20 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

نذير أزمة اقتصادية عالمية؟

عمر يمّين

20 آذار 2023

يبلغ حجم الودائع لدى SVB نحو 200 مليار دولار، أي ما يقارب حجم كامل الودائع في المصارف اللبنانية قبل 2019 (Reuters)

استفاقت الأسواق المالية في العاشر من الشهر الجاري على خبر وضع مصرف سيليكون ڤالي (SVB) الأميركي، المختص باجتذاب حسابات شركات التكنولوجيا الناشئة وفتح الحسابات والاعتمادات لها، تحت وصاية المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع(FDIC) ، وذلك بعد تعثّر ملاءته المالية.

وكان المصرف أعلن قبل يومين من ذلك أنَّه بصدد طرح أسهم جديدة قيمتها مليارا دولار وربع المليار وبيع سندات خزينة في حوزته قيمتها 21 ملياراً لتغطية عمليات سحب الودائع، التي ارتفعت وتيرتها في الأيام السابقة. لم يلقَ الخبر صدى إيجابياً في الأسواق المالية لما حمله من دلالات على سوء وضع المصرف المادي، فخسر إثر ذلك نحو 60%؜ من قيمته السوقية إلى حين وضعه تحت وصاية مؤسسة التأمين على الودائع تمهيداً لتصفيته.

 

لماذا تعثّر؟

يتّبع مصرف الاحتياطي الفيديرالي الأميركي سياسة نقدية انكماشية عبر رفع نسبة الفائدة على سندات الخزينة منذ بداية 2022 لمكافحة التضخم في الاقتصاد المحلي. أدت هذه السياسة إلى انحسار النشاط في قطاع التكنولوجيا المتركِّز في ولاية كاليفورنيا، فرأينا عدداً من الشركات تسرّح جزءاً من موظفيها كما فعلت Google وMeta خلال هذا العام، ومثلهما عدد كبير من الشركات الناشئة التي تتعامل مع SVB.

لم يكن ذلك مستغرباً لدى الاقتصاديين وخبراء الأسواق المالية، إذ من المعروف عندهم أنَّ قطاع التكنولوجيا يتأثر كثيراً بالسياسات النقدية مقارنة مع غير قطاعات، علماً أنّ القيمة السوقية لأي استثمار تعتمد على توقعات المستثمرين للعوائد المستقبلية التي ترسم وجهتها معدلات الفائدة... التي يحددها الفيدرالي.

أدت هذه الخلفية الاقتصادية إلى صعوبات لدى SVB في جذب ودائع جديدة والاحتفاظ بالقديمة، إذ سحب المودعون جزءاً من أرصدتهم للإنفاق على المدفوعات الآنية كشراء السلع والخدمات التي ارتفعت أسعارها بسبب التضخم، والجزء الآخر لاستثماره في أصول ذات عوائد أعلى مثل سندات الخزينة أو حسابات التوفير في مصارف أخرى.

هذه ليست ظاهرة غريبة على المصارف التي عادةً ما تحتفظ بسلّة من الأصول السهلة التسييل حتى تبيعها للتمكن من تغطية سحوبات المودعين، منها سندات الخزينة الأميركية (US Treasuries) وسندات مدعومة بالرهن العقاري (Mortgage Backed Securities).

لكن للتحوُّط من أيّ انخفاض في سعر هذه الأصول قد يسببه ارتفاع سعر الفائدة، تقضي إدارة المخاطرة السليمة بأن تدخل المصارف في عقود مقايضة أسعار الفائدة (Interest Rate Swaps) لتدرّ عليها أرباحاً في حال ارتفاع الفوائد.

هذا الأمر أغفله SVB لسبب أو لآخر (ربما لزيادة هوامش ربحه)، فوجد قيمة أصوله تنخفض، في وقت كان يرزح تحت ضغط السحوبات المالية لعملائه التي تكثَّفت بشدة بعد إعلان نيته ببيع سندات وطرح أسهم لرفع رأسماله، ما أجبره على بيع أصول بأقل من سعرها الاسمي ورصد خسائر تفوق مليار دولار.

