوات العشرين الأخيرة، أفكاراً جديدة وقويّة حول الروابط بين الليبرالية والإمبراطورية في القرن التاسع عشر، إنّما أخفقت في تناول هذه الروابط في زمننا الراهن. وترى أنّ مثال سعيد يمكن استخدامه لإعادة إحياء النظرية السياسية، لا بكونها اختصاصاً تاريخياً وتحليلياً فعّالاً فحسب، بل أيضاً بكونها خطاباً ناشِطيّاً activist discourse يسمو فوق حدود المكتبات وقاعات المحاضرات لكي ينخرط بصورة فاعلة في «العالم الحقيقي» للسياسة والسياسة الخارجية.

وعليه، تضع مورفيلد نصب عينَيها هدفَين أراد سعيد تحقيقهما: أولاً، جعل النظرية السياسية أكثر راديكالية، وثانياً، الخروج بها إلى الحيِّز العام. غير أنَّ الكثير من المنظِّرين السياسيّين من زملاء مورفيلد يعتبرون أنّ هذا المسعى ينتهك حرمة الأكاديميا، ويُغرِقها في وحول السياسات والمعارك الإيديولوجية اليومية. ويشعر القارئ أنّ مورفيلد في كتابها هذا تجاوزت حدود المهنية المعتادة والمواقف الأكاديمية، وهي تستحقّ الثناء لشجاعتها، وإن كانت النتيجة تشوبها بعض النواقص.

 

(*)

لطالما اعتبر سعيد أنّ عمله «سياسيٌّ»، بالمعنى الواسع للكلمة. فمنذ بداية مسيرته المهنية، اهتمّ بالنقد بصفته شكلاً من أشكال الصراع، إذ يسعى صوتٌ أو خطابٌ أو توجّهٌ فكريّ معيَّن إلى اكتساب شعبيّة والتفوّق على التيّارات المنافِسة. وقد توصّل سعيد إلى هذه النتيجة بطُرُق عدّة في خلال مسيرته، مثلاً: في معرض تحليله لنشوء السلطة الأدبيّة، وهي فكرة محوريّة في دراسته المبكرة لجوزيف كونراد؛ وفي نقده لـ Battle of the Books [معركة الكتب] من تأليف جوناثان سويفت، حيث تسقط كُتُب مكتبة سانت جيمس أرضاً لتتصارع في ما بينها؛ وفي اعتناقه أفكار أنطونيو غرامشي حول الهيمنة والمفكّرين في كتاب الاستشراق ومنشوراته اللاحقة. جسّد سعيد إذاً النقد بصفته فعلاً سياسياً بامتياز، لا بل أعطاه شرعية، حتى لو لم يتناول النظرية السياسية بحدّ ذاتها في كتاباته.

في مقالة بعنوان Opponents, Audiences, Constituencies, and Community [معارضون، وجماهير، ودوائر انتخابية، والمجتمع المحلّي]، نُشِر في عام 1982 وراح طيّ النسيان رغم أهميّته، يُفصِّل سعيد بوضوح شديد نظرته للبُعد السياسي للنقد الأدبي وعلاقة ذلك بـ «السياسة» عموماً. باختصار، وبلهجة نقدية قاسية أحياناً، يحاجج سعيد بأنّ الاختصاصات الجامعية، بمجالاتها الفرعية وتهذيبها وتضييقها لسُبُل البحث عن المعرفة وكيفية إنتاجها وتعميمها، هي حتماً مُحافِظة ومنغلقة على نفسها. واعتبر سعيد أنّ النقد الأدبي الأميركي، من مدرسة النقد الجديد في الخمسينيات وصولاً إلى النقد الاجتماعي-التاريخي وما بعد البنيوي في الثمانينيات، بما في ذلك النقد الماركسي، وقع ضحيّة هذه النزعة للتخصُّص وتقسيم العمل، وبالتالي ساهم في تهميش نفسه بنفسه. ورغم احترام سعيد الشديد وإعجابه بأعمال زملائه الماركسيّين، مثل فريدريك جيمسون وتيري إيغلتون، لم تخفَ عليه عزلتهم في فقاعتهم الأكاديمية-النظرية، وهو أمر لاحظه إيغلتون وانتقده، لكنّه في نهاية المطاف ساهم في تكريسه.

