28 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

لن تغيّر الأفكار الحالمة مصر، مقابلة مع أنديل

تميم هيكل

1 آذار 2024

«الساخرون ينجذبون دائماً نحو الخطوط الحمر والتساؤلات المربكة» (لينا خالد©)

أنديل، هو اسم فني اختاره لنفسه. يوقّع محمد قنديل رسومه الكاريكاتورية به، وكذلك يسم بقية الأعمال الصحافية والمسرحية والساخرة على غرار برنامجي راديو كفر الشيخ الحبيبة ثم أخ كبير. لا يختلف تأثير الاسم الرمزي في ما يقدّمه من أعمال، ولكنّه يثير الفضول، والالتباس لدى غير المتحدثين بالعامية المصرية، وشعوراً بالارتياب والتوجس لدى الذائدين عن لغتنا الفصحى.

يهاجم أنديل دائماً وبكل قسوة ما تقدّسه مجتمعاتنا العربية من تابوهات، ويقض مضاجع أماننا الهوياتي، ويسب أعراض أساطيرنا المؤسسة، فيظلّ حالة فنية مميّزة، وشيخاً مجدداً في صنعته، ولافتاً للنظر، ومحفزاً على الجدل والانتقاد، وهذه أمور قد تشحّ في الساحة الثقافية العربية الضيّقة.

لم يكن لقائي الأول به في عام 2019 في باريس مريحاً لي. وفي الحقيقة، لم يكن أيّ لقاء لي به مريحاً إلى الآن. تنتهي نقاشاتنا منهكة للعقل إلى حدود اللهاث وانقطاع النفس. لكن في كلّ مرة، ينفتح ذهني على أفق جديد من الأفكار، ورؤية أعمق للأمور، ومنظور نقدي جديد. ولسبب مجهول، عرض عليّ أن أؤدي دوراً في عرضه حيّ في باريس، الذي قدّمه على مسرح مدينة الفنون المواجهة لكنيسة نوتردام.

شهدت بنفسي على أسلوبه وأدواته الفنية لإخراج هذا العرض الذي لاقى نجاحاً لدى الجمهور العربي الباريسي. ولحظي العاثر، ولأسباب أكثر مجهولية، استحسن أدائي المرتجل، فيما أنا أعجز، للأمانة الأدبية، أن أنكر استمتاعي بالعمل معه. بكل أسف مستحق، أفضى ذلك إلى استمرار مشاركتي الغامضة في بعض مشاريعه الفنية المريبة، والتي قد تظهر في مستقبل ما.

شارك أنديل في شباط/فبراير الماضي في فعالية ربما هنا مع مؤسسة الشارقة للفنون المعاصرة، حيث عرَض شركة مستقبلنا: كوميديا تكنولوجية سوداء، وهو ما أثار فضولي بخاصة في غياب هذه النوعية من العروض المعاصرة جداً في عالمنا العربي. فكانت هذه المقابلة معه، وأسعى فيها إلى انتقاد أفكاره وإثارة حنقه.

 

واضح أنّك اتخذت طابعاً فنياً خاصاً في الكاريكاتير، فهل ذلك امتداد لمدرسة فنية كاريكاتيرية سابقة؟ أم يمكن القول إنّك تمثّل جيلاً جديداً انفصل عن المدارس السابقة؟

بدايةُ ما يمكن وصفه بـ «تعليمي الصحفي» كان إبان عملي في جريدة الدستور في عام 2005. وكان الفنان عمرو سليم هو مدير قسم الكاريكاتير بالجريدة وقتها، وله الفضل الأكبر في تقديمي للمجال بشكل احترافي، وتعليمي أساسيات المهنة على المستوى التقني والسياسي.