تدخلت المؤسسة الفيدرالية لتأمين الودائع لوضعه تحت وصايتها ريثما تحدد السلطات المالية والنقدية الأميركية مصيره ومصير عملائه من أشخاص وشركات ناشئة في قطاعات عدة أهمها التكنولوجيا وشركات رأس المال الاستثماري (Venture Capital) التي كانت ستتعثّر بدورها لو أعيقت قدرتها على الولوج إلى حساباتها المصرفية لدفع المستحقات الواجبة عليها من مرتبات وغيرها.

اللافت أنَّ غالبية حسابات هذا المصرف (نحو 90%) تتخطى موجوداتها سقف التأمين للمؤسسة، وهو 250 ألف دولار، وذلك كون معظم هذه الحسابات تعود إلى شركات ومؤسسات تجارية وليست حسابات للأفراد. فكان على الخزينة الأميركية أن تلتئم مع الفيديرالي ومؤسسة تأمين الودائع خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي للبحث في حل قبل فتح الأسواق المالية الآسيوية مساء الأحد.

 

الحل المقترح

أصدرت السلطات النقدية بياناً مشتركاً مساء ذلك اليوم مفاده أنّها سوف ترد جميع الودائع لأصحابها وقيمتها نحو مئتي مليار دولار، كما أنّها حاكت آلية لتأمين السيولة للمصارف التي قد تواجه مشكلات مشابهة في المستقبل.

أتى قرار رد الودائع كافة نتيجة خوف السلطات من انتقال العدوى إلى مصارف أخرى يقرِّر عملاؤها سحب ودائعهم بالعملات الورقية إذا فقدوا ثقتهم بالقطاع المصرفي، فيؤدي ذلك في حال حدوثه إلى انهياره كلياً. مع ذلك، شكّك بعض الخبراء الماليين في تلك السردية، تحديداً في التأثير الذي قد يحمله انهيار هذا المصرف بالذات على القطاع عامة نظراً إلى صغر حجمه ومحدودية تشابكه مع المصارف الأربعة الأميركية الكبرى: Wells Fargo، Citigroup،Bank of America ، JP Morgan Chase.

مع أنّ السلطة حمّلت المساهمين وحملة السندات خسائرهم كلياً، انتقد البعض رغبتها في التعويض على جميع المودعين لأنّ عدداً كبيراً منهم هم من المحظيين، أصحاب الملايين والمليارات. وقالوا إنّ الضمان الكامل للودائع قد يحفّز مصارف أخرى على إدارة مخاطرها بشكل غير مسؤول.

 

شبه مع لبنان؟

في مقارنة مع الواقع اللبناني، تجدر الإشارة إلى أنّ حجم الودائع لدى SVB هو نحو مئتي مليار، أي ما يقارب حجم كامل الودائع في المصارف اللبنانية كافة قبل بدء الأزمة عام 2019. وكان SVB يحتل المرتبة 16 في ترتيب المصارف الأميركية بحسب حجم الودائع، إذ إنّ المصارف الكبرى لديها ودائع بألوف المليارات.

لعلّ أبرز وجوه الاختلاف مع الحالة اللبنانية أنّ غالبية الودائع في المصرف الأميركي، إن لم تكن جميعها، بالعملة المحلية، أي الدولار، التي يسهل على الفيديرالي طبعها. أما في الأزمة اللبنانية، فتكمن صعوبة حلها في أنّه لا قدرة لدى المصرف المركزي ووزارة المال على التدخل لضمان أي وديعة ما دام ليس لهما القدرة على طبع الدولار.

في حالة لبنان أيضاً، يسعى المركزي إلى إنقاذ حملة الأسهم، أي أصحاب المصارف، فيما لم يكترث الأميركيون لهذا الأمر في حالةSVB ، ولو لحفظ ماء الوجه والسيطرة على الأضرار التي يمكن أن تلحق بسمعة الإدارة الحالية إذا ما شعر الناخب بأنّها تضع مصلحة الأغنياء جداً أمام مصلحة الأغنياء الآخرين في هذه الحالة.

