4 أيار 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

لبنان دولة مدنية، دراسة دستورية وغاية سياسية

وسام اللحّام

12 أيلول 2023

يسعى الكتاب إلى إماطة اللثام عن خدعة يروّجها «نظام الزعماء» (تصوير وسام متى)

طلبَت مني الهيئة اللبنانية للتاريخ، خلال مؤتمر مغلق حول الذاكرة اللبنانية، إلقاء كلمة تتناول طبيعة الدولة في لبنان. وكم كانت دهشة الحضور المتألف من مؤرخين، أنا الوحيد المختص بالقانون الدستوري بينهم، كبيرة عندما قلت إنّ لبنان اليوم هو دولة مدنية مكتملة الأوصاف!

ثم طلب مني صاحب دار سائر المشرق أن أتوسع في البحث، وأجعل من هذه المحاضرة كتاباً يشرح الطبيعة القانونية للدولة اللبنانية. تلقفت الطلب بسرور، وأنا الذي أغتنم أيّ فرصة تتيح لي تحويل أبحاثي إلى دراسات مطبوعة، نظراً إلى تعلقي بالنشر الورقي وشغفي برائحة الكتب وملمسها وحفيف الأوراق التي أحسّ وجودها المادي عندما أقلّبها. كأنّ الأفكار لا يمكن لها أن توجد إلا في حال تجسدت في جسم من ورق وحبر.

يهدف الكتاب إلى تفكيك مقولة شائعة جداً مفادها أنّ الدولة في لبنان طائفية، وأنّ جلّ الأزمات التي يعاني منها النظام السياسي مردّها إلى الطائفية. هذا يعني، وفق هذه القراءة، أنّ الحلّ هو إلغاء الطائفية والانتقال إلى الدولة المدنية حيث تسود المساواة والعدالة بين جميع المواطنين.

لا ريب أنّ هذا الزعم بات يسيطر على نحو شبه كامل على الخطاب السياسي المهيمن، وهو أساساً خطاب السلطة الحاكمة التي ما فتئت تنتقد الطائفية مطالبةً بإلغائها. وقد تبنّى هذا الخطاب عدد من المثقفين الذين يمضون أوقاتهم في الندوات والمؤتمرات ونشر المقالات والمؤلفات بغية التأكيد أنّ المشكلة هي هذه الطائفية، وأنّ الحل المنشود هو في الدولة المدنية وإلغاء «الطائفية البغيضة» التي تبقي لبنان في غياهب الماضي وتمنعه عن التطوّر على غرار سائر الأمم.

 

يحاول الكتاب أن يشرح تطوّر علاقة الدولة بالطوائف من منظور قوانين الأحوال الشخصية دون الدخول في تفاصيلها، بل بتبيان طبيعة تلك العلاقة منذ عهد التنظيمات في السلطنة العثمانية مروراً بالانتداب الفرنسي وصولاً إلى يومنا. سرعان ما سيتبيّن للقارئ أنّ هذه العلاقة جنحت أكثر فأكثر إلى مزيد من العلمنة وتأكيد سموّ الدولة على الطوائف التي لا وجود لها إلا باعتراف الأولى بها.

يقوم ذلك على مجموعة من التشريعات، لعلّ أهمها القرار «60 ل. ر.» الصادر عن المفوّض السامي الفرنسي عام 1936. يشترط القرار على الطوائف كي تتمكن من ممارسة صلاحياتها في مجال الأحوال الشخصية حصولها على اعتراف رسمي من السلطة التشريعية، ويسمح للبنانيين تبديل دينهم بحرية كاملة مع فرض شروط إدارية لا غير، كما يقبل وجود لبنانيين لا ينتمون إلى طائفة معينة. بل إنّه يقرّ بحق اللبنانيين بتأسيس طوائف جديدة تُعرف بطوائف الحق العام، وتخضع في أحوالها الشخصية للقانون المدني.

تودّ الدراسة أن تميط اللثام عن خدعة يروّجها النظام السياسي اللبناني الذي تسيطر عليه مجموعة من الزعماء، هم زعماء الأحزاب الكبرى التي تدّعي تمثيل الطوائف. أنتجتهم الحرب الأهلية وتمكنوا من بسط سيطرتهم على مؤسسات الدولة والمجتمع عبر تحالفاتهم الخارجية وشبكة المصالح الزبائنية التي رسخّوها على مدار سنوات طويلة.

تقوم هذه الخدعة على تصوّر يخفي في طياته محاولة غير بريئة لتصوير نظام الزعماء هذا بصورة تساوق عمل المنطق الدستوري، وذلك بحجة أنّ الطائفية مكرّسة في مؤسسات الدولة السياسية والإدارية. بالتالي، يغدو كل نقد للزعماء عبارةً عن نقد للطائفية السياسية، ليكون الحلّ السحري المقترح دائماً: إلغاءها. هذا ما يؤدي عملياً إلى تحييد الزعماء وعدم تحميلهم مسؤولية ما آلت إليه الأمور.

إنّ الطائفية السياسية مجموعة من التدابير الدستورية والقانونية لتأمين مشاركة الطوائف في مؤسسات الدولة فحسب، ولا تعني إطلاقاً الفساد والزبائنية والارتهان إلى الخارج واللجوء إلى وسائل الترهيب لإخضاع الخصوم. فالطائفية السياسية، بغض النظر عن مساوئها وحسناتها، هي نظام دستوري يعمل وفقاً لمبادئ دولة القانون، في حين أنّ نظام الزعماء نقيض الدولة. فلا وجود له إلا عبر تحويل مؤسسات الدولة إلى مواقع نفوذ لشراء ولاءات الأفراد وتوزيع الغنائم عبر استغلال حاجة اللبنانيين واستثمار خوفهم.

