10 كانون الأول 2024
16 أيار 2024
تُعدّ رواية Adventures of Huckleberry Finn [مغامرات هكلبيري فِن] (1884) واحدة من أشهر وأعظم الروايات الأميركية على الإطلاق. مغامرة إبداعية وفكرية حقيقية، تأخذنا إلى عوالم عجيبة، وتمنحنا جرعة من المتعة الصافية، إذ تُربك الحواس، وتجبِر على إعادة ترتيب الأفكار والنظرة إلى العالم، حتى استحقت لقب أم الروايات الأميركية. أما مؤلفها مارك توين (1835- 1910)، واسمه الحقيقي صمويل لانغورن كليمنس، فهو بدوره الأب الشرعي للرواية الأميركية، لأنّه لم يتبع تقاليد وأنماط الرواية الأوروبية التي كانت تهيمن على المشهد الأدبي في الولايات المتحدة في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
في هذه الرواية كتب مؤلفنا عن الواقع الأميركي، واضعاً عناصره الطبيعية والبشرية والثقافية، وكذلك أساس السمات الفنية والموضوعية لما يُعرف بالأدب الروائي الأميركي. يمكن اعتبارها أيضاً دراسة أنثروبولوجية دقيقة وثرية للواقع المادي والثقافي والمعرفي السائد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، خاصة في ولايات الجنوب الأميركي وبنحو غير مسبوق.
قدّم مؤلفنا وصفاً تفصيلياً لأنماط المعمار في القرى والمدن، والبواخر والقوارب التي تمخر عباب نهر الميسيسبي، والغابات القائمة على ضفتيه، والجُزر التي يحيطها على نحو تفصيلي. كما استحضر غالبية الفئات التي كانت سائدة في قرى الجنوب؛ من وجهاء، ومُعدمين، ومُتسكعين، وفلاحين، وخدم، وعبيد، وأفاقين، ولصوص، ومخمورين، وبُلهاء، ومتهورين. وصف ملابسهم وطريقتهم في الكلام، وصراعاتهم، وكذلك الوسائل التي يكسبون بها قوت يومهم، وأدوات التسلية المُتاحة. بالإضافة إلى رصد حي ومتدفق لمفردات الحياة اليومية، والمعتقدات الدينية والخرافية، والعادات والتقاليد.
لهذا، قال إرنست همنغواي: «إنّ كل الأدب الأميركي ينبع من رواية مغامرات هكلبيري فِن، وهي أفضل رواية أنتجها الأدب الأميركي حتى الآن[1]». وبالفعل، تركت هذه الرواية بصمتها في الأدبين الأميركي والعالمي، وسيجد القارئ فيها العديد من المشاهد والأفكار المألوفة بسبب تكرارها لاحقاً في الكثير من الأعمال الأدبية والأفلام.
الكاتب وروايته
لا نستطيع فصل هذه الرواية عن حياة مؤلفها، ويمكن اعتبار أجزاء منها سيرة ذاتية له على نحو ما. فقد انتقل توين في الرابعة من عمره مع أسرته إلى مدينة هانيبال Hannibal، التي أثّرت في حياته وتكوينه الذهني وعالمه الإبداعي. ففي هذه المدينة الواقعة على نهر الميسيسبي، عمل مؤلفنا مع والده على متن القوارب التي تنقل المسافرين عبر النهر ذهاباً وإياباً. جعله هذا العمل يحتك بأعداد غفيرة من الفقراء والمهاجرين والفلاحين والعبيد في رحلاهم اليومية، ويستمع إلى أحاديثهم ونكاتهم. وقد نقل هذه التجارب في روايته على لسان الراوي هكلبيري، الذي يمثل المؤلف نفسه في صباه، بما يجعل من أحداث هذه الرواية وشخصياتها انعكاساً مباشراً للمشاهد والتجارب التي عاشها توين في طفولته.
من بين تلك التجارب أيضاً، اكتسب مؤلفنا موقفه الساخر من الحياة بعدما عاين بنفسه حجم المفارقات الفجة بين السادة والعبيد، والفقراء والأثرياء، وأدرك أنّ البؤس يُخيّم على حياة غالبية البشر. يدين توين بالفضل إلى هذه التجارب لأنّها ساعدته في صياغة قاموسه اللغوي الخاص، الذي سيشكّل لغته المميزة في هذه الرواية وفي غيرها من الأعمال الأدبية. ويمكن أن نُطلق عليها لغة المُهمشين الأميركيين، لغة الناس، العامية الدارجة، بكل حيويتها وكسرها للمألوف من قواعد بنائية ودلالية للغة الانكليزية.