 

عودة الاضطرابات إلى الأسواق المالية

عاودت الأسواق المالية اضطرابها بعد إعلان ترويكا الفيدرالي ووزارة الخزينة ومؤسسة ضمان الودائع تدخلهم لإنقاذ المصرف. فقد انخفضت أسهم مصارف أخرى على نحو كبير ومفاجئ مثل First Republic Bank وPNC في الولايات المتحدة وCredit Suisse في سويسرا. ولعلّ أهم نذر الشؤم التي لم يلتفت إليها كثيرون هو انخفاض الفائدة على سندات الخزينة لسنتين بنسبة نصف بالمئة تقريباً على مدى يومين، الأمر الذي لم نره منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008.

ويشير عدم انصياع فوائد سندات الدين الفعلية لسياسات الفيديرالي (يهتم برفع الفوائد حالياً، لا خفضها) إلى أنّ المستثمرين يتوقعون ركوداً اقتصادياً في الأفق يجبر المصرف المركزي على تغيير وجهته.

 

مشكلات المصارف المحلية

خلال الأسبوع الماضي رصد مراقبو حركة الطيران عدداً كبيراً من الطائرات الخاصة في مطار أوماها في ولاية نيبراسكا، معقل المستثمر الأميركي وورين بافيت، وسمعنا أخباراً أكدها لاحقاً مسؤولون في إدارة جو بايدن مفادها أنَّ عدداً من رؤساء المصارف المحليّة اجتمعوا به بحضور مسؤولين في الإدارة  لمناقشة سبل حل أيّ مشكلات جديدة قد تطرأ لدى المصارف، لأنّهم يعلمون بأنّ بافيت يحتل مكانة معنوية كبيرة عند المواطن الأميركي، إذ يراه كثيرون مستثمراً أسطورياً في إمكانه طمأنة الأسواق المالية إذا ما أصدر بياناً يعلن فيه نيّته شراء أسهم في المصارف المتعثرة.

لعلّ مشكلات هذه المصارف المحليّة، أي المرتكز وجودها في ولاية معيّنة أو منطقة محدّدة، يمكن تلخيصها كما يلي:

أولاً، كما في حالة SVB، يعتمد عدد كبير من هذه المصارف على شريحة كبرى من العملاء تفوق إيداعاتها السقف الذي تضمنه FDIC، وهؤلاء أوّل من يمكن أن يرتاب من أيّ خبر أو شائعة يطاولان ملاءة مصارفهم المالية فيهبّون لسحب ودائعهم في حالة هلع قد تسبب عدوى تهدد استقرار القطاع المصرفي بأسره. ومعظم هؤلاء العملاء من ذوي الحسابات الكبيرة في المصارف المحلية هم أصحاب شركات صغيرة والحسابات لشركاتهم وليست لهم، وهم ليسوا بالضرورة من الأثرياء.

ثانياً، وخلافاً لوضع SVB، لا تعتمد هذه المصارف الصغرى المحلية على الاستثمار في سندات الخزينة وسندات الرهن العقارية بصورة أساسية، بل تستثمر إيداعاتها في أنواعٍ شتى من القروض التي تعرضها على عملائها. من ثم، تواجه المصارف التي تتركَّز قروضها في قطاع العقارات التجارية مشكلات في استيفاء أموالها لأنّ عدداً كبيراً من الشركات التي استدانت لتطوير مراكز عملها تتعثر الآن عن الدفع كون معظم موظفيها لم يعاودوا ذهابهم إلى العمل بعد أزمة كورونا، كما تتعثر مؤسسات أخرى تعتمد على عودة الموظفين إلى أماكن عملهم كالمطاعم وغيرها.

 

مشكلة Credit Suisse

يحتلCredit Suisse  مكانةً عالمية مع نحو ثلاثين مصرفاً مشابهاً يصنفها الخبراء أنها ذات أهمية لثبات النظام المصرفي العالمي نظراً إلى حجمهم والدور الذي يلعبونه، ومنهم: Bank of America، JP Morgan Chase، Bank of China .

وكان هذا المصرف يعاني من مشكلات مالية منذ انهيار أحد كبار عملائه، الصندوق الاستثماري Archegos Capital، الذي كلف المصرف خسائر تفوق خمسة مليارات ونصف العام الماضي. ولعلّ أبرز مسببات انهيار سعر أسهمه الأسبوع الماضي هو تصريح أحد أبرز مستثمريه، البنك الأهلي السعودي، عن أنه لن يقرضCredit Suisse  المزيد من المال بعدما كان قد استثمر فيه نحو مليار ونصف منذ قرابة عام. وكان سهم المصرف قد واصل انخفاضه بعدما أعلن البنك الوطني السويسري نيته دعمه بمبلغ سقفه 54 مليار دولار إذا قضت الحاجة.