مثّل عمرو سليم معبراً وسيطاً بين جيلين: جيل الرسامين الكبار من نجوم الستينيات (صلاح چاهين، بهجت عثمان، حجازي، محي الدين اللبّاد)، وبين ما يمكن أن نسميه جيل الدستور (مخلوف، عبد الله، دعاء العدل، محمد أنور وأنا). كنّا جميعاً مطّلعين على أعمال هذا الجيل، ومغرمين بها كأطفال، إلا أن عمرو سليم شجّعنا على دراستها بتمعّن، والاستفادة مما قطعته من شوط كبير في الحلول الجمالية الصحفية، وما استكشفته من مكوّنات الثقافة البصرية المصرية، وكيف أرست ما يمكن أن نطلق عليه: الأسلوب المصري في رسم الكاريكاتير. كان لي أيضاً حظ أن ألتقي بشكل شبه دوري بالفنّان محي الدين اللبّاد، الذي كنت أكنّ له حباً وتقديراً كبيرين وتأثرت جداً بما حكاه لنا عن عمله وتجربته في الحياة.

لا أنكر تأثري الكبير بهذا الجيل خاصة في بدايتي، وهو ما ساهم في تكوين أساسيات علاقتي بالرسم الصحفي، خصوصاً في ما يتعلق بتقنيات تكوين الكادر الكاريكاتيري، صناعة الكوميديا اللفظية والبصرية والعلاقة بينهما، السرد الواضح والقدرة على توصيل مضمون الفكرة، وامتلاك المهارة اليدوية المطلوبة لإنجاز الرسم الكاريكاتيري السريع القادر على التعليق على الحدث السياسي.

إلا أنّ نقطة التحوّل بالنسبة لي كانت في تنامي اهتمامي بالتكنولوچيا وبإمكاناتها في تطوير شكل الكاريكاتير، من خلال برامج الرسوم وحلولها البصرية الجديدة. أما على مستوى المضمون، فأحاول دائماً التواصل مع جمهور مختلف على شبكات التواصل الاجتماعي، أستطيع الانخراط معه في مناقشة قضايا لم تجد مكاناً لها على صفحات الجرائد الورقية التي عملت بها في سنواتي الأولى، إما لأسباب رقابية أو لمفاهيم مفرطة في التقليدية حول طريقة إنتاج الصحافة ودور الكاريكاتير بها.

 

كل ما تقدّمه يُعدُّ نقداً للسلطة، فهل تعتبر أنّك جزء من تيار معارض لها؟ وهل ترى أنّه يمكن توصيف تيار معارض في مصر راهناً؟ وهناك بعض انتقادات لأعمالك من بعض المعارضين، فما تعليقك؟

أولاً لا أتفق في أنّ كل ما أقدمه يُعتبر نقداً للسلطة، أنا أعمل في مجالات عدّة أجرّب فيها أشكالاً مختلفة من الإبداع والمغامرة سواء على مستوى الشكل أو المضمون. الرابط بين أعمالي معظم الوقت سواء في الفن المعاصر، الصحافة، الكوميكس، أو الفنون الأدائية هو وجود الكوميديا في موقع أساسي منها، وهو أمر لا بدّ أن يتصادم آجلاً أم عاجلاً مع ثوابت من نوع ما.

هذا أمر مرتبط بالسخرية وطريقة عملها في أي مجتمع حتى في أكثر المجتمعات ديمقراطية. الساخرون ينجذبون دائماً نحو الخطوط الحمر والتساؤلات المربكة للنظام الاجتماعي ولأدوات السلطة التي تحمي هذا النظام الاجتماعي سواء أكانت سلطة قانونية تنفيذية أو سلطة ثقافية أو اجتماعية.

للأسف تمّ في مصر تدجين الكوميديا لتنحصر صداماتها في مناطق آمنة تتسق مع رؤية أجهزة الدولة عن الصالح العام، ورغم ذلك لم يأمن مضحكو الدولة من صدامات أيضاً مع المؤسسة الدينية أحياناً أو مع الجمهور المحافظ. إلا أنّ هذه الخريطة ارتبكت في 2011 في وقت كان مساري المهني في لحظة تشكّل.

النظام السياسي في مصر سواء قبل 2011، أو إبّانها، أو بعدها، هو نظام هش يفتقد للعقد الاجتماعي الواضح أو الدستورية المؤسسية لأسباب تاريخية كثيرة مرتبطة بلحظة تأسيس الجمهورية المصرية وعلاقتها بالاستعمار والعنف والاستثناء التاريخي وموقع العدالة في مكوّنات الحكم وما إلى ذلك. كل هذا يجعل تصرّفات النظام في مصر وطرق إيجاده للحلول معظم الوقت في مرمى النقد والغضب من قطاعات عريضة من الشعب قد يكون في ما بينها ثمة اختلافات شديدة العمق إلا أنّها متفقة في الحنق على النظام بل واستعدائه.

