27 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

المتحف

رامي طويل

28 تشرين الثاني 2022

أحسّ رعشةً تسري في جسده وهو يخطو خطوته الأولى عبر البوّابة الحديدية المتوسطة جداراً حجرياً أثرياً. إنهّا المرّة الأولى التي يدخل فيها المتحف الوطني. لقد عبر جوار سوره الحجريّ مئات المرّات دون أن ينتابه يوماً الفضول لمعرفة ما يحتويه. سنوات طويلة أمضاها في دراسة تاريخ ومحتويات كبريات متاحف العالم، من الأرميتاج في سان بطرس برغ واللوفر في باريس وصولاً إلى متحف أوفيزي في فلورنسا والعشرات غيرها. متاحف أمضى مئات الساعات أمام شاشة الكومبيوتر يجول في أروقتها ويدوّن ملاحظاته عن مقتنياتها دون أن يخطر بباله يوماً أن المهمّة التي سيوكلها إليه أستاذه في الجامعة ستكون إعداد دراسةٍ عن المتحف الوطنيّ ومقتنياته.

خطا عدّة خطوات داخل حديقة المتحف التي تظللها أشجار معمّرة مشيعة فيها جوّاً من السكينة تتخلله أصوات عشرات الطيور تتنقّل بين أغصانها الوارفة، غير أنّ ذلك كلّه لم يسهم بتبديد تلك الرعشة بل راحت أطرافه كلها ترتجف وهو قابض بيسراه على كاميرته يخطو نحو الداخل خطوات متلكئة متلفتاً حوله بغرابةٍ كما لو أنّ زمناً آخر حلّ محلّ الراهن.

حاول تخطّي تلك الرهبة عبر شيء من الضحك وهو يقرأ عبارة «المتحف الوطني» منقوشة بخطّ الثلث فوق البوّابة الداخلية الكبيرة ويقرأ في الكتيّب الذي أعطاه إيّاه عامل الاستقبال عند البوابة الخارجية أنّ المبنى هو بناء عثماني تمّ الاستيلاء عليه وترميمه من قبل الفرنسيين حين حلّوا كمستعمرين على هذه البلاد بعد انهيار السلطنة العثمانية. غير أنّ الضحك لم يسعفه غير برهة قصيرة عاودته الخشية بعدها وهو يلتفت إلى الحديقة وقد غدت على اتساعها خلفه ليكتشف أنّه الزائر الوحيد إلى المتحف في هذا اليوم. تذكّر الطوابير الطويلة التي تصطف أمام متاحف العالم كلّ يوم ينتظر خلالها الزوار ساعات كثيرة ليتاح لهم الدخول. أمّا هنا فإنه وحيد وسط كلّ هذه المساحة الشاسعة، وباستثناء عامل الاستقبال عند البوابة الخارجية لم يدن منه أحد.

هيأ كاميرته ودفتر ملاحظاته وراح يلتقط الصور لتماثيل رخامية بدت كأنها مصنوعة لتخليد مشوّهي الحروب، فهي بمجملها دون رؤوس، بعضها مبتور الأطراف، وبعضها الآخر مكسور الحواف، حتى اللوحات التعريفية المثبتة على قواعدها كانت حروفها ممحيّة وجد عناءً كبيراً في قراءتها ونقل المعلومات منها إلى مفكرته.

«هي تماثيل رومانية من آثار الشرق القديم».

أجفله الصوت من خلفه، التفت ليجد نفسه أمام عجوز هرمٍ عرّفه بنفسه بأنّه الدليل السياحي وأنّه سيكون حاضراً لخدمته عند أي استفسار، ثمّ جلس فوق حجر ضخم يبدو أنّه تابوت أثري، وأشعل سيجارة راح ينفث دخانها ساهماً بعدما أخبره بأنّ أمامه خمس قاعات عرض مرتّبة بحسب الحقبة الزمنية التي تنتمي إليها محتوياتها، آخرها هي قاعة الفن الحديث.

تلاشت خشيته بعد ذلك وهو يخوض في أروقة المتحف التي تردد صدى كلّ حركة منه حتى يبدو هسيس خطواته أو حفحفة ذراعيه أشبه بهديرٍ عظيم. التقط عشرات الصور لبقايا التماثيل المعروضة وعشرات اللقى الأثرية التي لا تعدو كونها قطعاً صغيرة من الحجر أو الزجاج بنقوش غريبة وكتابات قديمة أو رموز سيحتاج وقتاً لفك شيفرتها، سكاكين حجرية، خناجر وسيوف، مصابيح زيت قديمة، وبعض القطع النقدية.