وعملت السلطات الأوروبية والسويسرية على حل يقضي بشرائه من مصرف UBS بمبلغ يفوق ثلاثة مليارات. وقد توصل المصرفان إلى اتفاق مساء أمس الأحد بعد أيام عدة من المشاورات. وكان قد حصل UBS على كثير من المحفزات لاتمام الاتفاق بما فيها رفع سقف الدعم الذي سيقدمه المركزي السويسري إلى Credit Suisse صوب مئة مليار دولار. أيضاً سُمح لـ UBS استثنائياً بأن يمضي قدماً بقرار الشراء من دون العودة إلى تصويت المساهمين، ما أثار حفيظة كثيرين.

 

دور المصارف المركزية

للمصارف المركزية دورٌ أساسي في ضمان استقرار القطاع المصرفي إلى جانب دورها في تحديد السياسات النقدية التي تضمن استقرار الأسعار وبطالة منخفضة. واللافت أنَّ السياسات المحفِّزة للنمو التي قد تعتمدها هذه المصارف لتخفيض البطالة بخفض أسعار الفائدة قد تؤدي إلى تضخّم مفرط كما حدث في الولايات المتحدة وأوروبا وعدد كبير من الدول بُعيد أزمة كورونا.

وتدفع السياسات الانكماشية التي يتبعها الفيديرالي الأميركي ومعه المركزي الأوروبي حالياً لمحاولة كبح التضخم بالبطالة نحو الارتفاع، وهذا من الآثار الجانبية اللازمة للعودة إلى أسعار مستقرة.

أما الأثر الجانبي لرفع الفوائد الذي يغفله كثيرون، فهو زعزعة استقرار القطاع المالي للأسباب التي ذكرناها سابقاً في حالة SVB والمصارف المحلية الأميركية، كما في حالة Credit Suisse. فتجد المصارف المركزية نفسها في مأزق: هل تستمر في رفع أسعار الفائدة لدرء التضخم الذي بلغ مستويات 10% سنوياً في بعض الاقتصادات، أم تتوقف، أو حتى تخفضها على أمل تجنب أزمة مصرفية عالمية؟

أجاب البنك المركزي الأوروبي عن هذا السؤال الأسبوع الماضي برفع أسعار الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية، مشيراً إلى عدم وجود مقايضة بين مكافحة التضخم واستقرار القطاع المصرفي.

أما الفيديرالي الأميركي، فيجد نفسه في وضع أكثر صعوبة لهشاشة القطاع المصرفي نسبةً إلى أوروبا، كما تشير بعض البيانات الاقتصادية إلى اتجاه ضعفٍ في الاقتصاد. ويعتقد المستثمرون أنّه سيقرر في اجتماعه المرتقب بين رفع أسعار الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية وبين إبقائها دون تغيير.

ستكون لقراره تداعيات هائلة على القطاع المصرفي في العالم، وكذلك على الاتجاه المستقبلي للاقتصادين الأميركي والعالمي. فلمعدلات الفائدة الحالية والمرتقبة دور كبير في تحديد مستويات النمو أو الانحسار الاقتصاديين.

عندما تكون الفوائد منخفضة، أو عندما تشير المصارف المركزية إلى أنّها تنوي تخفيضها، فذلك يدفع بالشركات إلى الاستدانة للاستثمار في توسيع نطاق عملياتها، ويخلق فرص عمل جديدة. أما عندما ترتفع أسعار الفائدة (أو عند إشارة المصارف المركزية إلى أنّها تنوي رفعها)، فتنحسر النشاطات الاقتصادية لأن التمويل يصير أكثر كلفةً فترتفع بذلك نسبة البطالة.

إذاً، إنّ رفع أسعار الفائدة يكون لكبح النشاط الاقتصادي عندما يصير مفرطاً ويؤدي إلى تضخّم في المستوى العام للأسعار كما الحال الآن في معظم دول العالم.

عمر يمّين

اسم مستعار لمختص في الأسواق المالية.

×