هذا الوضع يفرض على النظام في مصر أن يبادر بالدفاع عن نفسه من خلال استهداف الأصوات ذات الاستقلالية، وأُركّز هنا على كلمة استقلالية كبديل للمعارضة، فالمعارضة في فهمي للسياسة هي كتلة تتشارك في رابط أيديولوجي ما تتفق من خلاله في رفضها لسياسات كتلة أخرى موجودة في الحكم بشكل مؤقت. وهذه الكتلة المعارضة نفسها ربما تكون في الحكم في لحظة ما، وتغدو سابقتها في موقع المعارضة بناءً على هذا الترابط أو التنظيم الأيديولوجي الذي يرى في الوصول إلى الحكم غايةَ مجهوده المنظّم لتحقيق سياسات معينة، وأنا لا أرى لنفسي مكاناً أبداً في أي من الكتل السابق ذكرها.

ربما أشترك مع بعض اليساريين المصريين في مفاهيم معيّنة للعدالة الاجتماعية، ولكنّي أختلف بشدّة مع أدبياتهم ومنابع استلهامهم التاريخية والكثير من أدواتهم التنظيمية. وربما أتفق مع بعض الليبراليين في مساحات معيّنة متعلقة بالحريات الشخصية، ولكن أختلف مع أجندتهم الاقتصادية أو منطقهم الطبقي. ولا غضاضة لديّ في قبول الأصولية الإسلامية أو الفكر المحافظ كمكوّن من مكوّنات الهوية المصرية، ولكنّي لا أرى حتى الآن طريقة للتفاوض معهم بخصوص حقوق من سواهم في المجتمع.

كذلك أتفق مع النضال الجنساني من أجل انتزاع حقوق متساوية للناس بغض النظر عن نوعهم أو ميولهم، ولكنّي أتحفّظ بشدة على أساليب معينة تستخدم لإنفاذ العدالة في سياق الحرب على البطريركية. لذا باختصار، أنا أرى نفسي كفنان مستقل لا فكاك من أن تضعه الدولة على خريطة أعدائها الطبيعيين شئت أم أبيت. وفي خريطة سياسية ملتبسة كالتي نعيش فيها، ليس غريباً أن يكون في قائمة الأعداء الطبيعيين الكثيرين من أعداء الدولة أيضاً.

 

توصف بأنّك ذو توجّه حداثي في الكاريكاتير الذي تقدّمه. هل تغيّرت بعض أفكارك بعد استقرارك في أوروبا؟

ساعدني الوجود في أوروبا على التحرّر قليلاً من سطوة الوزن العاطفي للوجود في مصر ما بعد 2013، بمعنى أنّ نوعية المشاكل التي اضطررت للتعامل معها في المجتمع الأبيض أثارت لدي انشغالات وتساؤلات وغضب من نوع مختلف تجاه أشكال مختلفة من الظلم.

ساعدني ذلك على رؤية ما يحدث في مصر بشكل ما في سياق تاريخي مختلف، ليست مصر فيه محور العالم، وما يحدث لنا بصفتنا مصريين ليس القصة الأهم، ما يساعد أحياناً على التفكير في القصة والتعلم منها بطريقة موضوعية رغم المآسي العصية على التصديق أحياناً. وجودي خارج مصر ساعدني على التفكير في أدوار في الحياة غير كوني شخصاً مضطراً للتعامل مع السلطوية.

أيضاً الاتصال المباشر بمجتمع ديمقراطي هو تجربة مهمة لمن يطمح إلى دمقرطة بلاده، وذلك لإدراك الفرق بين ما نقرأه عن الديمقراطية وما يُعاش فيها. وأظن أنّ التوق العنيف في مصر ودول عربية أخرى للفكاك من الظلم عطّل قدرة الناس على تخيّل حجم المجهود والانخراط في العمل العام المطلوب لإبقاء النظام الديمقراطي على قيد الحياة.

