7 تشرين الأول 2024
12 حزيران 2024
(1)
«أنا لا أكشف عورتي إلا لاثنين، أنت والطبيب».
كنت أرفع خمسة أطباق نصف فارغة تباعًا من أمام الزبون المتباهي، الذي طلبها مقرِّراً أن يلتهم بعضها ويُعرِضَ عن بعض، ليعطيه ذلك وجاهة مزعومة، حين رن جوالي، وأخبرني الأستاذ عبد المنعم أن المؤسسة الشعرية الكبرى التي يعمل بها تحتاج إلى «مدقق لغوي ومساعد باحث أدبي»، وأنه زكَّاني ولديَّ مقابلة مع الأستاذ الدكتور الذي سأكون تحت إمرته.
قال لي الأستاذ الدكتور: «أنا لا أكشف عورتي إلا لاثنين، أنت والطبيب». وزاد بذلك حيرتي حول الوظيفة التي جئت لأشغلها وأنا أسمع اسمها للمرة الأولى، لكن من الاسم والسياق أظن أنني مناسب لها. واصل الأستاذ: «سترى كتاباتي وهي معيبة بشرط وحيد، أن تجعلها كاملة سليمة بلا عيوب».
ومن يومها وأنا أدمنت الطب والاطلاع على العورات، ولكن بين الأوراق لا في المستشفى، وبنِيَّة شديدة البراءة.
(2)
«هاتِ حسنةً وأنا سيدُك».
في غرفة الأخبار، ينظر إليك الصحفي نظرة مركبة، فأنت أدنى منه منزلة في صنعة الصحافة، وأنت تفوقه علمًا ومهارةً في أداته الكبرى/اللغة، يستشيرك في ما لا يعلم بلهجة الآمر الناهي لا المحتاج؛ «هاتِ حسنةً وأنا سيدك»، ويُجِلُّك أحيانًا لأنه متواضع طيب القلب لا لأنك تستحق.
ويظل الصحفي والمدقق صديقين –من نكد الدنيا على الحُر– على مذهب أحمد بن الحسين، حتى يقفز المدقق من مركب اللغة الذي لا يمنحه الترقية ولا يجعله وجيهًا، إلى مركب الصحافة، فيصير صحفيًّا مصعَّر الخد متعاليًا على الناس؛ لا يخيفه المدقق، ولا يجرؤ الصحفي على التعامل معه بندِّية، فقد حاز الحسنيين.
وهذا ما علمتنيه غرفة الأخبار اللعينة بعد خمس سنوات من مكابدة العيش فيها (أنا وأصدقائي نلقِّب غرفة الأخبار ألقابًا عدة، منها «مكب زبالة الكوكب»، بأخبارها المدمرة للأعصاب ونفسية سكانها غير الحسنة)!
هنا آن لأبي صحيفة أن يمد ساقيه، ويقول بصفاقةٍ: يا صحفيُّ إنني أفوز بلغتي، ويا لغويُّ إنني أفوز بصحافتي، وكلاكما خاسر!
(3)
«غوغل الغلابة».
أتشارك مع زميلي المدقق الذي أقتدي به صفةً، ويا لها من صفة، هي أن توجيه السؤال اللغوي إلينا أبرك وأصوب من سؤال صديق الفلاح غوغل، هكذا يفعل معنا زملاؤنا المدققون –وهم محقون– ويخرجون بعدها وقد زال الحرج من صدورهم.
وقد تساءلت مرارًا: ماذا لدينا ليس لدى غوغل؟ فكانت الإجابة تصحّ لسؤال آخر: إلامَ يحتاج المدقق اللغوي أكثر من الأشياء التي نعرفها (بصوت محمد رمضان)؟
المدقق عالم في النحو والصرف والدلالة، ولكن ليس تمامًا، فيكفيه –ما لم يختزن بطون الكتب في بطنه– أن يحيط بجوهرها، ويمتلك أدوات البحث فيها، وحس التوجُّس، ليقتصد في المراجعة والتساؤل بالقدر الذي لا يقتل الأوقات ولا يمرر الأخطاء.
وعلى عالِمنا الصغير هذا أن يكون متربصًا صيادًا، لا يصحح الخطأ في رأسه ويمرره في النص، فالقواعد: لكي تُطبَّق لا لكي تُحفَظ، وإن كان بعض الحفظ ضرورة فلكي يُعِين على التطبيق ولا حاجة إليه من دونه.
