10 كانون الأول 2024
21 آذار 2024
في فرنسا، ينتحر مزارع كل يومين. لا تبدو أوضاع طبقة الفلاحين في أوروبا بأحسن حالٍ. يدفع هؤلاء غالياً ثمن التحوّل النيوليبرالي للقارة، وثمن التغيّرات المناخية. تنتشر حركات الاحتجاج الزراعية في هولندا ورومانيا وبولندا وألمانيا وفرنسا، وتتكاثر في الريف الأوروبي. صحيح أنّه لا تجمع بين هذه الاحتجاجات مطالب واحدة لكن القاسم المشترك اعتماد المزارعين إلى حد كبير على الاتحاد الأوروبي للحصول على الإعانات، وهو ما يعني أنّ عليهم الامتثال لمعايير الاتحاد وشروطه الاقتصادية والبيئية.
تعرف احتجاجات المزارعين النسق الأكثر قوّة في فرنسا، بسبب رفع الحكومة الإعفاء الضريبي عن وقود الديزل المخصص لتشغيل الآلات الزراعية، ولا سيما في قطاع تربية الأبقار. أما في ألمانيا، فيدفع إنهاء الامتياز الضريبي للوقود حركة الاحتجاج بقوّة، في حين تشتد الاحتجاجات في رومانيا وهولندا، أيضاً على خلفية تكلفة الوقود المرتفعة، وكذلك تكلفة التأمين واحترام المعايير البيئية. وبالذهاب إلى بولندا، تنطلق احتجاجات المزارعين من أرضية حمائية ضد تدفق الحبوب من أوكرانيا.
هكذا، يدفع الريف الأوروبي اليوم ثمن الصفقة الهجينة التي يريد الاتحاد الأوروبي المُضي فيها، وهي أن يكون نيوليبرالياً وصديقاً للبيئة في الوقت نفسه!
بيئة ونيوليبرالية
عام 2019 طرحت المفوضية الأوروبية «الصفقة الخضراء» بصفتها «إستراتيجية النمو الجديدة» للاتحاد، وأنّها تهدف إلى تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة إضافة إلى خلق فرص العمل وتحسين نوعية الحياة.
تضع هذه الصفقة هدفاً رئيسياً لها هو أن تحقّق القارة الحياد المناخي بحلول 2050، وهذا يعني أنّ انبعاثات الغازات الدفيئة، التي يجب خفضها بشدّة، سوف تلتقطها أو تمتصها الغابات أو التربة أو حتى المحيطات.
أما القلب النابض لهذا التغيير، فهو قانون المناخ الأوروبي الذي اعتُمِد نهائياً عام 2021، وقد حدّد هدف الحياد المناخي المتمثّل في خفض انبعاثات الغازات بنسبة 55% على الأقل بحلول 2030 مقارنة بمستويات 1990، علماً أن القطاع الزراعي يمثّل نحو 10,7% من انبعاثات الغازات الدفيئة في الاتحاد.
هذا الالتزام البيئي فرض على جميع الدول الأعضاء إلغاء الإعفاءات الضريبية كافة على الوقود الأحفوري، بما في ذلك الامتيازات التي كان يتمتع بها المزارعون منذ عقود. لكنّ الحظ العاثر لهؤلاء وضعهم أمام منعرج غير مسبوق، فقد تزامن المُضي في الالتزامات البيئية مع ارتفاع أسعار الطاقة في القارة بسبب الحرب الأوكرانية والتحوّل في عمليات التزويد والتخلي عن المزوّد الروسي الأرخص ثمناً.
لذلك، باتوا مجبرين اليوم على تشغيل معداتهم الزراعية بوقود يشترونه بأسعار السوق، ما يعني تحميل سعر المنتج فوارق قيمة التكلفة، الأمر الذي يدفع شركات الأغذية الزراعية الكبرى إلى البحث عن مصادر جديدة للمواد الخام الزراعية بسعر أقل من خارج نطاق الاتحاد الأوروبي مستفيدةً من قوانين التجارة الحرّة.
في المقابل، تعجز الشركات الأوروبية الصغرى، التي يقوم نموذج إنتاجها على المواد الزراعية الخام المحلية، عن المنافسة بسبب أسعار الشراء الباهظة قياساً بالأسعار التي تشتري بها الشركات الكبرى من مصادر غير أوروبية، وتكون عادةً من إفريقيا وأمريكا اللاتينية أو الدول الأوروبية غير المنضوية في الاتحاد.
في هذه الدائرة المحكمة الإغلاق بين التزام بيئي ومنظومة نيوليبرالية، يغرق المزارع في الاكتئاب ويموت كمداً.
احتجاج غير أيديولوجي
تنطلق الحركة الاحتجاجية الزراعية الأوروبية من أرضية مطلبية غير أيديولوجية، ومع ذلك بينها وبين الحركات الاحتجاجية التي عاشتها أوروبا خلال السنوات الأخيرة نقاط التقاء في الشعارات والمطالب والعفوية التنظيمية، وكذلك على مستوى ظروف المعيشة والعمل لدى غالبية المزارعين المحتجين.
