7 تشرين الأول 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

أنطونيو نيغري، رثاء المخرب الأخير وهجاؤه

أحمد نظيف

23 كانون الأول 2023

يرى الشيوعية على أنّها معرفة المستقبل الذي لدينا القدرة فيه على أن نكون أحراراً

كنّا في جلسات الأصدقاء نتحدث عنه وكأنه غاب منذ سنوات. لكنّه مكث في الواقع يكابد الوجود إلى مشارف التسعين. لا يخفي المرء شغف سنوات الشباب الأولى بأنطونيو نيغري وبفلسفته التحريضية. كانت كتبه ونصوصه الطويلة والمعقدة لجيلي، مطلع هذه الألفية، ساحرة كالوحي. سحر يرتبط بذاتية الرجل أكثر من ارتباطه بقدرته الفلسفية: الراديكالي الملاحق من «العدالة البرجوازية الإيطالية»، محرر لاهوت العنف الثوري الأحمر، ثم المعتقل الذي يكتب من زنزانته عن الإمبراطورية وعن عولمة النضال الاجتماعي.

رأيته مرّة واحدة وكان ذلك في بداية هجرتي إلى فرنسا. يجلس بجسد منهك فوق منصة الخطباء خلال تجمع نقابي لعمال السكك الحديدية. متقّد الذهن وفي خطابه بقايا ماركسية لينينية رثة. كان ذلك قبل نحو خمسة أعوام من يوم السبت في 16 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، الذي أعلِن فيه رحيل المخرّب الأخير، الثوري الإيطالي الذي راحت صورته تهتز عندي عبر السنوات.

 

بداية توجه الانشقاق

هو واحد من آخر الدعاة الرئيسيين للماركسية الثورية في عصرنا. تتبع رحلتاه الفكرية والسياسية مد وجزر الدورات السياسية الكبرى في أوروبا منذ الخمسينيات إلى اليوم. كان مهتماً دائماً بأطراف العالم لكنّه ظل «مفكراً أوروبياً»، بالمعنى الذي يحيل على البياض الأورومركزي.

ولد مطلع الثلاثينيات في أسرة علمانية بمدينة بادوا التابعة لإقليم فينيتو شمالي إيطاليا. انتمت والدته إلى طبقة ملاك الأراضي من الفاشيين فيما رحل والده الشيوعي باكرا وكان هو ما زال ابن عامين. ثم لاحقاً شرع في اكتشاف عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ضمن حلقة شبابية، أفرادها ذوو نزعة كاثوليكية يسارية وكان منهم أمبرتو إيكو وإيمانويل كولومبو.

أخذت هزيمة الفاشية به. وفيما تشكلت مواقفه باكراً في ضوء خريطة المنتصرين والمهزومين في الحرب، حافظ دائماً على مواقف إيجابية تجاه إسرائيل التي وصلها في عام 1954. فالكيبوتسات التي نشأت فيها النواة الأولى للكيان الصهيوني بوصفها تعاونيات زراعية وعمالية، مثّلت «الجنة الاشتراكية» التي يحلم بها شيوعيون كثر، لا سيما من الشباب الأوروبي.

وفي عقد الخمسينيات ذلك أنهى الرجل تجواله حول العوالم المحاذية للمركز الأوروبي: المشرق العربي وشمال إفريقيا. كما اختتم تعليمه الجامعي بأطروحة عن التاريخية الألمانية، وغادر الدراسة لوكاشياً عتيداً، لتأثّره بالمفكر الماركسي جورج لوكاش. كما حافظ في الأثناء على علاقات تنظيمية مع الحزب الاشتراكي في بلده إيطاليا.

ولكن لاحقاً في بداية الستينيات، ستلقي تحوّلات القيادة السياسية في الاتحاد السوفياتي بظلال ثقيلة على الحركة الشيوعية الأوروبية. سيتحوّل الانشقاق عن الحزب الشيوعي إلى موضة شبابية في كل بلد، لها ما يسندها من واقع سوفياتي يتجه بقوّة نحو هيمنة البيروقراطية والنزوع نحو «التسويات التاريخية» مع الرأسمالية. فتفرّقت النخب الأوروبية المنشقة أيدي سبأ، بين العودة إلى الخط الاشتراكي الديمقراطي أو التوجه نحو الماوية الصاعدة.