وأعتقد أنّ ضخامة دراما لحظة تنحّي مبارك والطريقة التي تم بها توظيف هذه اللحظة سياسياً شتّتا الناس عن المجهود البيروقراطي المطلوب في النظام الديموقراطي والبعيد كل البعد عن هذه الرومانسية والدراما الثورية.

وجودي في أوروبا أثار لدي دافعاً قوياً للتعلم، خاصة عندما ألاحظ مدى بُعد الجاليات العربية عن العمل العام في أوروبا، وقلة انخراطهم في التحديات الاجتماعية والسياسية للنظام الديمقراطي وتنظيماته المؤسسية. أيضاً الشعور بالتهديد والاضطرار المفاجئ إلى ترك الوطن والخسارة السريعة للكثير من الامتيازات الاجتماعية، شكّلوا في تجربتي درساً مهماً جداً لإعادة صياغة تصوّراتي عن التغيير المنشود في مصر.

فأي تغيير مبني على إقناع/إرغام فئة معينة من المجتمع على التنازل عن امتيازات معينة لا بدّ أن يكون مبني على إدراك حقيقي لمعنى هذه التجربة على أرض الواقع. فلا أحد سيقبل طوعاً بأن يُجرّد من امتيازاته الاجتماعية أو الحماية الفئوية أو الطبقية لشخصه. كما أنّ القيم العليا الفضفاضة، والأفكار الحالمة، لن تغيّر المجتمع، وسوف تواجه بمقاومة شرسة ومتوقعة، ولا بدّ لتلك القيم والأفكار من حلول خلاقة واضحة المعالم والأهداف، وألا تركن فقط على هبات غضب استثنائية، أو عواطف شعبوية تفتقد لرؤية مركّبة عن المستقبل.

 

رغم استقرارك مدّة غير قصيرة في أوروبا، لماذا لا نجد في ما تقدّمه الآن أي نقد للمجتمع أو السياسة الأوروبية؟ ألم تلفت نظرك أي تناقضات يمكن طرحها من خلال أعمالك؟

قدّمت بعد استقراري في أوروبا عرضاً خاصاً طويلاً لشخصية أخ كبير على المسرح في مدينة باريس، وكان بعنوان حيّ في باريس. تناولت فيه تاريخ العلاقة بين مصر وفرنسا، وتجارة السلاح وحقوق الإنسان والاستعمار والاستشراق والآثار المنهوبة. كان مهماً لي من خلال هذه الشخصية والمتابعة القوية لها أن ألفت النظر إلى موقعنا في العالم ونوع الدعم الذي يقدّمه النظام العالمي لديكتاتورياتنا التي ينتقدها.

المشكلة أنّ القسوة الشديدة التي تعامل بها النظام مع المعارضة من بعد 2013 خلقت عند قطاعات كبيرة من المصريين تروما ضخمة حبست العقل المصري في منطقة غير قادرة على رؤية الذات خارج دور الضحية، وتركت مكاناً ضئيلاً جداً لنقد الذات. كما أنّ النظام المصري احتكر التموضع أمام القوى العالمية دائماً، إما في دور البطل الكاشف لمؤامرات الغرب، أو الشحاذ المستجدي لمساعداته، ما يجعل الحديث عن الغرب مسألة شديدة الحساسية محاطة بأفخاخ قومية وشوفينية كثيرة.

قدّمت أيضاً عرض ستاند آب كوميدي في برلين، تحدّثت فيه عن علاقة ألمانيا بعقدة الذنب والتفوّق الأبيض والعنصرية وموقعي في المجتمع الأوروبي بصفتي أجنبياً، بالإضافة إلى عقدة الناجي من الكارثة survival complex التي يمكن أن يشعر بها المهاجر العربي الهارب من جحيم الشرق. كما انتهيت للتو من عرض مع مؤسسة الشارقة للفنون المعاصرة بعنوان شركة مستقبلنا، أتعاون فيه مع المهندس محمد نورين لتنفيذ أجهزة تكنولوچية عالية التعقيد (ساخراً)، أُعلق من خلاله على ثقافة ريادة الأعمال الهيستيرية في مصر والشرق الأوسط وعلاقة مجتمعاتنا بالتكنولوچيا والعلم والنيوليبرالية.

