6 أيار 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

«جريمة بيضاء»، حيث لا يمكن لأحد الإفلات بجريمته

محمود الحلواني

16 نيسان 2024

إلا قليلًا، يمكن النظر إلى المسرحية بوصفها عرضاً كلاسيكياً

أخشى أن أصفها بالتهوّر تلك التجربة التي أقدمت عليها أخيراً المنتجة والكاتبة المصرية أروى قدورة، عبر إنتاجها العمل المسرحي الكلاسيكي جريمة بيضاء على خشبة مسرح الهوسابير في وسط القاهرة.

تجربة تكاد تخلو، أو لعلها تخلو بالفعل، من مشهيّات وتوابل طالما ألِفها «مسرح القطاع الخاص» في مصر من أجل جذب جمهوره. فنخال أنفسنا في ظل هذه الدراما الجادة من إخراج سامح بسيوني وكتابة يسري حسان، نشاهد واحدةً من كلاسيكيات عالمية ومحلية اختصّ بعرضها المسرح القومي، أحد أكبر وأقدم المسارح التابعة إلى وزارة الثقافة.

أخِذ العرض عن قصة قصيرة للكاتب السويسري فريدريش دورينمات Friedrich Dürrenmatt (1921-1970) بعنوان Die Panne [العُطْل][1]. وقد صاغها المؤلف في قوالب ووسائط أدبية مختلفة، منها الرواية والمسرحية، كما أعدَّها للإذاعة، قبل أن تروق كتّاباً ومخرجين ومنتجين كثراً.

أعيد إنتاجُها وتقديمها إذاعياً وتلفزيونياً وسينمائياً في كثير من دول العالم، لعل أحدثها قبل نحو ثلاثة أعوام في الفيلم الهندي Chehre [الوجوه]. وفي مصر، سبق للكاتب يسري الجندي تقديمها في سهرة تلفزيونية عام 1999 تحت عنوان ليلة القتل الأبيض، فيما قدمتها الإذاعة في صيغة مسرحية بعنوان العطب (لم نستطع تبيّن تاريخ إنتاجها).

وقبل وقت قليل من عرض يسري حسان وسامح بسيوني، قدّم المخرج أحمد فؤاد المسرحية على مسرح الغد في القاهرة، أحد المسارح التابعة لوزارة الثقافة.

 

عدالة متحرِّرة

تطرح دراما فريدريش دورينمات في العُطل، كما مسرحية جريمة بيضاء، تصوّراً أكثر شمولاً لمفهوم العدالة. يتجاوز الحدود المتفق عليها ما بين المشتغلين بالقانون، من أجل إتاحة محاكمة ما يتعذّر إثباته مادياً من نوازع بشرية شريرة لا واعية، قد تَخفَى على صاحبها ذاته.

هذا ما يحيلنا تالياً إلى سعي هذه الدراما إلى تقديم تصوّر أوسع لمفهوم الجريمة. فلا يتوقف عند حدود الأفعال الظاهرة فحسب، إنّما يشمل الأفعال الباطنة أيضاً. وهذا ما يضع الإنسان كله في الميزان، ظاهراً وباطناً، فلا يترك أمامه فرصة للإفلات بجريمته.

يفترض هذا التصوّر أنّ العدالة لا تتحقق في ساحات قضاء إجراءاته روتينية وقوانينه جامدة بلا روح، إلى درجة أنّ من شأنها الإسهام في إفلات المجرم من العقاب. فخوف المجرم من العقوبة يدفعه إلى التحوّط الشديد، ثم إلى الإنكار والكذب. وهذا ما قد يسهم، إلى جانب تلاعب المحامين أو انتفاء الدليل المادي أو حتى وجود خطأ في الإجراءات، في تقييد يد القاضي عن إصدار حكم عادل وتوقيع عقوبة مناسبة، رغم يقينه بارتكاب المجرم جريمته.

هذا التصوّر المثالي لمسألة العدالة والعجز عن تحقيقها يقودان قاضٍ إلى التقاعد الطوعي من وظيفته. كما أنّهما يدفعانه نحو الرجوع إلى ممارسة المهنة، إنّما بصفتها لعبة حرّة تمكنه من تحقيق العدالة مثلما يؤمن بها.

يشاركه في تلك اللعبة ثلاثة متقاعدين آخرون: وكيل نيابة ومُحام وجلاد، يجتمعون في منزله دورياً، متحرّرين من القيود الرسمية. يتداولون قضية مرّت بهم أثناء العمل، أو يختارون شخصية تاريخية يخضعونها للمحاكمة، أو يشركون شخصاً من أجل أن يحاكموه.