غلاف كتاب الهيمنة والتخريب: حول المنهج الماركسي للتحوّل الاجتماعي (1978)

غلاف كتاب الهيمنة والتخريب: حول المنهج الماركسي للتحوّل الاجتماعي (1978)

إلا أنّ نيغري سلك طريقه مع منشقين آخرين نحو خط مستقل يراهن على الطبقة العاملة المكتفية بنفسها عن سواها من التنظيمات والأحزاب والنقابات. وبعد ثورة أيار/مايو 68 في فرنسا بدأت أفكاره تتجذّر أكثر فأكثر، بخاصة مع تشكيله مجموعة فكرية في شمال إيطاليا حول المجتمعات العمّالية الأساسية في البلاد. ثم شرع منذ مطلع السبعينيات في بلورة نظرية الاستقلالية العمّالية الذاتية، التي تستمد جذورها من ماركس ومن المقولة التي جسّدتها عملياً مجالس العمّال السوفياتية: «القدرة السياسية للطبقة العاملة».

 

لكنّه كان يرى أنّ مجالس العمّال الثورية يجب أن تكون مستقلة ذاتياً عن الحزب وعن النقابة. وقبل ذلك، لا بدّ لهذه الطبقة العاملة أن تكون مستقلة عن مجال رأس المال، بهدف: خلق مجال مستقل للعمّال لا تحكمه قوانين السوق، وبالاستفادة من تطوير أشكال جديدة من التواصل الاجتماعي والتضامن. فالنقابات الخاضعة للمجال الرأسمالي لا تسمح بتحرّر الحركة العمّالية من رأس المال ذاته، والأحزاب محكوم عليها بالضرورة التوصل إلى تسوية، إلى الحد الذي تقبل فيه اللعبة السياسية.

 

العنف قيمة أساسية

اللافت في نظرية أنطونيو نيغري لم تكن فرادتها، إذ إنّها كانت دائماً حاضرة في أعمال مفكرين ماركسيين سابقين، بدايةً من ماركس وإنغلز. ما كان لافتاً هو رؤيته للعنف بصفته سبيلاً من سبل فرض الاستقلالية. وقد دافع الرجل عن أطروحات جذرية تدور حول رفض العمل ضمن علاقات الإنتاج الرأسمالية، وكذلك حول الحزب والتخريب، في كتابه الشهير Il dominio e il sabotaggio: sul metodo marxista della trasformazione sociale [الهيمنة والتخريب: حول المنهج الماركسي للتحول الاجتماعي] 1978. وتضمّن الكتاب على وجه الخصوص تأملات حول العنف السياسي، بما في ذلك العنف «البروليتاري» الذي يعدّ ضرورياً: «مكوّن ضروري وأساسي للبرنامج الشيوعي».

رأى نيغري أنّه في ظل استقرار الأزمة (اللاعدالة الاجتماعية)، يكتسب العنف قيمة أساسية. واعتبر أنّ المادية التاريخية تحدّد ضرورته في التاريخ: «فنحن نثقله بحالة الطوارئ الطبقية الحالية، ونعتبره وظيفة تكتسب شرعيتها من خلال تمجيد توازن القوى في الأزمة، ومن خلال إمكانات التنظيم الذاتي للبروليتاريا».

ويضيف: «كفى نفاقاً برجوازياً وإصلاحياً ضد العنف! حتى الأطفال يعرفون أنّ النظام الرأسمالي يقوم على العنف وأنّ هذا العنف ليس بالتأكيد نظيفاً مقارنة بالعنف البروليتاري. ليس من قبيل الصدفة أنّ جميع عمليات الحرمان المحروسة بالعنف البرجوازي مبنية على التهديد بمزيد من العنف».