أخيراً وقف أمام بوّابة خشبية هائلة كتب عليها بالخطّ الكوفيّ «قاعة الفن الحديث». التفت بحثاً عن العجوز لكنّه لم ير أحداً. بحذر مدّ يده نحو البوابة دافعاً إياها برفق فانفتحت. خطا داخلها حذراً وهو يتلفّت حوله علّ صوتاً ما ينهيه عن ذلك، لكن لا أحد هناك.

وسط القاعة الفسيحة وقف مذهولاً، عدد هائل من اللوحات تزين جدران القاعة، إنّها لوحات ملوّنة تنبض بالحياة. تنهد بارتياح أخيراً وقد شعر أنّه وجد ضالّته. راح يسير بهدوء متنقّلاً بين اللوحات الكبيرة مأخوذاً بمهارة الرسامين المحليين الذين صنعوها ساهياً عن التقاط الصور، مكتفياً بتدوين عناوين اللوحات وأسماء الفنانين في مفكرته ناقلاً إياها عن اللوحات التعريفية المكتوبة بخط واضح. شهقة عظيمة صدرت عنه فتردد صداها وسط الفناء الشاسع كموجة هادرة وهو يجد نفسه أمام عشرات التماثيل المكتملة والتي لا أثر لأيّ تشوه أصابها. تماثيل مصنوعة ببراعة وإتقان قلّ نظيرهما، فكّر للحظة أنّ ما يراه يفوق تماثيل ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو دقّة ومهارةً في محاكاة الجسد الإنساني. إنّها تماثيل توشك أن تنبض بالحياة. فكّر لبرهة إن كان هذا ما دفع أستاذه في الجامعة لتكليفه بهذه المهمّة، لكنّه نسي ذلك كلّه بعد لحظات وهو يستلّ كاميرته ويبدأ بالتقاط عشرات الصور لكلّ منحوتة من مختلف الزوايا. ما عاد يشعر بمرور الوقت، ولم يدرِ حين كان يقف أمام تمثالٍ يصوّر رجلاً ثلاثينياً بجسدٍ مرهق ووجه بائس أنّ أربع ساعات قد مضت على دخوله هذه القاعة. راح يلتقط الصور لتفاصيل ذلك الجسد، الأصابع المتشققة، الساقين بالغتي النحول بعدد كبير من الندوب عليهما، الظهر الذي تبدو عليه علامات سياط كانت قد أدمته، الوجه الهرم الذي قد يكذّب ما يفصح عنه الجسد ويوحي بأنّ صاحبه عجوز تجاوز التسعين من العمر، النظرة الخابية المستقرّة نحو الأسفل كأنما صاحبها ما عاد يجرؤ أن يرفع نظره عن الأرض. بحيوية هائلة التقط عشرات الصور لكلّ تفصيل في ذلك الجسد وقد استقرّ على أن يكون هذا التمثال الركيزة الأساسية للدراسة التي سيعدها عن المتحف الوطني. لكنّه بغتة جمد في مكانه وسقطت الكاميرا من يده حين تجرأ، بعدما التفت حوله مراراً، ومدّ يده ليلمس التمثال للتأكد إن كان مصنوعاً من الرخام. أحسّ بضيق تنفسه وأنّ قلبه توقف برهة عن العمل وهو يشعر بشيء من الدفء يتسلل إليه عبر أصابعه التي مسّت جسد التمثال. راحت أنفاسه تتسارع بعدما ضغط على ساق التمثال ليكتشف أنّه رجل من لحم ودم. دون أن يفكّر بشيء هرع راكضاً نحو البوابة الخشبية يردد الفضاء وقع خطواته محوّلاً إيّاها صخباً هائلاً. وقبل أن يبلغ البوابة الخشبية ببضع خطوات فوجئ بها تغلق. عبثاً حاول فتحها، ثمّ راح يركلها بساقيه وقدميه صارخاً قبل أن ينهار ساقطاً تحتها.

برتابةٍ راح الصدى يردد وقع خطوات رصينة تقترب منه بهدوء، وبعد لحظات كان رجلان بملابس رسميّة سوداء يقفان جواره، ثمّ ينحنيان فيحملانه بهدوء، وإلى جوار تمثال الرجل الثلاثيني، وفوق قاعدةٍ رخامية فارغة وضعاه هناك مثبتان إيّاه على الحال التي وجداه عليها، متكوراً على نفسه وقد أعياه الصراخ.

رامي طويل

كاتب ومترجم من سوريا، صدر له في الرواية: قبعة بيتهوفن (2021)؛ حيوات ناقصة (2018)؛ رقصة الظل الأخيرة (2014)؛ وفي القصة: امرأة عند النافذة (2022)؛ قبل أن تبرد القهوة (2015)؛ الخاتم (2008).

×