ليست الأولويّة اليوم لإلغاء الطائفية بأشكالها القانونية كافة، السياسية والإدارية وطائفية الأحوال الشخصية. إنّما لإلغاء هيمنة الزعماء على لبنان، وهذه الخلاصة السياسية التي يتوصل إليها الكتاب.

لا تعني الطائفية إطلاقاً الفساد والزبائنية والارتهان، بل هو نظام الزعماء

 

يركّز الكتاب على الجانب الدستوري للمسألة، من دون أن ينفي أنّ التحليل الدستوري الصرف يعجز عن دراسة علاقة الدولة بالطوائف من ناحية علم الاجتماع وكيفية إعادة إنتاج الدولة للمنطق الطائفي عبر إقرارها بالوجود القانوني للطوائف. غير أنّ هذا الجانب، رغم أهميته البحثية الأكيدة، لا يشكل هدف الكتاب لأنّ الخطاب السياسي للسطة الحاكمة يحاجج خصومه انطلاقاً من اعتبارات دستورية. فالدولة هي وفقهم طائفية دستورياً، ويواجَه دائماً تبني أيّ إصلاح يهدف إلى إقرار الأحوال الشخصية المدنية أو إلى تعزيز الحريات العامة للبنانيين، بذرائع دستورية ترى أنّ ذلك غير متاح لأنّ الطبيعة الطائفية للدولة تمنعه.

لقد غدا ملحّاً ردّ هذه المزاعم وتبيان تهافت منطق نظام الزعماء عبر شرح فكرة بسيطة:

وحدها الدولة المدنية تستطيع أن تعترف بالطوائف وتضعها على قدم المساواة من جهة، وأن تحفظ حقوق الأفراد الذين لا يريدون الانتماء إلى هذه الطوائف طبقاً للقرار «60 ل. ر.» من جهة أخرى. فهذا القرار ينطلق من فهم ليبرالي لعلاقة الفرد بطائفته كونه يسبقها وجودياً، أي هو حرّ بالانتماء إليها أو تركها أو حتى عدم التصريح عن أي انتماء طائفي معيّن. فضلاً عن أنّ الدستور اللبناني لا يتبنى أيّ دين للدولة، ولا لرئيسها، ولا يعدّ الدين مصدراً أساسياً للتشريع. لا بل إنّ المجلس الدستوري، أعلن في قرار رقم 1 تاريخ 23/11/1999، أنّ اعتراف الدولة بالأحوال الشخصية للطوائف ينطوي على موقف محايد منها تجاه الأخيرة.

ليس البرهان القانوني ترفاً فقهياً في الكتاب، إنّما سلاح يهدف إلى المواجهة السياسية وتجريد الخصم من حججه وفضح خدعته.

إذا كان يستعرض بالتفصيل التطوّر الدستوري لعلاقة الدولة بالطوائف، فإنّه يشرح قدر المستطاع أيضاً السياق التاريخي الذي كان سائداً عند كل تطوّر. فيرجع إلى مصادر عدة، منها تقارير وزارة الخارجية الفرنسية في مرحلة الانتداب، ومحاضر المجالس النيابية في لبنان منذ عام 1923، إضافة إلى أرشيف صحيفة «البشير» التابعة إلى الرهبنة اليسوعية.

لكنّ الكتاب يعمد في النهاية إلى الخروج من المقاربة القانونية عبر ومضات تحاول تنبيه القارئ إلى أنّ المفاهيم الجاري استخدامها كالأحوال الشخصية واعتراف الدولة بالطوائف وحتى الأقليات والأكثريات، هي في الحقيقة نتاج للحداثة التي قامت على تدخّل السلطة المركزية المتزايد في المجتمع واحتكارها سلطة التشريع.

لقد قادت الدولة الحديثة إلى علمنة العلاقات الاجتماعية عبر تحويل الشأن الديني إلى شأن خاص، وعبر إيجاد مفهوم المصلحة العامة حين يتجرّد الإنسان من كل انتماء له ولا يُنظر إليه سوى كمواطن. الطائفية وليدة الحداثة، فقد تحوّلت الطوائف إلى جماعات سياسية غايتها تحقيق مجموعة من الأهداف التي لا علاقة لها بالدين.

هكذا يسعى الكتاب إلى إبقاء ذهن القارئ متيقظاً كي لا يقع في شباك التحليل الدستوري الصرف الذي لا يأخذ في الحسبان العامل التاريخي، وينطلق من مسلّمات هي أقرب إلى الماهيات الفكرية اللاتاريخية.

 

ملاحظة شخصية ختامية: صدر هذا الكتاب بعد أيام قليلة من وفاة والدي، وأنا الذي كنت أريد أن أجعل منه مفاجأة تفرح قلبه الذي خانه قبل تحقيق أمنيتي. كما علمني الدفاع عن الحق دائماً، كذلك أردت عبر هذا الكتاب أن أدافع عن المجتمع والدولة في لبنان في وجه سلطة نظام الزعماء.

وسام اللحّام

أستاذ يحاضر في القانون الدستوري والنظام السياسي اللبناني في معهد العلوم السياسية بجامعة القديس يوسف – بيروت، صدر له: المبسّط في الدستور اللبناني (2007)؛ ابن رشد ودعوته إلى الفلسفة (2011)؛ الخلافة: بحثٌ في مؤسسة الإمامة لدى السنّة (2013)؛ تاريخ النقد اللبناني (2017)؛ تصريف الأعمال: من الموجب الدستوري إلى الاعتباطية السياسية (2022)

×