ويتابع: «[...] إنّ إضفاء الشرعية على العنف يعني، بالنسبة إلى البرجوازية، بناء أنظمة قانونية واقتصادية وإدارية. كل نظام اجتماعي برجوازي هو إضفاء الشرعية على العنف. لقد كان التطوّر الرأسمالي هو المصدر "العقلاني" لإضفاء الشرعية على العنف في الأنظمة القانونية».

 

من الألوية الحمر إلى سبينوزا

في موازاة التبلور النظري للعنف بصفته وسيلة على يد أنطونيو نيغري، كانت إيطاليا تعيش في السبعينيات حالة مخاض يساري راديكالي غير مسبوقة، شأنها شأن دول أوروبا الغربية. ظهر في حينه اليسار الراديكالي المسلح ممثلاً في تنظيم الألوية الحمر بقيادة ماريو موريتي، وكان ذا نزعة أممية تكافح الإمبريالية العالمية ولكنها تنتهج أيضا الكفاح المسلح سبيلاً لإسقاط النظام الرأسمالي الإيطالي.

رغم وعي الجميع داخل اليسار بالفروقات الجذرية بين مجموعة نيغري العمّالية الاستقلالية Potere Operaio وبين الألوية الحمر، فإنّها لم تكن تعني شيئاً بالنسبة إلى النظام السياسي الذي وضع الجميع في خندق واحد. فكان اختطاف الألوية زعيم الحزب الديمقراطي المسيحي رئيس الحكومة الأسبق ألدو مورو في قلب روما في آذار/ مارس 1978، ثم اغتياله في 9 أيار/ مايو، حدثين سيقلبان حياة نيغري.

وحين ستشرع الأجهزة الأمنية في حملة اعتقالات واسعة بقيادة النائب العام القاضي باسكال كالوجيرو، سيتم خلال عملية تفتيش في آذار/ مارس 1979 ضبطَ أرشيف نيغري الذي تشير أحد مخطوطاته إلى أنّه التقى ريناتو كورسيو، إحدى الشخصيات المهمة في هرمية الألوية. وسيستنتج القاضي من هذه المخطوطة قناعة بــ «وجود هيكل كبير للعمّالية الاستقلالية، يعمل بانسجام مع الألوية الحمر بصفتها مجموعة عسكرية مقاتلة تابعة للتنظيم العمّالي». وبالتالي فإنّ «الإرهاب في إيطاليا مصدره منظمة واحدة توجهها قيادة واحدة من خلال استراتيجية تخريبية واحدة».

ستقود نظرية القاضي كالوجيرو حول التشابك بين الألوية وبين المجموعات العمّالية المستقلة، إلى اتهام نيغري بالتورط في قتل ألدو مورو، وإلى إخضاعه لحبس احتياطي امتد حتى عام 1983. ولكن في السجن، سيعيد فيلسوف التخريب اكتشاف سبينوزا، وسيكتب عنه كتاباً من أجود كتبه الفلسفية: L’Anomalie sauvage. Puissance et pouvoir chez Spinoza [الشذوذ البري : القوة والسلطة عند سبينوزا] 2007.ثم راح يبرز جنباً إلى جنب مع مفكرين مؤثرين أمثال ألتوسير ودولوز، بصفته شخصية مركزية في حركة يشار إليها غالباً باسم السبينوزية الجديدة.

يستعيد نيغري لحظة اكتشاف سبينوزا داخل سجنه في مقابلة مع أجون حمزة وفرنك رودا نشرت قبل عام، فيقول:

«لقد بحثت عند سبينوزا على وجه التحديد ووجدت مبدأ الحرية. كوننا، حالة مهزومة... أخبرنا سبينوزا أنّ الإلهية لا تعني التعالي، بل بالأحرى أفقاً متعدداً للمحايثة، تسكنه طرق لا حصر لها من الوجود، وبالتالي مع قدرة لا حصر لها من التفرّدات لبناء العالم، ليس كأفراد منفردين ولكن كمجموعات. عندها فقدَ إلحادي حتى مظهر النفي الدقيق للتعالي: لقد تم بناء الإله السبينوزي من أسفل الأخلاق، لذلك كانت المحايثة هي الحرية البنّاءة».