لم تحقق هذه الأعمال الانتشار نفسه الذي حققته أعمالي السابقة على الإنترنت بالطبع، وربما لم يعلم الكثيرون بها أصلاً، وهو أمر متعمد، فلدي رغبة في الوقت الراهن في التركيز أكثر على فنون الأداء والاتصال المباشر مع الجمهور، حيث أجد في العروض الخاصة علاقة أقوى بالمشاهد وتجتذب جمهوراً أكثر اهتماماً بما أقدّمه لأسباب بعيدة عن الترفيه أو عن الإثارة، ما يمنحني حرية أكبر للتجريب في الشكل أو المضمون دون الانشغال بمدى شعبية الأعمال ومتابعة أرقام المشاهدات.

 

يبدو من خلال نقدك للمجتمع المصري أو العربي، لا سيما في مقاطع الفيديو الشهيرة لبرامجك، أنّك تتجاوز لفت النظر إلى مكامن الضعف، أو أنّك تتجاوز نقد قناعات وطرق التفكير نحو حالة من «كره الذات الثقافية»، أي اعتبار كل ما هو عربي أو مصري ناقصاً ومختلاً أمام النموذج الغربي المثالي. لا يعدم المشاهد الوسيلة لكي يلاحظ «تضخّم الأنا» الشديد في هذا النقد. هل ذلك صحيح إلى حدّ ما؟

نقطة الإلهام لإنتاج سلسلة أخ كبير في الأصل كانت شكلاً معيناً من التعاطي مع شبكات التواصل الاجتماعي، رأيته عند أكثر من شخص من الجيل الأكبر سناً ممن يرون في شبكات التواصل محيطاً فاسداً يشجع الشباب على الانفلات إلا أنّهم مغرومون به في الوقت نفسه وبما يمكّنهم من انتاج صور رائعة عن ذواتهم. ورأيت في هذه العلاقة بين الأنا والنحن والخطاب السياسي والشأن العام والمسؤولية الاجتماعية التربوية شيئاً مثيراً للاهتمام في فهم نفسي واللحظة التاريخية التي أعيش فيها والدور الذي ألعبه أنا نفسي بصفتي ساخراً وشخصاً ذا علاقة غريبة أيضاً مع الجمهور.

لذا كوّنت هذه الشخصية استلهاماً من موقعي كشخص يتعامل معي الكثيرون أيضاً كأخ كبير رغم أنّي لا أعلم معظم الوقت عمّا أتحدث! وهي مساحة أحب زيارتها كثيراً مثل دوري في حلقات راديو كفر الشيخ الحبيبة، مجرّد محمد جعله الجمهور أستاذ محمد.

كره الذات الثقافي هنا هو قرار المشاهد وليس قراري، فالمبالغة في مدح الذات الأجوف الذي يمارسه الأخ الكبير مستلهمة من مدح الذات الذي نستهلكه طوال النهار في مناهجنا الدراسية وإعلامنا وكرة قدمنا وفنونا، جعجعة هيستيرية خائفة وأعتقد أنّها تؤكد شعوراً كبيراً بالضآلة والتهديد. شعور يعرفه المشاهد جيداً ويرى أسبابه كل يوم في حياته اليومية. لذا فالمكاشفة التي تحدث عندما نعترف بهذه الضآلة والـ insecurity تمنح المشاهد – في حالات نجاح العمل – شعوراً في الحقيقة بالقوة وبامتلاك زمام تصوّره عن نفسه والاتصال بالواقع والنجاة من الإنكار. فنقد الذات في رأيي أوّل خطوة نحو التعلم من الأخطاء والنمو.