وعليه أن يصالح التكنولوجيا التي تغنيه عن ساعات البحث وساعات التصويب والتعديل، وفي هذا كثير مما يمكن أن يقال، معاجم إلكترونية وتفعيل أدوات Office في حفظ أنماط الأخطاء وتعديلها بضغطة زر، إلى آخره.
وينبغي للمدقق الذي يغار منه غوغل ويود لو فيرسَ دماغه أن يكون محيطًا بجانب كبير من المجال الذي يدقق لغته، فيكون ذا خلفية شرعية إذا كان يدقق كتابًا فقهيًّا، (وضع مكان شرعية: تاريخية أو صحفية أو طبية أو أدبية أو قانونية، إلى آخره)، وعليه أن يطأ مجالات عدةً عمومًا، فالطبيب الاستشاري لا يركز في تخصصه فينسى معارف الطب العامة في التخصصات الأخرى، وحظه من الطب يتضاعف لو كانت له حظوظ من مجالات أخرى تجعله «حكيمًا» كما أطلقوا عليه لعصور طويلة، والحديث هنا عن الطبيب والمدقق.
وعلى المدقق ألا يكون غوغل خيرًا منه، فلو تأملت ترجمة غوغل التي كانت تثير السخرية قبل سنوات لعلمت كم طورت من نفسها وجعلتنا حقل تجاربها، حتى صارت باهرة يمكن الاعتماد عليها في جل مواقف الترجمة المكتوبة.
أزيدك من النثر سطرًا: غوغل لا يعرف كتاب النسق الذي تسميه المؤسسات على غرار الفرنجة Style Book.
فلا يمكنه أن يتتبع تركيب «تنظيم الدولة الإسلامية» مثلًا في نصك، ليضع مكانه «تنظيم داعش الإرهابي»، ويخرج بنتائج دقيقة دائمًا، وانظر إلى هذا السياق: «تنظيم الدولة الإسلامية للدواوين في العصر العباسي تأثر بالثقافة الفارسية».
ولا يستطيع غوغل مثلًا أن يكون دقيقًا في حذف الكلمات التي لا تتماشى مع السياسة التحريرية، أو التفريق بين الصوابين أيهما يحقق المعنى، وانظر إلى قولنا: «وصل الرجل أهله» و«وصل الرجل إلى أهله»، فالأولى من الوصل والصلة وفيهما من معنى ردّ الإحسان وحفظ الجميل، والثانية من محض الوصول، وكلاهما في اللغة صواب، والاختيار بينهما سياقيّ بحت.
هنا أحب أن أقول لصديقي الكسول: «كم أحببت أن أكيل لك مزيدًا من الشتائم، لكنك غلبتني هذه المرة، لديك كل الحق حين فضّلتَني على غوغل، لهذا سامحتك في كل صفاتك السوداء المستحقة»!
(4)
«عصام الحضري».
عودةً إلى غرفة الأخبار التي لم أستطع أن أترقى فيها مدققًا، لكنني انتزعت صفة منتج أول أو Senior News Producer، فكم طاب لزميل الأمس (المدقق) أن يسلمني خبره على أي حال، بعد أن أوصاني أن أكون حارس مرماه الأمين، فكل ما فاته يجب أن لا يفوتني، وإلا افتضح كلانا حين تمر المادة على مدققَين ثم تظل معيبة عامرة بأخطائها.
أبديتُ دائمًا سلاسة في قبول هذه المهمة (التي لا يجب أن أضطلع بها مع صفتي الجديدة، فلديَّ مهام أخرى تحريرية وخبرية) وتقبلتها دائمًا بكل هبل وسذاجة، حتى إنه لقَّبني في كل مرة لقبًا جديدًا، تارة شوبير وتارة الحضري وتارة إكرامي.
فإذن: مدقق اللغة حارس المرمى، الذي يخطئ الجميع معتمدين على وجوده هنالك قبل النشر بمليمترات قليلة، يؤدي فرض كفايته ويجبر العثرات!
(5)
«التلميذ الواشي».
لكنّ فرحتي ما تمت بأنني أخيرًا أحوز إعجاب أصدقائي المدققين، لأن أحدهم صار دائمًا متوترًا من مرور المادة التي دققها عليَّ قبل نشرها، فقد تعوّد أن لا يسائله أحد في لغته وأخطائه، وأن لا يحتاج إلى حارس مرمى آخر يقف وراءه، وقالها لي صراحة: «لقد أصبحتَ ذلك التلميذ البارد الذي يعيِّنه المدرس ليكتب أسماء المشاغبين».