أما الحوارات في الرواية، فجاءت بمثابة متحف لغوي، إذ تجاورت إنكليزية الشوارع، وإنكليزية الحقول، وإنكليزية العبيد من أصل أفريقي، بكل ابتذالاتها ورثاثاتها وقدراتها وصدقها التعبير، إلى جانب الإنكليزية الرسمية الرصينة والمُقولبة والجامدة والفارغة من الحياة.
السخرية
اتسم أسلوب مارك توين بالسخرية اللاذعة، إلى درجة أنّ شهرته بصفته كاتباً صحافياً ساخراً تسبق شهرته بصفته روائياً. حتى في قصصه ورواياته حافظ على السخرية، وظلّت هي السمة الأبرز بين مفردات عالمه الروائي. فالسخرية هي الوجه الآخر للألم؛ خاصة عندما تكون تجربة الألم والشقاء جمعيّة، تتعرض لها جماعة شعبية مقهورة. ولقد تعلّم توين في طفولته قيمة السخرية بصفتها سلاحاً يستخدمه العبيد وفقراء الفلاحين في مواجهة ظروف اقتصادية واجتماعية وإنسانية غاية في القسوة والمرارة.
في كتاباته الصحافية، كان توين يتناول الموضوعات الجادة بطريقة هزلية، فيما يُعد أبرع من قدّم الكوميديا السوداء في أعماله الأدبية، على رأسها هذه الرواية المحتشدة بالمواقف المُتراكبة والمُعقدة والمُربكة. تمتزج فيها الدراما العنيفة بالسخرية المفرطة، وكثيراً ما تتحوّل بعض المواقف في لحظات من مأساة إلى ملهاة، ما يجعل القارئ واقفاً عند الحد الفاصل بين الضحك والبكاء.
إلى جانب الكوميديا السوداء، لعب توين على ثيمة: الخطأ في تحديد الهوية، سعياً منه إلى إثارة الضحك. ففي مواقف كثيرة، يضطر الصبي و«العبد» (البطلان: هكلبيري وجيم) إلى التخفي أو ادعاء هوية زائفة من أجل الإفلات من المآزق أو الحصول على طعام. غالباً ما يدفعهما هذا التخفي إلى مآزق إضافية يُفلتان منها بطرق مضحكة عامةً، ولكنّه ضحك مثل البكاء.
كان أكثر ما سخر منه مارك توين هو القارة الأوروبية بأنماطها الإنسانية والسياسية والأدبية، إذ اتسمت بالنسبة إليه بالمُغالاة والتكلف والادعاء الكاذب بالتحضر والتمدين. فأقام موازاة مع بعض النصوص الأدبية الشهيرة، ساخراً من منطق الفروسية الزائف، ومن طريقة الكتابة الكلاسيكية. مثلاً، يشترك الصبي هاك والعبد الهارب جيم في مسرحية مع أحد الأفاقين، فتتحوّل مشاهد من مسرحية هاملت إلى مهزلة بكل ما للكلمة من معنى.
حبكة عنقودية
العنصر الدافع إلى تطوير الحبكة هو الرحلة في نهر مسيسيبي، ومنه تتفرّع الأحداث وتتطوّر في القرى والمدن الواقعة على ضفتيّ النهر، على نحو عنقودي متصل/ منفصل/ مُتتابع/ متشابك. فتتمحور الرواية حول رحلة هرب مزدوجة يقوم بها الصبي هكلبيري هرباً من والده، وصديقه الزنجي العجوز جيم هرباً من العبودية. تتكوّن الرواية من وحدات سردية متتابعة، لا يربط بينها سوى رحلة الهرب، فتظهر الشخصيات وتختفي على امتدادها، وتلعب كل منها دوراً في زيادة وعي البطل الرئيسي بذاته وبطبيعة العالم من حوله.
صحيح أنّ حضور غالبية الشخصيات مؤقت، غير أنّها ليست شخصيات ثانوية بالمعنى التقليدي. السبب في ذلك أنّ توين رسم الملامح الجسمانية والنفسية، بل اللغوية لغالبية الشخصيات بدقة وإتقان، كما أنّ الإطار الدرامي الذي تتحرّك فيه يُكسب حضورها المؤقت ثقلاً وكثافة، ويجعلها لا تسقط من الذاكرة.
تنبثق الإثارة في الرواية من مُتابعة تقدّم جيم اليومي نحو الخط الفاصل بين العبودية والتحرّر رغم العقبات المتعددة، ومحاولاته بوسائل طريفة وغريبة التخفي من فرق صيد العبيد وغدر الوشاة. ثم تبلغ الإثارة ذروتها حين يقرر الصبي هاك أنّ فرار العبد جريمة يجب أن يمنعها، فيقرِّر خيانة صديقه ورفيق رحلته وتسليمه إلى أحد فرق صيد العبيد، قبل أمتار من وصوله إلى مدينة كايرو Cairo، ونيله حريّته. غير أنّ الصبي يتراجع عندما يسمع جيم يقول له: «بعد لحظات سأصيح من الفرح... سوف أهتف: أنا حرّ بفضل هاك، هو من حرّرني، لولا هاك لما أصبحت حراً. لن أنسى فضلك أبداً يا هاك؛ أنت أفضل صديق لي في العالم، أنت صديقي الوحيد.. أنت الرجل الأبيض الوحيد الذي وفى بوعده لجيم العجوز».