هذه الظروف تفاقمت خلال السنوات الماضية، وأهمها: مستويات مرتفعة من الديون، وانخفاض مستويات الدخل، وتعرّض المحاصيل لتقلبات الأسعار، فضلاً عن المخاطر المناخية وموجات الأوبئة ولا سيما الحيوانية.
في المقابل، تحطّم شركات الأغذية الزراعية المتعددة الجنسيات الأرقام القياسية لهوامش الربح عن طريق تأجيج التضخّم، فقد تجاوزت نسبة تضخّم الغذاء في فرنسا مثلاً 14% خلال 2023، مقابل انخفاض حجم استهلاك الأسرة من الغذاء بنحو 8% خلال المدة نفسها، بحسب مسح أجراه Institut la Boétie.
يشرح المعهد أنّ الارتفاع الحاد في الأسعار هو في الأساس نتيجة اختيار الشركات المصنّعة الاستفادة من صدمة الحرب في أوكرانيا لزيادة أرباحها، وليس بسبب المزارعين، إذ انخفضت أسعار المنتجات الزراعية بنحو 8% منذ الذروة التي بلغتها بداية 2022.
مع ذلك، لم يوقف هذا الانخفاض في الأسعار ارتفاع أسعار المواد الغذائية على المستهلكين: +14% بين أيار/مايو 2022 والشهر نفسه في 2023. فيما لا يمكن تفسير هذه الزيادة في الأسعار بزيادة الأجور، فقد انخفضت الأجور الحقيقية في صناعة الأغذية الزراعية في واقع الأمر، وهو ما يتعارض مع النظرية الليبرالية الشهيرة عن «حلقة السعر والأجور»، حين يؤدي ارتفاع الأجور إلى حلقة مفرغة من التضخّم.
ما يفسّر هذا الارتفاع في الأسعار تطوُّر هوامش الشركات في القطاع. فمثلاً بين الربع الأخير من 2021 والربع الأول من 2023، ارتفع معدّل الهامش الربحي للصناعات الغذائية الزراعية من 28% إلى 48%، بزيادة قدرها 71% في معدل الهامش الربحي خلال عام ونصف. وهذا يعني أنّه من أصل 100 يورو من القيمة المضافة يبقى نصفها تقريباً – 48 يورو – في خزينة الشركة بمجرّد دفع الرواتب وضرائب الإنتاج.
أما بين الربعين الأولين من 2022 و2023، فتضاعف إجمالي أرباح صناعة الأغذية الزراعية من 3,1 مليار يورو إلى 7 مليارات، أي بزيادة قدرها 132% خلال عام واحد! ولأنّ تراكم رأس المال يسير في اتجاه معاكس لتراكم البؤس، كما يشرحه ماركس في قانون التراكم، إذ يشكل تراكم الثروة في هذا القطب تراكماً للبؤس والقسوة والانحطاط في القطب المعاكس، سيكون من يدفع ثمن أرباح هذه الشركات هو المزارع من جهة مدخلات الإنتاج، سواءً أكان أوروبياً أم من خارج أوروبا، والمستهلك من جهة المنتج النهائي.
أزمة قديمة-جديدة
لم تبدأ هذه الأزمة اليوم، ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية، دخلت القارة الأوروبية في سباق ضد الخراب الذي خلفته سنوات الصراع. كانت السياسات في غالبية الدول الأوروبية، مدفوعةً بالرأسمالية الحمائية ودولة الرعاية الاجتماعية، تضطر المزارعين إلى إنتاج المزيد.
في الخمسينيات، تطوّر استخدام الأسمدة الاصطناعية، ثم مبيدات الأعشاب، ثم المبيدات الحشرية، ثم مبيدات الفطريات التي أظهرت تأثيراً في العائد التجاري بسرعة. لكن لم تكن الزيادة في الإنتاجية كافية لمواجهة انخفاض الأسعار، فقد كان من الضروري زيادة المساحة المزروعة أو عدد الحيوانات التي يعتني بها كل مزارع، ما يعني الاستثمار في معدات أكثر أو مبانٍ أكبر، وهذه تستهلك المزيد والمزيد من الطاقة.
كانت السياسات العامة تنطوي على امتيازات دعم للمزارعين تغطي التوسع في الاستثمار، ليجد المزارع نفسه في نهاية الدورة الإنتاجية بدخل محترم في الحد الأدنى. لكنّ التعديلات التي طاولت السياسة الزراعية الأوروبية، لتلبية قواعد اتفاقية منظمة التجارة العالمية، قلبت كارثياً هذا النظام المستقر.
لقد انخرط المنتجون الأوروبيون في المنافسة داخل الاتحاد الأوروبي، ومع دول ثالثة من خارج الاتحاد بسبب رفع الحواجز الجمركية على المواد الخام والمنتجات النهائية، علماً أنّ القدرة التنافسية تعتمد أساساً على السعر. ولكي تكون قادراً على المنافسة، عليك أن تبيع بسعر أرخص.
