24 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

خمس ليرات عثمانيّة

وسام اللحّام

19 نيسان 2022

من مجموعة الكاتب الخاصة

حاز البنك العثماني في سنة 1863 امتيازاً من الدولة يمنحه حصرية إصدار النقد الورقي في أرجاء السلطنة كافة، فتحوّلت المؤسسة على الإثر من مصرف تجاري خاص إلى بنك الدولة الرسمي، وتكرّس الأمر من خلال تبديل الاسم ليعرف رسمياً بـ«البنك السلطاني (أو الشاهاني) العثماني» رغم أنّه ظلّ يمثّل مصالح الرأسمال الأوروبي لتألفِّه أساساً من مجموعة من المستثمرين الفرنسيين والإنكليز.

أصدر البنك منذ ذلك التاريخ وحتى الحرب العالمية الأولى، مجموعة متنوعة من الأوراق النقدية شملت الفئات التالية: ليرة، و200 قرش التي توازي قيمتها الليرتين، وخمس ليرات، وخمسون ليرة، ومئة ليرة. وكانت المادة العاشرة من الامتياز الصادر في 3 شباط/فبراير 1863 حظرت على البنك إصدار أوراق نقدية من فئات دون المئتي قرش، ما يعني أنّه اضطر إلى طلب إذن خاص من الحكومة العثمانية يجيز إصدار فئة الليرة التي صدرت أول مرة سنة 1875.

لا ريب أنّ فئة الخمس ليرات هي الأشهر من بين كافة الفئات التي أصدرها البنك السلطاني العثماني، نظراً إلى انتشار التداول بها بعدما كسبت ثقة الجمهور الذي كان ينظر بشيء من الريبة إلى العملة الورقية بوصفها من الابتكارات الحديثة. فقد اعتاد السكان لقرون طويلة النقود المعدنية، لا سيما الذهبية والفضية منها، بينما كان النقد الورقي عرضة للتقلبات الخطيرة لأنّ قيمته مرتبطة بشكل وثيق بكمية الأوراق المطبوعة، وبقدرة الجهة التي أصدرته على حماية سعر صرفه والحد من التضخم الذي قد يصيب الأسعار.

في سبيل ذلك، ومن أجل ضمان قيمة أوراق البنك السلطاني العثماني، نصّ الامتياز على أنّ الأوراق النقدية التي يصدرها البنك يمكن استبدالها بما يماثلها نقداً معدنياً ذهبياً. كما فرضت المادة 11 على البنك الاحتفاظ في خزائنه باحتياطي من النقود الذهبية يعادل ثلث قيمة مجموعة الأوراق النقدية التي يضعها في التداول. كما تمّ تحديد سقف للإصدار بحيث لا يحق للبنك أن يضع في التداول أوراقاً نقدية تفوق قيمتها مليوناً وخمسمئة ألف ليرة. وقد رفعت الحكومة هذا السقف عبر السنين ليصير مليوني ليرة سنة 1908، ومن ثم أربعة ملايين ليرة في نهاية 1914.

كان الحذر تجاه العملة الورقية قد تجلّى بشكل صريح منذ أوّل ورقة قرّر البنك وضعها في التداول، وكانت من فئة المئتي قرش. فقد أصدر البنك في تشرين الثاني/نوفمبر 1863، 15 ألف ورقة من هذه الفئة، ولكن بحلول نهاية العام بقيت 4350 ورقة فقط في التداول، ما يعني أنّ من يقبضها كان يعمد فوراً إلى استبدالها بعملة ذهبية من البنك.

فشلُ الإصدار الأول لم يتكرر في الإصدار الثاني. فبعد مرور خمس سنوات على عمل البنك الرسمي، وتأكد الجمهور من أنّ البنك يقبل دائماً استبدال أوراقه بليرات ذهبية، قرّرت إدارة البنك العثماني سنة 1868 وضع فئة جديدة في التداول، وهي فئة الخمس ليرات. حققت هذه الورقة نجاحاً كبيراً بحيث تمكّن البنك من أن يضع في التداول ما مجموعه مئة ألف ليرة في أقل من عام واحد. وقد استمر البنك بطبع هذه الفئة، وعرفت ثلاثة تواريخ إصدار رسمية، هي: 3 حزيران/يونيو 1863، و25 تشرين الأول/أكتوبر 1882، و4 شباط/فبراير 1908.