في تحليله لكتاب جيمسون الذي كان قد صدر للتو آنذاك بعنوان The Political Unconscious: Narrative as a Socially Symbolic Act [اللاوعي السياسي: السرد بكونه فعلاً رمزياً اجتماعياً] (1981)، أشار سعيد إلى أنّ السياسة تنقسم إلى نوعَيْن: السياسة 1، أو التاريخ الطويل للنظرية السياسية من هيغل وصولاً إلى لويس ألتوسير؛ والسياسة 2، أو «سياسة الصراع اليومي والقوّة في العالم الحقيقي»، التي أطبقت عليها عقيدة الرئيس الأميركي رونالد ريغان في تلك الحقبة. وما أثار حفيظة سعيد هو أنّ جيمسون لم يتطرّق إلى هذه السياسة 2 سوى باختصار شديد في أحد الهوامش، حيث ذكر الصراعات والتحالفات المحلّية؛ بدلاً من ذلك، ترك جيمسون لقرّائه حرية استنباط (أو عدم استنباط) الرابط بين السياسة 1 والسياسة 2.

أمّا سعيد فميَّز بين النظرية السياسية وبين النشاط السياسي، أو بين النقدَين التأمُّلي والناشطي. وقد ارتاب من «السياسة» المحصورة في النطاق الأكاديمي، على عكس السياسة التي تخضع لاختبار «العالم الحقيقي». وعليه، يختتم سعيد مقال معارضون، وجماهير، ودوائر انتخابية، والمجتمع المحلّي بدعوة إلى «التدخّل»؛ عبر التجاوز المتعمَّد لحدود الاختصاصات والمؤسّسات (كما فعل هو ببراعة في كتاب الاستشراق)، وإقحام الخطابات التي تُعرَف عادةً بـ «هامشيّتها الإنسانويّة» (مثل النقد الأدبي والعلوم الإنسانية عموماً) في عالم السياسة والقوّة «الحقيقي»، الذي يهيمن «الخبراء» عليه غالباً، وصانعو السياسات التكنوقراط، والإعلام، والسياسيون.

في بعضِ كتاباته النقدية، استلهم سعيد من كتّابٍ ذوي التزام سياسي واضح وعلني (مثل جورج لوكاش وغرامشي). غير أنّ المواد الأساسية التي استند إليها كانت فلسفية (ميشال فوكو، وجيامباتيستا فيكو، وفريدريك نيتشه)، وأدبيّة (إريك أورباخ، وريموند وليامز، وريتشارد بوارييه). لا بل يمكن القول إنّ قوّة «السياسة» عند سعيد تعتمد إلى حدّ كبير على استخدامه المواد الأدبية والفلسفية لغايات سياسية. بعبارة أخرى، كان سعيد ناقداً أدبياً سعى في بعض الأحيان إلى استخدام النقد الأدبي من أجل طرح حججٍ سياسية، كما اعتبر أنّ الثقافة ميدانٌ للصراعات الأيديولوجية، لا الفكريّة فحسب. وآمن سعيد بقول فوكو إنّ «الخطاب discourse هو السلطة التي يجب الاستيلاء عليها» – سواء الخطاب الثقافي أو السياسي أو الإعلامي.

هذا الموقف بالذات هو ما يجعل مؤلَّف جين مورفيلد فريداً من نوعه ومثيراً للاهتمام – وربما أيضاً إشكالياً. فترى مورفيلد أنّ من يمتهِنون التنظير السياسي تجاهلوا أفكار سعيد، بخاصة أولئك الذين تحدّثوا عن الإمبراطورية. وتُطلِع مورفيلد قرّاءها عن تحوُّل في طريقة تناول الكتابات النظرية السياسية باللغة الإنكليزية للإمبراطورية والإمبريالية، وهو تيّار تنتمي إليه مورفيلد بنفسها؛ ففي السنوات الثلاثين الماضية، ساهم كتّاب مثل دنكان بيل، وجينيفر بيتس، وسانكار موثو، وعدي سينغ ميهتا، وجون كوكس، وحتى مورفيلد، في تكوين فهم أكثر راديكالية لأيديولوجيات الإمبراطورية الأوروبية ومبرّراتها بعد معاهدة فيينا (1815)، وفي مراجعة المفاهيم السابقة وتوسيع نطاقها. ويتمثّل العنصر الأهمّ في هذه الانتقادات في تسليط الضوء على التناقض اللافت بين نشوء الأفكار السياسية الليبرالية وتطوّرها في المرحلة التي تلت عصر التنوير والثورتَين الأميركية والفرنسية، من جهة، وبين التوسّع غير المسبوق للقوى الأوروبية في أقاليم ما وراء البحار في القرن التاسع عشر، من جهة أخرى.