كان الأمر يجري في أجواء ودية يتناولون فيها الشراب الشهي والطعام اللذيذ، بما يسقط عن المحاكمة طابعها الرسمي المخيف، ويشجع الضيوف على المشاركة ولعب أدوار المتهمين بمثالية، فلا يخفون شيئاً لاطمئنانهم التام إلى براءتهم.

 

مصيدة العدالة

هكذا يقع ألفريدو ترابس في المصيدة؛ وكيل أعمال شاب تتعطل سيارته ذات ليلة في قرية نائية، ولا يجد مكاناً في فندقها الوحيد، فيشير عليه المدير بالذهاب إلى بيت القاضي. يأسره كرم الأخير وحفاوة وكيل النيابة والمحامي، ويدفعه الجو الحميمي والمرح السائد والشراب الشهي إلى قبول المشاركة في اللعبة.

يجيب على أسئلة وكيل النيابة الماكرة دون احتراز، فخوراً بما حققه من نجاح في حياته العملية. ورغم تحذيرات المحامي من الانزلاق إلى ما قد يوقعه في الخطأ، لا يأبه لأنّه مطمئن إلى عدم ارتكابه جريمة يخشى انكشافها.

غير أنّه سيفاجأ بأنّ المحكمة التي يلعب معها لها رأي آخر، إذ ينجح وكيل النيابة في الكشف عن فساده، ويوجه له تهمة قتل رئيسه! كما يكشف له أنّ رغبته الحثيثة في الصعود السريع من أدنى السلّم الاجتماعي، وجَّهته دون تخطيط واعٍ إلى استغلال المعطيات المتاحة كافة من أجل تحطيم صاحب العمل ودفعه إلى الموت بهدف الاستحواذ على ممتلكاته.

من بين تلك الممتلكات الزوجة، التي كان ألفريدو قد سعى عبرها إلى إدخال الشك في قلب رئيسه، بل إلى تأكيد خيانتها له. وكان يعلم منها أنّ قلب زوجها مريض، فاستغل الأمر ومات الرجل بسكتة قلبية بالفعل.

وفق رواية ألفريدو التي موّه بها على ضميره، كان رئيسه فاسداً ويريد توريطه، ومهملاً لزوجته قاسياً عليها.  لذا، برّر لنفسه طعنه في الظهر، واعتبرها حرباً شريفة على شخص غير شريف. كان فخوراً.

غير أنّ وكيل النيابة تناول الرواية معيداً بناءها، حتى نجح في كشف أنّ ألفريدو كان يخدع نفسه، وأنّ شيئاً خبيثاً في داخله حرّك الأحداث حتى بلغ النتيجة المحقّقة بموت رئيسه، وإن لم يخطّط للأمر بصورة واعية. ثم بعدما تعرّف ألفريدو إلى صورة نفسه الحقيقية مقرّاً بجريمته، أصدر القاضي الحكم عليه بالإعدام حياً.

العدالة في هذا التصوّر هي صنو الحقيقة. فتزيل الغشاوة عن نفس المجرم لكي ترى صورتها دون أوهام وتختار: إما الاستمرار في فسادها والمضي في الطريق نفسه، وبذلك تكون قد استحقت حكم الإعدام بالفعل ونفذته أيضاً، حتى لو أنّها حية تتنفس؛ وإما أن تثور على صورتها تلك وتمضي في اتجاه معاكس نحو تبنّي قيم الحب والخير، فتكون قد كتبت الحياة لنفسها.

ذلك هو ما ينتهي إليه العرض؛ الاختيار.

بورتريه عن فريدريش دورينمات

 

في إعادة بناء دراما دورينمات، انطلق مؤلف العرض يسري حسان من محاولة إبراز طبيعة العصر الذي تدور فيه. إنّه عصرنا نفسه؛ عصر السرعة والتنافس المجنون على الامتلاك، وما ينجم من توحش وعدوانية تجاه الآخر. فيما الهدف تحقيق السبق، والحصول على أكبر قدر من الاستهلاك، وكل ما يمكن من كمال المظهر الخارجي، على حساب أشياء أكثر حميمية وأصالة.

هذا ما تجلى في المشهد الافتتاحي الذي استهل به يسري حسان عرضه. فبدا المنزل الفخم تتصدره صورة ألفريدو المنشغل بصورته في المرآة، والعجول في مغادرة المنزل وسط شكوى زوجته من أنّه لا يرى أطفاله المفتقدين لوجوده بينهم والشاعرين بالبرودة في منزلهم الجديد. غير أنّه يشير إليها بأنّ الحياة صراع، ولا بد له من سبق الجميع من أجل تحقيق ما هم فيه من وجاهة اجتماعية.

