28 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

السودان، قذفتنا الحرب بفنّها الموروث

شمائل النور

19 أيلول 2023

تطغى أغاني الحماسة التحريضية خاصةً بسبب أصالتها في الموروث الثقافي السوداني (Reuters)

هي الساقية نفسها إنّما بعيون فجّرتها حرب الخرطوم المستمرة منذ نحو خمسة أشهر. فجاءت أغنية الحماسة «ملوك القل» لتتبنى بمفرداتها الحربية المحمولة على إيقاع شعبي حماسي الحسمَ العسكري حلاً وحيداً وموقفاً صائباً. ثم ألقت المغنية ميادة قمر الدين سؤالها الاستنكاري في وجه سيل المنتقدين والجدل العام الذي ساد وسائل التواصل: «من قال إنّ مهمة الفن الدعوة إلى السلام فقط؟».

ليست الوحيدة التي تغنّت بـ«حرب 15 أبريل» مشدّدةً على أنّ «لا تفاوض». فقد سبقتها المغنية الجماهيرية هدى عربي التي أصدرت أغنية «جيش الوطن»، وكذلك المغنية الذائعة الصيت ندى القلعة التي تغنّت في «مطر الحصو» بسلاح الجو الذي يعتمد عليه الجيش بصورة خاصة في حربه على قوات الدعم السريع. وقد انتشرت أغنيات أيضاً، أو بالأحرى مقاطع فيديو في وسائل التواصل، تُوالي هذه القوات وقائدها محمد حمدان دقلو.

ثمة من حاولن الوقوف على الضفة الأخرى، فرُحن يوظفن الأغاني ضد الحرب، على غرار عائشة الجبل التي أفردت في «الحرب الضرب»: مساحة حزن وألم إزاء الخراب والدمار. وليس بعيداً عنها تبرز إيلاف عبد العزيز التي حققت أغنيتها «بكرا الهم يفوتنا» انتشاراً واسعاً بعدما غنّت للأمل والعودة إلى الحياة الطبيعية في أرجاء ولاية الخرطوم.

غير أنّ أغاني الحماسة تطغى خاصةً بسبب أصالتها في الموروث الثقافي السوداني. فلم تحد قمر الدين وزميلتاها عن المألوف. ولدت أغانيهن في مجرى موروث يذخر بأغاني الحماسة وبسلفها الشعر الغنائي الشعبي اللذين يحرّضان على القتال ويتباهيان بالموت في ساحات الوغى. ولا تزال هذه الأنواع الأكثر رواجاً وشعبية وقدرة على إلهاب مشاعر السودانيين، حتى يمكن القول إنّ أشهرها تبدو كأنّها كُتبت اليوم.

 

 

 

تعدّ «بتريد اللطام» تاريخياً من بين أبرز ما صرنا نعرِّفه بـ«أغاني الحماسة». كُتبت في عبد القادر ود حبوبة، أحد قادة الثورة المهدية التي قاتلت في نهاية القرن التاسع عشر المستعمر، وأعدِم عام 1908 في سوق بوسط السودان. تصف بسالته باستعراض مهاراته القتالية والتغزّل بقدراته خاصةً جزِّ الرقاب بالسيف. فلم تُكتب قصيدة غنائية في ذلك الزمن إلا وكان بريق السيف فيها لامعاً، قبل أن تحلّ محله آلات الحرب المعاصرة مثل المدافع والمقاتلات.

 

بتريد اللطام أسد الكداد الزام

هزيت البلد من اليمن للشام

سيفك للفقر قلام

 

على نسق هذه «الملحمة» كما يبالَغ في وصفها أحياناً، والتي نظمتها امرأة هي شقيقة ود حبوبة، تأتي مناحة «ما هو الفافنوس» لبنونة بنت المك نمر، آخر ملوك قبيلة الجعليين المنتشرة خاصة في وسط البلاد وشماليها، وخاضت حروباً على المستعمر. سيؤديها لاحقاً الموسيقار عبد الكريم الكابلي بالموسيقا الحديثة، فما كتبته بنونة في أخيها يُعدّ من أيقونات ذينك الشعر والغناء اللذين سيشهدان تحوّلاتهما خاصةً بعد ولادة دولة الاستقلال في 1956 واندلاع صراعاتها توالياً، ليرسوَا على شكل أغاني الحماسة التي عرفناها في آخر عقدين على أقل تقدير.

 

كوفيتك الخوده أم عصا بولاد

ودرعك في أم لهيب زي الشمس وقّاد

وسيفك من سقايته إستعجب الحدّاد

وقارحك غير شكال ما بقربه الشدّاد

 

تتحسر بنونة على حال شقيقها الذي وافته المنية وهو في فراش المرض، فيما كانت ترجو له أن يموت رجلاً يتشّح بالدماء في ساحات الوغى. لكنّ حاله انتهت كحال «سيف الله المسلول»، الصحابي خالد بن الوليد حين تأسى على موته في الفراش هو أيضاً: «ما في جسدي موضع شبرٍ إلا وفيه ضربةٌ بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وهأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء».