فقد طوَّر نفرٌ غير قليل من المفكّرين السياسيين الأوروبيين البارزين في المعسكر الليبرالي –من أمثال مونتيسكيو وبنجامين كونستان وإيمانويل كانط وتوكفيل وميل– المفاهيم المعاصرة للحقوق والشرائع وحرّية التعبير والمعتقد والديمقراطية التداوليّة وفصل السلطات، فيما كانت الكيانات السياسية التي انتموا إليها تنطلق في أكثر مغامراتها الإمبريالية طموحاً في الخارج. لهذا السبب، لا تحلِّل مورفيلد «الليبرالية» من منظور الفلسفة السياسية فحسب، إنّما أيضاً بالاستناد إلى استخداماتها المختلفة في نظرية العلاقات الدولية. والمقصود هنا هو «الأممية الليبرالية»، التي فكَّكها ببراعة لا تُضاهى حديثاً جون ميرشايمر في كتابه The Great Delusion: Liberal Dreams and International Realities [الهُذاء الكبير: الأحلام الليبرالية والواقع الدولي] (2018). تقوم هذه «الأممية» على أسُس عدّة، ومنها افتراض الأنظمة الديمقراطية الرأسمالية الليبرالية الغربية أنّ العالم بأسره يجب أن يُبنى على مثالها؛ وأنّ المبادئ الليبرالية عالمية، وبالتالي من الطبيعي أن تدعو الليبرالية السياسية إلى تعميم تلك القيم والحقوق على المجتمعات والكيانات السياسية والأنظمة الأخرى، مهما تطلّب ذلك من تحريض وتبشير وأعمال عدوانية. غير أنّ مورفيلد تعتبر أنّ هذا الميل يُثبِت أنّ الليبرالية، وإن كانت ترى نفسها عالمية وتبشّر في خطاباتها بالحقوق والحريات العالمية والشاملة للجميع، تبقى أسيرة المرجعية الذاتية، أو بالأحرى المركزية الأوروبية.

ولا تقف مورفيلد عند هذا الحدّ. ففي نظرية العلاقات الدولية، هي تسعى إلى إخراج النقاشات النظرية إلى الحيِّز العام – أو على الأقل إلى حيِّز السياسات. توجَد في الولايات المتّحدة مجوعة واسعة ومتنوّعة من مراكز الدراسات (لكلّ منها انتماءاته السياسية أو الأيديولوجية) التي تصوغ السياسات الخارجية المدعَّمة بالقدر نفسه من الأُسُس النظرية والوسائل العمليّة. ويعود اهتمام مورفيلد بأعمال سعيد إلى خيبتها الشديدة من التعارض بين المساعي الأخيرة والمؤثِّرة في مجال النظرية السياسية لإعادة تفسير ليبراليةِ القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر وعلاقتها بالإمبراطورية، من جهة، وصمت هؤلاء الباحثين إزاء اللحظة التاريخية الراهنة، لا بل إخلائهم الساحة لصالح منظِّري العلاقات الدولية ومفهومهم الناشطي والأداتي activist and instrumentalist لليبرالية، من جهة أخرى.

تدافع مورفيلد عن أهمية أعمال سعيد لطابعها الإنسانوي، ولتركيزها على المنفى ومفاهيم مثل الدنيويّة worldliness والقراءة الطباقية contrapuntal reading، ونقدها للمثقَّفين وللإمبريالية الأميركية المعاصرة. ويتضمّن مؤلَّفها فصولاً عن المنفى ومرلَّف After the Last Sky [بعد السماء الأخيرة] (1986)؛ وعن المفكّرين فريد دالماير وجون كوكس وآيرس ماريون يونغ؛ وعن مؤلَّف Culture and Imperialism [الثقافة والإمبريالية]، وفوكو، والماركسية؛ وعن سعيد والإنسانوية ومايكل إغناتييف؛ وعن حنة آرنت ومايكل والزر ومدرسة كامبريدج في الفكر السياسي. أما الفصل الأخير، فيتضمّن نقداً للأممية الليبرالية، ويسعى إلى ردم الهوّة بين النظرية السياسية ونظرية العلاقات الدولية. وفي حين لا يدّعي كتاب مورفيلد تناول الموضوعات والعناصر كافة التي تطرّق إليها سعيد، فإنّه يطرح مجموعة واسعة من الإشكالات التي تحضّ القارئ على التفكير.