أيضاً يتجلى تركيز الكاتب على إبراز طبيعة العصر في خطاب وكيل النيابة المباشر في النهاية، وكذلك في دفاع المحامي المراوغ حين يحاول تبرئة ألفريدو عبر إلصاق فعل القتل إلى توحّش العصر.

وقد اهتم يسري حسان بإضفاء لمسة كوميدية، أظنّها استدرجت جيداً المشاهد نحو الدخول في مصيدة المحاكمة، وأسهمت في إبراز عنصر المفاجأة مع حدوث التحوّل الدرامي، وتصاعد وتيرة التوتر كلما أُحكِم الحصار حول ألفريدو.

 

الدراما تصعد المسرح

إلا قليلًا، يمكن النظر إلى العرض على خشبة مسرح الهوسابير بوصفه عرضاً كلاسيكياً، تتخذ فيه الدراما دور البطولة، فيما تأتي عناصر الفرجة الأخرى تالياً بصفتها عناصر مساعدة وشارحة. فبرز الممثل أكثر بوصفه حامل الخطاب الدرامي، فيما لعب ديكور حازم شبل، وإضاءة إبراهيم الفرن، وأزياء سماح نبيل، وموسيقا محمد علام، واستعراضات بوسي الهواري، أدوارهم بالقدر الذي يحقق تكامل العرض ويخدم الدراما وظيفياً وجمالياً.

مما يحسب للعرض أيضاً النجاح في صياغة الجو الإيهامي الحاضن للدراما، إنّما من دون تشويش. فلم يلجأ المخرج سامح بسيوني إلى أيّ فرقعات فارغة قد تشوّش على موضوعه الدرامي. لكن مع ذلك، جانبه التوفيق في إجلاس أربع فتيات في وضع الثبات طوال العرض، في هيئة تماثيل لم يحركها إلا لثوان قليلة بغرض تأدية رقصات تعبيرية تعيد تشكيل ما كان يحكيه ألفريدو عن علاقته بزوجة رئيسه.

لم يكن ذلك الاستخدام لائقاً إنسانياً، وكان يمكن توظيف تلك العناصر بصورة أفضل، بل الاستغناء عنها.

 

فريق التمثيل

كان أيمن الشيوي في أدائه دور القاضي أميل إلى استحضار حالة الضجر. ربما أراد إبراز ضيق القاضي باستحالة تحقق العدالة إلا من خلال حلم أو لعبة على غرار لعبتهم. أما علاء قوقة فقد لعب دور وكيل النيابة، الذي استطاع من خلال بطء حركته والتفافاته الثعبانية أن يعكس صورة متربص يبدو كأنّه ينتظر مثل هذه المحاكمات من أجل الشعور بلذة الانتصار. لذة لم يعد يحظى بها ربما، إلا من خلال الإيقاع بالفرائس وإحكام الحصار حولهم في اللعبة.

كذلك أجاد خالد محمود في دور المحامي الحريص على عدم خسارة القضية فيما هو يحارب على جبهتين: جبهة وكيل النيابة المتربص بموكله، وجبهة موكله الذي يعمل ضده، وهي مفارقة أضفت كثيراً من روح الكوميديا على العرض.

كما لعب ناصر سيف دور ألفريدو ترابس المختال بثرائه وذكائه، والواثق ببراءته وقدرته على مواجهة مناورات وكيل النيابة. غير أنّ المفارقة في أنّه هو من يقدّم أدلة اتهامه بنفسه، بتهوّر لا يحسد عليه.

أما رضا إدريس فلعب دور بستاني في حديقة منزل القاضي، وهو دور صغير أضافه الكاتب. ومع ذلك، فقد تحمل الحمل الأكبر لإضفاء اللمسة الكوميدية على العرض، ونجح في ذلك عبر قدرته على الارتجال.

ومن بين من أجادوا أيضاً في تقديم أدوارهم: منة بكر، ونور القاضي، ورامي حازم، وأحمد أبوزيد، ووليد الإدفاوي، ونور مجدي.

أحسبها تجربة مهمة تحسب لمسرح القطاع الخاص، وأتمنى أن تستمر.

 


[1] صدرت في مصر عام 2020 ضمن مجموعة تحمل الاسم نفسه. ترجمها سمير جريس، وصدرت عن دار الخان للنشر والتوزيع.

محمود الحلواني

كاتب وناقد من مصر.

×