 

 

 

بدورها، تعدّ «السيل بوبا» من الأيقونات أيضاً، وهي من أشهر الأغاني التي سيؤديها عبد الكريم الكابلي. كُتِبت، وفق المروي عنها، في أحد ضباط قوة دفاع السودان التي ستتحوّل إلى القوات المسلحة بعد الاستقلال، وتتناول شجاعته إزاء المستعمر الذي رمزت إليه بـ«أصحاب العيون الخضراء».

 

تغنى ليك ظبية الحدر

ما بتبلع من اصلو مر

المكنه فوقو بتكاكى

والمدفع تحتو بآخر

لا بيخاف ولا بيتر

قدام العينهم خضر

 

سيتغنى مطربون كبار مثل عثمان الشفيع وكمال ترباس بالجيش في زمن الدولة الوطنية، في أغنيات على غرار «الحارس مالنا ودمنا» و«جنود الوطن» وغيرهما. كان يُنظر إلى هذه المؤسسة على أنّها «صمّام أمان البلد»، لكن مع ارتفاع الصوت الداعي إلى الديمقراطية والدولة الحديثة إبّان الانتفاضة على عمر البشير، سيستعر الصراع، السياسي في أوّله، بين المنتفضين وبين أنصار دولة موروثة يمسكها الجيش بيده العليا سياسياً واقتصادياً وحتى اجتماعياً، مستفيداً من زخم شعبي لا ينقصه.

وسيهزّ البطش والتنكيل الذي لاقاه دعاة البناء الجدد، ثم الارتطام الدموي بهم، الصورة الجماعية لـ«الحارس مالنا ودمنا». فصار البعض ينظرون إلى الجيش بوصفه عدواً، فيما بنى آخرون على مبدأ «الحفاظ على الدولة» ليذكوا المعارك بأغاني الحماسة، مثل التي غنتها ميادة قمر الدين ولاقت احتفاء وتأييداً ظاهرين من الأنصار.

كانت الفتيات والنساء يعلنّ بزغرودة فحسب انطلاق المواكب في ثورة ديسمبر 2018 (AFP)

 

لعلّ اللافت أنّ الصوت النسائي أدى غالبية هذا اللون تاريخياً كتابةً وغناءً. قد يُفسَّر الأمر بتأثير المرأة في المجتمع القبائلي في تحريض الرجال والدفع بهم إلى ساحات القتال، وهي ثقافة لا تحدّها جغرافيا معيّنة في هذا البلد المترامي الأطراف. إذا كانت منتشرة في وسط السودان وشماليها بصورة خاصة، ففي الغرب حيث دارفور وكردفان، تُعرف هؤلاء الشاعرات والمغنيات بـ«الحكّامات». لا يزال أثر الحكّامة كبيراً هناك، سواء أفي السلم أم في الحرب. فليس ببعيد مثلاً، في نهاية كانون الثاني/يناير الماضي، انتحر شاب في ولاية شرق دارفور لم يتجاوز الثامنة عشرة بعدما رفضت إحدى الحكّامات الرقص معه في حفل زواجه وفقاً لما هو متعارف عليه، «ما أشعره بالإهانة وسدّد لنفسه ثلاث طعنات قاتلة».

لا ترفض الحكّامة الرقص في العادة إلا مع من تلاحقه العيوب مثل أن يتصف الشخص بالجبن أو البخل أو الخوف، أو أن يكون لصاً، وفق حديث سابق للصحافي المحلي محمد صالح البشر. «ستلاحق هذه الصفات أي شخص رفضت الحكّامة الرقص معه حتى لو لم تكن فيه»، يقول البشر مؤكداً. وتتميّز الحكّامة بسرعة البداهة والشجاعة والصدق وفق حواء محمد أحمد، وتعيش بلا قيود مجتمعية مثل عدم مجالسة الرجال، «وترتحل في الحرب عادةً مع المقاتلين أينما ذهبوا لتكون رقيباً على من ثبت ومن فرّ منهم من المعركة، وبعدها تنظم شعراً بالتمجيد أو الهجاء».

قد يكون هذا الدور النسائي انعكاساً غير صريح لمدى حاجة المرأة في المجتمعات التقليدية إلى حماية الرجل. لكن للغرابة حتى في ثورة ديسمبر 2018، التي تقدّمها مثقفون من قطاعات مهنية وفنية مختلفة، كانت الفتيات والنساء يعلنّ انطلاق المواكب الاحتجاجية بزغرودة فحسب. غدت الزغاريد مثل الساعة حين تدقّ معلنةً الموعد، ليبدأ فوراً الهتاف ويمضي المتظاهرون إلى وجهات راح يخبو أفقها. كان ذلك قبل حلول الكارثة بحربٍ ينبئ انتشار أغاني الحماسة باستمرار التعبئة لها.

شمائل النور

صحافية سودانية.

×