 

(*)

أكثر ما يهمّ مورفيلد في أعمال سعيد هي دنيويّته. فلم يكن سعيد مفكِّراً منهجياً، ومصطلح الدنيوية لديه حمّال أوجه (مثل مصطلح الموقف situation لدى جان بول سارتر)، وقد طرحه سعيد للمرّة الأولى في السبعينيّات للابتعاد عن شكليّة مدرسة النقد الجديد –التي كانت في طور الأفول– والنظرية الفرنسية الرائجة آنذاك. بالنسبة إلى سعيد، يشير هذا المصطلح إلى ضرورة وضع النصوص في سياقاتها التاريخية، ووضع القرّاء أيضاً في سياقهم التاريخي (تدلّ الاستعارة المكانية على مفهوم سعيد للنقد الجغرافي المرتحل والمنسلخ عن موطنه أو مجتمعه، القائم على فكرة المنفى، وهو ما يظهر بوضوح في الثقافة والإمبريالية). كذلك، تشير الدنيوية إلى ضرورة جعل النقد ممارسة عامة عند سعيد، وليس مجرّد حرفة منغلقة على نفسها ومقيّدة بالمرجعية الذاتية لا تشتبك مع السياسة اليومية والنقاشات العامة. تتميّز كتابات سعيد بنزعة مناهضة للإنسانوية وتتأثر بفلسفة نيتشه، على غرار الكثير من أبناء جيله. لكنّه يربط هذه العناصر دوماً بالسياق التاريخي والتجربة: فهو يقترح نموذجاً من المنفى الذاتي exilic subjectivity للمثقّف، قائماً ليس فقط على إعجابه بالمفكّرين المنفيّين على غرار أدورنو وأورباخ، إنّما أيضاً على تجاربهم التاريخية. كذلك، فإنّ نموذج النقد لدى سعيد يتّسم بوعي ذاتي تاريخي وسياسي شديد؛ إنّه يفكّر في الماضي لكنّه يدرك أيضاً وبشكل ناشِطيٍّ تأثيره في الحاضر.

وكون مورفيلد تكتب عن سعيد بكونه مفكِّراً ناشِطيّاً لا مُنظِّراً تجريديّاً، فهي تعقد مقارنات لافتة وغنيّة. فتناقش مثلاً محاولة آيرس ماريون يونغ إيجاد حلّ نظري عادل ومحقّ للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. كذلك، تنتقد بشدّة «الإمبرياليين الليبراليين» المعاصرين –على غرار مايكل إغناتييف– وتستند إلى حجج سعيد لكي تسلّط الضوء على الجوانب التي يخفيها هؤلاء أو يتجاهلونها في كتاباتهم. وفي خطوة غير معتادة في الدراسات التي تتناول أعمال سعيد لكنّها تفيد غايات مورفيلد التحليلية، تستذكر الأخيرة الجدال الحاد بين سعيد ومايكل والزر، حيث يُقدِّم سعيد «قراءة كنعانية» لحجّة والزر في كتابه Exodus and Revolution [المنفى والثورة] (1985)، معتبراً أنّ قصّة المنفى هي السردية المؤسِّسة للحركات الليبرالية كافة. ويُشار إلى أنّ تفكيك سعيد المُتقَن لسردية والزر الصهيونية الليبرالية –حيث يشير إلى أنّ «تحرير» العبرانيين من العبودية في مصر كان يعتمد على هلاك الكنعانيين– يتلاءم تماماً وسعي مورفيلد إلى نقد النظرية السياسية الليبرالية المعاصرة وجعلها أكثر راديكالية في علاقتها بالقضايا السياسية الدنيوية في يومنا هذا.