مانيفستو التحرير
عاش مارك توين أحداث الحرب الأهلية الأميركية (1861-1865)، وتفاعل مع الأفكار الإنسانية المؤجِّجة لها، ولجأ إلى قلمه انحيازاً إلى رؤيته الإنسانية. تابع مؤلفنا ما جاء في بيان تحرير العبيد الذي أصدره الرئيس أبراهام لنكولن في عام 1863، وبشّر عبره بتحريرهم. لكن سُرعان ما سيدرك العبيد في ولايات الجنوب أنّ البنية التشريعية والقانونية لم تغيّر أوضاعهم الفعلية، لأنّ مزارع الجنوب الشاسعة تعتمد على سواعدهم، وتحريرهم يعني انهيار الاقتصاد في تلك الولايات.
لذلك، بدأت موجات متتابعة من هرب العبيد إلى ولايات الشمال، وكان وصول أحدهم إليها يعني نيله حرّيته بالفعل. في المقابل، حاول مالكو العبيد منع عمليات الهرب الفردي والجماعي بالإعلان عن مكافآت مالية لكل من يقبض على عبد هارب أو يُدلي بمعلومات تساعد في القبض عليه. فتشكّلت فرق من المسلحين لمطاردة العبيد الهاربين مدعومة بكلاب الصيد، هدفها القبض عليهم وإعادتهم إلى مالكيهم. فضلاً عن تلك الفرق التي كانت تتسم بالشراسة، كان المواطنون العاديون يسعون للإبلاغ عن العبيد الهاربين طمعاً في المكافآت السخية.
كانت الأخبار تتواتر في المدن الحدودية بين ولايات الشمال والجنوب، إما عن نجاح بعض العبيد في بلوغ الشمال، أو سقوطهم في يد فرق الصيد، أو قتلهم أثناء المطاردة. فكانت الأحداث الوحشية هي الدافع الرئيسي لكتابة مغامرات هكلبيري فِن التي حاول فيها مارك توين الدفاع عن حق العبيد في التحرّر، والهجوم على العقلية الوحشية التي تعاملت معهم على ذلك النحو. كما أنّه سعى إلى تفكيك الأسس الفكرية للعنصرية، والمقولات الراسخة بشأن تسليع الإنسان والحق في امتلاكه.
يطرح توين في هذه الرواية فكرة غاية في الإنسانية والعمق، وهي الصراع بين الحق في التملّك والحق في الحياة. فالعبد الهارب عبارة عن سلعة يمتلكها شخص آخر، والعبد الهارب في الوقت نفسه روح تتوق إلى الحياة. يستعيد الصبي هكلبيري كل ما سمعه عن الحق في امتلاك العبيد، وعن الطبيعة الدنِسة للزنوج، فيشعر بأنّه يرتكب جريمة حقيرة بمساعدة جيم على الهرب. يعتقد أنّه قد تحوّل إلى لص يسرق بضاعة من مالكها الذي دفع ثمنها، وبهذا يكون قد خالف القانون والعُرف والتقاليد الموروثة.
يشعر القارئ أنّ الصبي قد صار عبداً للتقاليد العمياء، وللمنظومة الفكرية الفاسدة التي تبرّر انتهاك البشر وسلب حريتهم. يدور صراع رهيب في عقله، ويقرِّر الإبلاغ عن صديقه، لكنّه يتراجع في اللحظة الأخيرة، ويقرِّر الانتصار للحق في التحرّر على الحق في التملّك. ثم في نهاية الرواية، يكتسب الصبي وعياً جديداً فيتحرّر من سطوة منظومة القيم الاجتماعية البالية ومن الاستعباد الفكري، توازياً مع تحرّر جيم من العبودية.
حققت مغامرات هكلبيري فِن نجاحاً كبيراً فور صدورها، وتحوّلت إلى مانيفستو لإدانة العبودية والعنصرية بحق ذوي البشرة السوداء، وللمطالبة بحق البشر في حياة جديدة تُحقِّق أبسط الشروط الإنسانية، وتُحطِّم أغلال الاستعبادين المادي والمعنوي. تظلّ عظمة هذه الرواية في تبنيها لفكرة إنسانية من الطراز الأول، ولم يتجاوزها الزمن بعد. فما زالت شروط العبودية قائمة، وما زال السعي البشري إلى الانعتاق والتحرّر قائماً، وإن تغيّرت أشكالهما.
مترجم وروائي مصري.