يرجع نيغري إلى سبينوزا ليقرأه في ضوء اهتماماته الفلسفية والسياسية، ويجادل بأن ميتافيزيقاه تمثّل شذوذاً في تطوّر الأيديولوجية البرجوازية. يقترح ضمناً قراءة جديدة لتاريخ الفكر السياسي للحداثة، عكس قراءة التيار الكلاسيكي للفكر البرجوازي، الذي يشكّل من هوبز إلى روسو إلى هيغل مفهوم السيادة. فثمّة تيار تخريبي يبدأ من مكيافيلي مروراً بسبينوزا ويصل إلى ماركس، يأخذ الحياة والعقل والحرية على أنّهم نقيض النظام الرأسمالي.

ابتكر سبينوزا هذا المنظور للتخريب النظري في القرن السابع عشر: القوّة البشرية في مواجهة قوة رأس المال، وهنا كان ميدان نيغري.

 

العولمة، أو سجنه الجديد

لكن كم يبدو التاريخ ماكراً! ففي السجن أيضاً، سيغامر أنطونيو نيغري، الرجل الذي كافح طويلاً ضد الإصلاحية البرلمانية، بدخول الانتخابات بصفتها حيلةً لكسب حصانة برلمانية تحرّره. وهو ما حصل فعلاً بعد ترشحه على رأس قائمة الحزب الراديكالي وفوزه. لجأ إلى الحصانة بوصفها محررةً ثم أخذ طريق المنفى نحو فرنسا حيث لاذ بما صار يُعرف بـ «مبدأ ميتران»، أي العقيدة السياسية التي سلكها الرئيس الاشتراكي الفرنسي في رفض تسليم قادة وناشطي اليسار الراديكالي الإيطالي، المسلّح منه وغير المسلّح.

وهنا يلوح مكر التاريخ أكثر وضوحاً: حين يلوذ أقصى اليسار بالاشتراكية الديمقراطية المتبَرجِزة. ففي فيء «مبدأ ميتران» سيعيش نيغري عصرَه الذهبي في باريس أكاديمياً وكاتباً وفيلسوفاً فيما كانت الشيوعية السوفياتية تتوارى خلف الضباب. لكنه لم يكن من النوع الذي يُسلّم بالهزيمة.

فحاول في عام 1989 استكشاف طرق جديدة لتحليل التطوّر الرأسمالي في عصر ما بعد الحرب الباردة، في كتابه The Politics of Subversion: A Manifesto for the Twenty-First Century  [سياسة التخريب: مانيفستو للقرن الحادي والعشرين].

ولكن حين سيرحل ميتران عن العالم سيقرّر الفيلسوف التخريبي مواجهة العدالة «البرجوازية الإيطالية». فأقفل عائداً إلى بلاده في عام 1997، وإلى السجن الذي لن يخرج منه إلا في 2003.

نيغري خلف القضبان في إحدى جلسات محاكمته بداية الثمانينيات

نيغري خلف القضبان في إحدى جلسات محاكمته بداية الثمانينيات

غدا نيغري أكثر اهتماماً بالعولمة داخل سجنه الجديد. وكان رأيه مختلفاً عن الرأي اليساري السائد بخاصة لاعتباره أنّ العولمة كانت شيئاً في غاية الأهمية بالنسبة إلى شعوب العالم الثالث. فقد قامت بانتشال الملايين من الناس من الفقر من خلال عولمة الأسواق، التي استفاد منها الغرب كثيراً. لكنّ الذي صمّم العولمة لم يعد قادراً، وفقاً له، على السيطرة عليها اليوم، وهذه هي المشكلة الكبيرة التي تواجهها. وهي الأفكار التي طوّرها نيغري في كتابه المشترك مع مايكل هاردت Empire [الإمبراطورية] 2003.