الغرب حاضر في الخطاب لأنّه حاضر في مناقشاتنا عن أنفسنا بشكل عام. وهو حاضر بصفته نموذجاً مشوّهاً عن «الآخر»، يتلوّن ويتشكّل بحسب غرض المناقشة. فإذا أردنا رؤية أنفسنا ضحايا نذكر الغرب الاستعماري المجرم، وإذا أردنا رؤية أنفسنا أسياداً نقول الغرب تعلّم منا وسرق حضارتنا. لا يُستدعى الغرب في أخ كبير بصفته نموذجاً جيّداً بالضرورة بل يُستدعى عند الحاجة للتأكيد على الذات الملتبسة والهشة المشغولة دائماً بالآخر، وأخ كبير يدعو بسخرية على الدوام إلى أن نتعلم من الغرب الأشياء المفيدة مثل العنصرية والقوة العسكرية وإنكار جرائم الماضي.

 

أخيراً، ما يجري في فلسطين اليوم، وبعيداً عن التحليل السياسي، هل يمكن أن يغيّر وجهة الفنّ عموماً، والكوميديا الناقدة على وجه الخصوص؟ سواء في علاقة بلداننا الأصلية أو البلدان الغربية التي نعيش فيها. وإن حدث، فكيف يمكن أن يكون التحوّل؟

التفكير في فلسطين كان دائماً تحدياً كبيراً لي كساخر، وأذكر جدالات كثيرة دخلتها مع زملائي الرسامين عن ناجي العلي حيث كانت لدي مشكلة دوماً مع كون أعماله الكاريكاتيرية تبعث على الكآبة، أمر صعب علي تقبله حيث أن قوة هذا الفن في رأيي هي في قدرته على العثور على طريقة ما للضحك على أمور مؤلمة. وهو شعور شديد الأهمية والإخلاص له يتعاظم كلما زادت الأمور إيلاماً. لذا فإنّ وضع القضية الفلسطينية في موقع استثنائي عندما يتعلق الأمر بالسخرية هو مؤشر آخر للهشاشة في رأيي. وهي مناقشة شديدة الحساسية بالطبع، فحجم الظلم المرتبط بالقضية الفلسطينية استثنائي بكل تأكيد ولكن في هذا سبب أدعى - على الأقل لي شخصياً – من أجل بذل جهد أكبر في العثور على طريقة للضحك.

قولنا إنّ كل شيء يقبل المزاح ما عدا القضية الفلسطينية هو مثل قولنا إنّنا مع الحرية ولكن بحدود. الفيصل في الأمر في النهاية بالطبع هو فحوى هذا المزاح ومدى خصوصيته وقدرته على إنتاج شعور جديد أو فكرة جديدة ومدى قدرته على استفزاز أفكار الناس بشكل إيجابي غير كسول.

أنا حالياً أُحضّر لعرض مسرحي في لندن بالتعاون مع شبكة الحدود، نحاول من خلاله التعليق على مسألة: لماذا نتكلم عن فلسطين؟!، ونستهدف من خلاله التركيز على الطريقة التي توفّر بها القضية الفلسطينية فرصة لنا للتعريف عن أنفسنا والإعلان عن مواقفنا المبدئية والأخلاقية سواء أمام «الغرب» أو أمام بعضنا البعض أو حتى أمام أنفسنا. نحاول من خلال هذا العرض استكشاف أشكال مختلفة من الاختطاف تحدث للسردية الفلسطينية من قبل الحلفاء قبل الأعداء ونطرح على أنفسنا أسئلة صعبة حول مدى استغلالنا للقضية – عن قصد أو لا – لتحقيق مصالح شخصية.

نسعى في هذا العرض إلى فتح الباب لقدر من النقد الذاتي المفتقد تحت وطأة ظلم بهذا الحجم، إلا أنّه مطلوب لتشجيع أنفسنا على الخروج من خانة الضحية التي يحلو للمستعمر أن يرانا فيها إما بصفته قاهراً لهذه الضحية أو مشفقاً عليها. الشخصيات الأساسية في هذا العرض والكثير مما سيجري تناوله مستوحى من أنماط معيّنة من العرب المتواجدين في أوروبا والمحتكين بالواقع الأوروبي، سواء بصفة صنّاع فن أو صحفيين أو أفراد عاملين في الاقتصاد والحياة العامة. سيشاركون في ندوة حول القضية، لتتحوّل (هذه الندوة) إلى سيرك من الانفعالات المتناقضة في النهاية.

تميم هيكل

صحافي مصري ومنتج أفلام وثائقية.

×