وكانت هذه مهنة شريرة جديدة أعادتني إلى السياق الذي أحبه، فأنا لست طيبًا مثل الأستاذ محمود الجندي، بل شرير مثل الأستاذ محمود المليجي، ولو كانت ملامحي تشبه الأستاذة خيرية أحمد.
كم أحب أن أتشفى في الآخرين؛ قبل قليل تشفيت في صديقي الصحفي الذي لم يعد يعاملني بفوقية، والآن قهرت زميل الأمس المدقق الذي يجب ألا يظن نفسه أكبر من المراقبة والتقييم!
(6)
«دون الإنسان.. لكنه فوق الملَك».
يحيلني ذلك إلى جدل غير بيزنطي، لأنه دار في إسطنبول لا بيزنطة، فيمكننا أن نعتبره جدلًا قسطنطينيًّا.
حين أغلظت في لوم صديقي المدقق الذي قبضت على ستة أخطاء لغوية في نص راجعه من ثلاثمئة كلمة، قال لي: «أليس المدقق إنسانًا، أم إنه آلة؟ ألا يحق له أن يخطئ؟!». فقلت له: «طبعًا ليس آلة، ويمكننا أن نقبل منه خطأ واحدًا كل خمسة آلاف كلمة، وألا يكون هذا الخطأ في العنوان، ولا في قاعدة واضحة وكبيرة كالفاعل والمفعول به والخبر وخلافه».
ثم صمتُّ قليلًا وقلت له: «المطلوب من المدقق أن يكون ملَكًا بين آدميين، وليس من حقه أن يخطئ».
طبعًا لا تصدق كلامي؛ لو راجعتَ نصي هذا فقد تكتشف أنه يهدم هذه القاعدة، لكنّ مثل هذه الأشكال لا نعطيه الحجة التي يذبحنا بها لاحقًا!
(7)
«امرؤ القيس جمال محروس».
كثيرًا ما حلمتُ (حلمًا ليليًّا لا حلم يقظة) أنني بين الجاهليين، أحاول التواصل معهم والحديث بالفصحى التي ملكت قلبي، وأُسمِعُهم بعضًا من قصائدي (ابننا شاعر ويحفظ صوت صفير البلبلِ كاملةً)، لكنني اصطدمتُ بشعور الذنب الذي يملأ عقلي الباطن ولا أحب أن أصرح به، فلا أحد يحب أن يفضح نفسه. لكن لنفعلها مرة ولا نكررها (تنزل المرة دي).
فقد فوجئتُ دائمًا –هناك في قريش (الحلم)– بأنني أفهمهم لكنهم لا يفهمونني.
فسرتُ ذلك بالمخارج التي لا تطابق مخارجهم، وبلياقة التحدث المتراجعة بسبب عدم الاستخدام، (فنحن جميعًا متحدثو عربية لغةً ثانية، تبعد عاميتنا عن فصحانا أكثر من بعد الإسبانية عن البرتغالية)، وبأنني كأستاذ اللغة في كلية الألسن، الذي قد يكون تلميذه الذي يعمل بالسياحة أكثر منه طلاقة ودقة.
وكلما طاردني هذا الكابوس الذي يسلبني الثقة بسلاحي وأداة معاشي ومنتهى شغفي وحجتي للاستعراض والرياء، عدت إلى مقعد التلميذ. وكلما تأملتُ ما صرتُ أعرف الآن مما لم أكن أعرفه في صنعة التدقيق قبل عام واحد، عزيت نفسي بأنني بالحد الأدنى متعلم صادق، لا يتورع أبدًا أن يظل متعلمًا حتى النهاية!
ملحوظتان قبل أن تذهب لشراء غلة الأسبوع وأذهب لتسميم بدن صديقي الصحفي:
1- لتكون مدققًا مثلي: كن مطَّلعاً على العورات، ممتنًّا بالحسنات، غوغلًا للغلابة، حارسًا للمرمى، تلميذًا واشيًا، ملَكًا لا يخطئ، امرأ القيس جمال محروس. وإذا ساءلك أحدٌ في ذلك فلا تذكر اسمي.
2- كتبت التدوينة بأسلوب الغائظ الكيَّاد، وفيها مبالغة يسيرة، والهدف تحقيق العبرة، فلا تذهب إلى الأستاذ #$%^& زميلي وتخبره بما كتبتُ حتى لا يزعل!
باحث دكتوراه وصحافي وشاعر.