عكست ورقة الخمس ليرات تطوّر الحياة السياسية في السلطنة العثمانية. فمع انتشار هذه الفئة في مختلف ولايات الدولة، ظهرت أوراق مزوّرة منها في الاسكندرية، وإزمير، والقاهرة، وفي جزيرة كريت، ما شكّل دليلاً على مدى رواجها وثقة الجمهور بها، ولا سيما فئة التجار الذين كانوا يحتاجون إلى كميات هامة من النقود في معاملاتهم التجارية. ومن أجل الحد من عمليات التزوير، طلبت إدارة البنك سنة 1898 من شركة «برادبري ويلكنسون» في لندن، وهي الشركة التي كانت تتولى طباعة هذه الأوراق، إدخال تعديلات فنية على التصميم من أجل جعل التزوير أكثر صعوبة.

وخلال قيام الشركة بطبع التصميم الجديد، وجّهت وزارة المال العثمانية رسالة إلى إدارة البنك مذكِّرة إياها بأنّ طغراء السلطان عبد الحميد الثاني التي تظهر على رأس الورقة يجب أن يتم تعديلها بحيث تتم إضافة لقب «الغازي» إلى جانبها، وهو اللقب الذي يُمنح تاريخياً للسلاطين العثمانيين الذين يحرزون نصراً عسكرياً، علماً أنّ الجيش العثماني كان قد أحرز نصراً خاطفاً في إحدى معارك الحرب اليونانية - العثمانية السريعة، والتي اندلعت سنة 1897. وبالفعل، قامت الشركة الطابعة بتعديل تصميم الورقة، وطبعت كلمة «الغازي» إلى جانب الطغراء السلطانية.

في نهاية سنة 1908، كلّفت إدارة البنك مطبعة بريطانية جديدة في لندن «واترلو اند سانز» بطباعة مئتي ألف ورقة من فئة الخمس ليرات مع إدخال تعديلات في التصميم. وبالفعل، وصلت الدفعة الأولى من هذه الأوراق، ووضِعت في التداول في الثالث من نيسان/أبريل 1909. غير أنّ خلع السلطان عبد الحميد الثاني في نهاية الشهر نفسه حتّم سحب الأوراق سريعاً، وحرقها لأنّها كانت تحمل الطغراء الخاصة بالسلطان المخلوع الذي عرف باستبداده، وبأساليبه العنيفة في الحكم. لذلك عمدت الشركة الطابعة إلى تعديل التصميم، واستبدال الطغراء القديمة بطغراء السلطان الجديد محمد رشاد، ووضِعت الأوراق المعدلة في التداول اعتباراً من تشرين الأول/أكتوبر 1909.

وكانت المادة التاسعة من الامتياز قد فرضت استبدال الأوراق التي يصدرها البنك في الفرع الذي أصدرها فقط، أو في الفرع الرئيسي في إسطنبول. وهذا ما يفسّر سبب توجيه وزارة المال العثمانية سنة 1898 احتجاجاً رسمياً اتهمت بموجبه البنك بخرق المادة التاسعة المذكورة عندما تم اكتشاف أنّ ما مجموعه 10 آلاف ورقة نقدية (غالبيتها من فئة الخمس ليرات) جرى يدوياً شطب تعبير «تستبدل في القسطنطنية» المطبوع عليها، وكُتِب بدلاً منه: «تستبدل في بيروت»، فيما ردّ البنك بأنّ الأمر تم بناءً على طلب فرعه في بيروت من أجل تشجيع التداول بأوراق البنك في تلك المدينة، ولكن هذه العملية لم تتكلل بالنجاح إذ طلبت إدارة البنك من فروعها المنتشرة في المناطق السورية سحب هذه الورقة المعدّلة من التداول بصورة نهائية.

يتبيّن من خلال مراجعة الأرقام الرسمية في أرشيف البنك أنه تم إصدار 999 ألف ورقة من هذه الفئة بين 1868 و1914 (تاريخ تعليق البنك إصدار الأوراق النقدية)، وقد سحبت تقريباً جميع هذه الأوراق تدريجاً من التداول، وجرى اتلافها وحرقها إذ يشير أرشيف البنك إلى أنّ 5372 ورقة فقط لم يتم استبدالها بما يماثلها من ليرات ذهبية، ما يعني أنّ هذا الرقم هو الحد الأقصى الذي يمكن توقّعه للأوراق التي ما زالت في الوجود.

وسام اللحّام

أستاذ يحاضر في القانون الدستوري والنظام السياسي اللبناني في معهد العلوم السياسية بجامعة القديس يوسف – بيروت، صدر له: المبسّط في الدستور اللبناني (2007)؛ ابن رشد ودعوته إلى الفلسفة (2011)؛ الخلافة: بحثٌ في مؤسسة الإمامة لدى السنّة (2013)؛ تاريخ النقد اللبناني (2017)؛ تصريف الأعمال: من الموجب الدستوري إلى الاعتباطية السياسية (2022)

×