يضع الإيطالي ورفيقه في هذا الكتاب إطاراً نظرياً عاماً يجعل من الممكن تحليل الأشكال الجديدة للسلطة الرأسمالية: عولمة دوائر الإنتاج والتبادلات الاقتصادية والثقافية. هذا الوحش السياسي الجديد الذي يحكم العالم يفهمه نيغري وهاردت بشكل أساسي من خلال مفهوم الإمبراطورية: «هي تظهر اليوم بمثابة المركز الذي يدعم عولمة شبكات الإنتاج وينسج شبكة مكتنِفة برحابة من أجل محاولة احتواء علاقات السلطة كلها في نظامه العالمي».

يرى الكاتبان أنّ السمة الرئيسية للإمبراطورية هي أنّها رأسمالية في الأساس، ويجب أن تُبنى على رماد سيادة الدولة القومية. لكنّها في الوقت نفسه ليست مرادفة للإمبريالية لكونها ذات طبيعة سيادية من نوع آخر. فهي في المقام الأوّل: «جهاز حكم لا مركزي وغير إقليمي، يدمج تدريجاً مساحة العالم بأكمله داخل حدوده المفتوحة والمتوسعة بشكل دائم».

وهي ولدت ضمن واقعين، جيوسياسياً واقتصادياً، مكوّنين من ثلاث تحوّلات جذرية: أولاً، مسار إنهاء الاستعمار، الذي أعاد تشكيل السوق العالمية تدريجاً على طول خطوط هرمية بدءاً من الولايات المتحدة؛ ثانياً، اللامركزية التدريجية للإنتاج؛ ثالثاً، بناء إطار للعلاقات الدولية ينشر في جميع أنحاء العالم النظام الانضباطي للإنتاج والمجتمع في تطورهما المتتالي»، ولذلك كانت هذه الإمبراطورية نسيجاً مختلفاً عن الإمبريالية.

هكذا، في الوقت الذي كان فيه العديد من المفكرين ذوي الميول اليسارية يعربون عن مخاوفهم بشأن صعود تيار المحافظين الجدد، قدّم نيغري وهاردت منظوراً مختلفاً للتطوّر الرأسمالي غير منسجم مع تحليل الإمبريالية الذي قدّمه اليسار الكلاسيكي. وفي عمل لاحق، طوّر الثنائي أطروحتهما حول الإمبراطورية في كتاب Multitude: War and Democracy in the Age of Empire [التعددية: الحرب والديمقراطية في عصر الإمبراطورية] 2004، بالتأكيد هذه المرّة على أنّ الحرب غدت عنصراً ضرورياً ومركزياً في النظام العالمي الإمبراطوري حيث يُنظر إلى القوّة العسكرية على أنّها لا بدّ منها لعمل السوق العالمية. كما يستكشف الكتاب الإمكانية الناشئة للديمقراطية العالمية، وهو مفهوم تم النظر فيه للمرة الأولى.

 

الغروب

سيختتم الرجلان في عام 2009 ثلاثيتهما عن الإمبراطورية بكتاب: Commonwealth [الكومنولث] الذي دار حول مفهوم ديمقراطية الجمهور وأنّه يمكن تصوّرها وتحقيقها عبر «المشترك الجماهيري». يجسد مصطلح «المشترك» الثروة المادية للعالم، بما في ذلك الهواء والماء والتربة وموارد الطبيعة. وهي ثروة تمتد إلى المنتجات الاجتماعية الضرورية للتفاعل والإنتاج، مثل المعرفة واللغات والرموز والمعلومات والمؤثرات. 

يقدّم نيغري في الثلاثية أطروحة الحداثة البديلة بتشديده على تقادم البنية الطبقية القديمة وديناميكيتاها. يبتعد عن الديالكتيك التقليدي ويعرض منطقاً جديداً للتاريخ يتميّز بتنوّع لا نهاية له بدلاً من التجانس الطبقي المتزايد. وهو في الحقيقة نهج يدل على خروج نيغري على العقيدة الجدلية، أي تمثّله للشيوعية كما عرفها قبل عقود.