هنا وجد المزارع الأوروبي نفسه في مأزق، فلم يملك شروط الإنتاج نفسها مع منافسه في إفريقيا أو أميركا اللاتينية، خاصة في طرق الإنتاج وقيمة رواتب اليد العاملة وأسعار الطاقة. ففي تحوّله النيولبيرالي العولمي، صمّم الأوروبيون النظام الإنتاجي ليعمل بصيغة «كل الأشياء متساوية» لكن اتضح أنّ الزراعة نشاط خارجي معرّض أكثر من غيره للمخاطر المناخية وتطوّر خصوبة الأرض. فلم يعد متوسط إنتاجية الأراضي في ارتفاع لأنّ التربة «تعبت» من التخصص أو المدخلات الكيميائية المفرطة أو تغيّر المناخ.
دفع هذا الوضع قطاعاً واسعاً من العمّال في الزراعة إلى البحث عن فرص عمل في قطاعات أخرى، أو الهجرة نحو المدن. في فرنسا مثلاً، يقلّ عدد المزارعين اليوم بأربعين مرّة عمّا كان عليه قبل أربعين عاماً، وقد انخفضت نسبة المزارعين من 7,1% من الوظائف في البلاد عام 1982 إلى 1,5% عام 2019.
جرّاء ذلك، جرى إطلاق سراح هذه القوى العاملة لتوفير العمّال في البداية للصناعة الفرنسية، ومنذ التحوّل النيوليبرالي، أنشئ جيش احتياط من المتعطلين عن العمل، ما جعل الحد من مطالبات الموظفين بشأن ظروف عملهم ممكناً. لذلك تبدو غالبية وحدات الإنتاج الزراعية اليوم ذات طبيعة عائلية وتموّلها الديون.
في بلدان أخرى مثل هولندا أو نيوزيلندا، يجري تمويل رأس المال التشغيلي بقروض متجدّدة، ولا يسدّد المقترضون رأس المال أبداً، بل يدفعون الفائدة فقط دون الخروج من فخ الديون. بذلك، تكتسب المصارف ومؤسسات التمويل سلطة هائلة على إدارة وحدات الإنتاج الزراعي اعتماداً على سعر الفائدة وقدرة المزارع على دفع هذه الفائدة عند استحقاقها.
أيضاً قد تكون شروط منح أو تمديد القروض مشروطة بممارسات زراعية معيّنة يرى المصرف أنّها أكثر أماناً لضمان فوائده، ولذلك إنّ أموَلة القطاع الزراعي المتزايدة تلعب دوراً رئيسياً في أزمة المزارعين الاجتماعية والنفسية. ويبدو أنّ الاتجاه هو نحو «رأسمالية زراعية جديدة» تقوم على الشركات وليس المزارع، حيث الفصل بين العمل ورأس المال بطريقة واضحة.
شبح اليمين المتطرّف
كما الشأن للطبقة العاملة التي تعاني من تراجع التصنيع وتدهور أوضاعها، فتردّ الفعل بالتصويت لليمين المتطرف، لا يبدو مصير المزارعين السياسي والانتخابي بعيداً عن نظرائهم العمّال. قبل نحو أربعة أشهر من الانتخابات الأوروبية – من 6 إلى 9 حزيران/يونيو 2024 – تتساءل وسائل الإعلام عن التكلفة والعواقب السياسية التي يمكن أن تترتب على هذه «الانتفاضة الزراعية».
السبب أنّ هذه «الانتفاضة» تغذّي اليمين الأوروبي المتطرّف الذي يتّهم الاتحاد بتفكيك السياسات الحمائية الاقتصادية، ويتّهم خصومه في الوسط واليسار والخضر بفرض كثير من المعايير البيئية الجديدة في الصفقة الأوروبية الخضراء.
في فرنسا، يقدّم حزب التجمّع الوطني بقيادة مارين لوبان، شأنه شأن حلفائه الهولنديين (حزب الحرية) والألماني (البديل من أجل ألمانيا)، نفسه كصوت لغضب المزارعين، واللافت أنّ مطالب المزارعين بتخفيف المعايير البيئية وفرض مزيد من الحمائية تلتقي مع البرنامج الاقتصادي لليمين المتطرف.
لهذا كله، لن يكون مستبعداً أن تتعزّز القاعدة الانتخابية لهذا اليمين الشعبوي بقطاع واسع من المزارعين وعموم سكان الريف الذين لا يزالون يدافعون عن نوع من المحافظة السياسية والاجتماعية والثقافية التي تجد لها صدى في أيديولوجيا اليمين المتطرف.
كاتب صحافي تونسي، وباحث مهتم بالعلوم الاجتماعية، صدر له: بنادق سائحة: تونسيون في شبكات الجهاد العالمي (2016)؛ المجموعة الأمنية: الجهاز الخاص للحركة الإسلامية في تونس (2017)؛ عشر ساعات هزّت تونس.. حريق السفارة الأمريكية ونتائجه (2019)؛ التاريخ السرّي للإخوان المسلمين في تونس (بالإنجليزية 2020).