غير أنّ مورفيلد تسيء فهم سعيد في بعض الحالات، ويمكن ملاحظة ثغرات تثير الاستغراب في بعض تحليلاتها. ففي معرض حديثها عن «إنسانوية» سعيد، تركّز على مؤلَّف Humanism and Democratic Criticism [الأنسنية والنقد الديمقراطي] (2004)، مع العلم أنّه عملٌ ضعيف بعض الشيء ومن أواخر كتاباته. لكنّ مورفيلد تضعه في المكانة نفسها كما بقيّة أعماله –على غرار كتاب Beginnings [بدايات: القصد والمنهج] (1975)، الذي يستعرض بشيء من الدراماتيكية تأثُّر سعيد بالإرث الفيلولوجي الإنسانوي العظيم لفيكو، وأورباخ، وليو سبيتزر، بالتوازي مع تعمّقه في فكر فوكو، المناهض الشرس للإنسانوية. يبدو إذاً أنّ مورفيلد تسهو عن حقيقة أساسية، وهي أنّ مفهوم سعيد للإنسانوية له جذور تمتدّ عميقاً في الفكر الأوروبي؛ فلم يكن سعيد الكاتب الأوّل الذي حاول وضع الأفكار في مواجهة العالم والنظر في شروط تحقُّقِها. ومن المستغرب أيضاً أنّ مورفيلد تعتبر أنّ كتاب Representations of the Intellectual [صور المثقَّف] (1994) هو القول الفصل لسعيد في ما يتعلّق بالمثقّفين. ففي الواقع، إنّ مؤلَّف The World, the Text, and the Critic [العالم، والنص، والناقد] (1983) هو أقدم وأكثر إقناعاً حول هذه المسألة. وعليه، يبدو أنّ مورفيلد تعتقد أنّ سعيد كان سبّاقاً في تحليل العلاقة بين الثقافة والإمبراطورية، رغم أنّ كتّاباً آخرين كثراً تناولوا هذه المسألة، وقد أدرك سعيد ذلك – فلطالما اعترف بإسهامات من سبقوه، مثل جونا راسكين وفيكتور كيرنان وبينيتا باري.

الخطأ الأكبر الذي تقع فيه مورفيلد هو أنّها لا تتعمَّق في تحليل علاقة سعيد الانتقائية والشكوكيّة بالماركسية – على الأرجح لأنها تتبنّى المنظور نفسه. فيبدو أنّ النظريات السياسية الحديثة عن الليبرالية والإمبريالية، التي تُعدّ مورفيلد من أبرز الباحثين فيها، ورغم ديناميّتها وإبداعها، لا تحتمل المنظور المادي-التاريخي، ولا تهتمّ بأدواته الفعّالة وقيمته الكبيرة في دراسة الإمبراطورية والرأس المال، من لينين وصولاً إلى هارفي. وعليه، يبدو أنّ مورفيلد تتقبّل من دون أيّ نقدٍ نظريات سعيد الثقافوية وغير المتبلورة تماماً عن الإمبريالية. وفي حين تشير مورفيلد إلى أنّ الثقافة والإمبريالية غير متأثّر بفلسفة فوكو بقدر الاستشراق، تغفل أيضاً تأثُّر المؤلَّفين بفكر غرامشي وويليامز. والمؤسف أكثر في ذلك هو أنّ التراث الماركسي كان سيفيد مورفيلد في سعيها إلى إعادة هيكلة التحليل التاريخي للفكر الليبرالي في «عصر الإمبراطورية» من خلال نقد الإمبراطورية في يومنا هذا وفي الحيِّز العام – كما كان ليفيد تحليلات سعيد نفسها.

زعزعة العالم كتابٌ طموحٌ وشخصي للغاية. فبالنسبة إلى مورفيلد، هو عبارة عن إعلان التزام، وهذا ما يفسّر إيحائيّته الشديدة، والتباين بين أقسامه المختلفة من حيث النبرة والأثر (وكذلك بعض الأخطاء المؤسفة مثل الخلط بين صمويل جونسون وجوناثان سويفت). غير أنّ نقد مورفيلد للنظرية السياسية يبقى منعشاً وممتعاً، مع العلم أنّ الدرس الذي يعلّمنا إياه سعيد سلوكي بقدر ما هو منهجي. مثلاً، يُعَدّ مفهوم القراءة الطباقية بشكل أساسي نمطاً من التفسير التاريخي المشبّع بوعي عميق بموقع الكاتب التاريخي والجغرافي. عند صدور الثقافة والإمبريالية، كان سعيد يقدِّم نقداً عاماً يتّسم بنبذه للشرائع والطرائق المهنية والفكرية للنقد الأدبي السائد. ولكنْ، إذا أرادت مورفيلد الاشتباك مع مدارس النظرية السياسية السائدة بالطريقة نفسها، لا يكفي أن تقدِّم نقداً ليونغ ووالزر وأتباع جون رولز، بل عليها تكريس انتماءات جديدة بالكامل لأفكار وكتّاب خارج الدوائر الأكاديمية. عندئذٍ، ستتمكّن مورفيلد من «زعزعة» العالم سائرةً على خطى سعيد.

مسافر

شخصية خيالية تجوب عالماً يتوه. يساهم في صنعها كتاب عديدون.

×