حتى أنه حين سئل قبل سنوات قليلة عمّا يعني له الانتماء إلى الشيوعية اليوم، قال: «ما كان يعني بالنسبة إليّ عندما كنت صغيراً: معرفة المستقبل الذي لدينا القدرة فيه على أن نكون أحراراً ونعمل أقل ونحب بعضنا البعض (...) يتعلّق الأمر بإطعام الجميع وبإسعاد الناس. الشيوعية هي عاطفة جماعية مبهجة وأخلاقية وسياسية تحارب ثالوث الملكية والحدود ورأس المال».

لا بدّ للمرء أن يتساءل عندما يتأمل هذه العاطفة الغروبية، عن ذلك الشاب اليافع الذي غدا ماركسياً داخل كيبوتس صهيوني قبل سبعة عقود، فيما اقترب لسنوات من الأولوية الحمر ذات النزوع الأممي نحو الدفاع عن قضية فلسطين.

كان نيغري قد وجد نفسه داخل كيبوتس نحشونيم غير البعيد عن تل أبيب حين وصل إسرائيل في منتصف الخمسينيات. وقد عاد إلى تلك المرحلة قبل سنوات في مقابلة مع مجلة Conricerca الثورية الإيطالية، قائلاً إنّ بلوغه المستوطنة الصهيونية كان «لحظة تعليم سياسي عظيم بالنسبة إليّ، لأنني عشت في كيبوتس شيوعي». ويضيف: «في الواقع، لم أكن عملياً أعرف شيئاً عن الماركسية، وفي الكيبوتس تعلمت الممارسات الشيوعية الراديكالية حيث لم تكن هناك عائلة، ولم يكن هناك شيء، لم يكن هناك سوى المجتمع والعمل».

لقد حافظ على تلك النظرة الطفولية الباكرة نحو ما تمثِّله «جنة الكيبوتس» من عوالم سحرية تعاونية للعمّال والمزارعين، دون أن يكلّف نفسه النظر خارج الأسوار قليلاً ليشاهد أكوام البشر المطرودين من أرضهم. الأرض نفسها التي غدت كيبوتساً.

فلا يبدو له الصراع في فلسطين ذا بال فيما كان المطلوب منه الكثير بوصفه مفكراً ثورياً، باعتقادي. قد لا يكون منحازاً إلى إسرائيل ضد فلسطين كونه خارج منطق الانحياز تماماً. ولكنّه منغمس في تحليل الوجود من منظور الطبقة والسلطة والإنتاج، فلا تعني له الصراعات القومية شيئاً إلا بوصفها حيلةً أو عائقاً أمام تطوّر الصراع الطبقي إلى مداه الثوري.

لكن في هذا الوقت بالذات، حين تتحوّل الطبقات جميعها وسلاسل الإنتاج ومعاني الوجود في رقعة جغرافية ضيّقة ومحاصرة مثل غزّة إلى رماد، كيف يمكن لأحدنا أن يفكّر في نيغري وفي عبقريته وفي ثوريته دون أن يحضر موقفه الغامض من فلسطين محاكِماً تلك الثورية؟ ماذا لو وقف نيغري يوماً وسط ركام غزّة؟ هل كان سيرى كيبوتس ناحل عوز القريب جنّةً؟

أحمد نظيف

كاتب صحافي تونسي، وباحث مهتم بالعلوم الاجتماعية، صدر له: بنادق سائحة: تونسيون في شبكات الجهاد العالمي (2016)؛ المجموعة الأمنية: الجهاز الخاص للحركة الإسلامية في تونس (2017)؛ عشر ساعات هزّت تونس.. حريق السفارة الأمريكية ونتائجه (2019)؛ التاريخ السرّي للإخوان المسلمين في تونس (بالإنجليزية 2020).

×