10 كانون الأول 2024
28 نيسان 2024
العدد السابع
في الآونة الأخيرة يدخل العم سمير بِمْ بِمْ (الموظف البسيط على المعاش) في نوبات بكاء عارمة. نوبة البكاء الحالية على المقهى. استدعاني العم بِمْ بِمْ على عجل لأن الأمر في غاية الخطورة ولا يتحمل كسلي المُعتاد في البحث عن المحفظة، أو أنني مرتبط بموعد منذ آلاف السنين!.
الآن وفورًا كنتُ أشرب القهوة مع العم بِمْ بِمْ وأنا لا أعرف لماذا يبكي بهذه الطريقة ولماذا وهو خجول جدًا، يبكي أمام جمهور المقهى الذي يعرفه بالاسم والسّحنة والأسنان الكوميدية المُحطمة بفعل الشراهة التاريخية في تدخين السجائر. ثلاث عُلب سجائر في اليوم لا تكفي رئات المُدخن الأول في حي الجيزة القديمة، وصاحب الدم الخفيف الذي لا يُعجبه خروج الناس على القانون والنظام.
الحمد لله أن العم بِمْ بِمْ بدأ يتحدث بصوت خفيض، وإلا كنّا سنواجه أسئلة لا حصر لها من الجيران والأصدقاء في الحي من مختلف الأعمار. العم بِمْ بِمْ أهلاوي صميم ورئيس رابطة من الأهلاوية كبار السن تزفّ الزملكاوية كبار السن على المقهى في ماتشات القمّة بين القطبين.
قال العم سمير بِمْ بِمْ قبل أن يوقف نوبة بكاء صغيرة، إنه أفنى عُمره في قسم المبيعات في شركة الحلويات العريقة، ومع ذلك تماطِل الشركة في تحمل تكاليف علاجه على نفقتها؟ خدم شركة الحلويات وكان يبتسم في وجه الزبائن لأكثر من أربعين عامًا، كان يستيقظ خلالها من النوم الحُلو كي يكون أول موظف على البوابة الرئيسية. وهذا مكنه لعشرين سنة متوالية من الحصول على جائزة الموظف المثالي. تخيل أن تبتسم مضطرًا لأربعين عامًا في وجه الزبائن رغم أن التدخين ممنوع في صالة المبيعات؟. يُدخن العم بِمْ بِمْ السيجارة العاشرة وأنا أندهش من الإنسانية الدنيئة لشركة الحلويات. يا خبر أبيض. هذه قضية رأي عام.
الإدارة الطبية في شركة الحلويات عديمة الإنسانية طبعًا، أمهلته يومين حتّى يرد على عرض مُهين للكرامة مقابل تحمّل تكاليف علاجه. يجب أن يرد على العرض الذي قدمته شركة الحلويات وإلا فسوف يفقد إلى الأبد مظلّة التأمين الطبي، وساعتها إما أن يسرق بنكًا أو يسرق بنكًا لكي يغطي تكاليف العلاج التي قد تزيد عن المليوني جنيه. ياااااااه؟.
من وجهة نظر العم سمير بِمْ بِمْ فإن السكاكين الحادة في القلب أكثر رحمة من عرض شركة الحلويات التي اقترحت عليه أن يُهَرْول إلى أستوديو شركة الدُخّان الوطنية لالتقاط صور من كل الزوايا لأسنانه المُتفحمة الكوميدية. بعد ذلك تُلتقط له صور وهو يضحك ويُفضل أن يُبحلق بعينيه وهو يضحك. في النهاية شركة التدخين مضطرة لتحديث صور علب السجائر التحذيرية لكن ليس معنى هذا أن تكون الصور مُخيفة جدًا. يكفي أن تكون كوميدية، وبهذا تضرب شركة الدخان ثلاثة عصافير بحجر واحد. تراعي الميثاق القانوني والأخلاقي تجاه منظمة الصحة العالمية والحكومة المصرية وأجهزة الرقابة المختلفة، ولا تفقد في الوقت نفسه جمهور المُدخنين الذي سيُقبل على شراء عُلب السجائر وعليها أسنان مُضحكة، والعصفور الثالث هو أن شركة الدخّان الوطنية تظهر أمام شركة الحلويات وموظفي المعاشات بصفتها شركة ذات أياد بيضاء في رعاية كبار السن غير القارين.
أبلغه مدير قسم المعاشات أن الناس لن تأخذ بالها من الصورة، وأن هذا الإجراء عمومي، و يُطبّق على جميع الموظفين على المعاش من الآن فصاعدًا، لأن أرباح الشركة انهارت مئة مرة. ما سيحدث هو أن شركة الدخّان تتحمل تكاليف العلاج والتنقلات كافة، وبعدها يعيش الموظف المثالي ألف عام!.
يسمح العم سمير لنفسه بالإضافة، ويقول نقلا عن مدير قسم المعاشات، إن شركة الدخّان تفكّر كل مُدّة في تحديث الصور التي تطبعها فوق علب السجائر. فبدلا من منظر الأسنان المُخيف الذي يظهر من دون وجه إنسان، تبحث الشركة عن شخصية بمواصفاته!. انفعل مدير قسم المعاشات على العم بِمْ بِمْ، وأمره أن يقبل أو يرفض الآن.
ورغم نجاح العم بِمْ بِمْ في انتزاع يومين من قسم المعاشات للتفكير، إلا أنه خائف جدًا من رفض العرض الجارح لكرامته الشخصية. يبكي بحذر هذه المرة، ويقول إن طبيب الشركة حذره من خطر منتشر هذه الأيام اسمه الموت المفاجيء. في أي لحظه يظهر هذا الموت المفاجيء خصوصًا في أوساط المُدخنين. ليس هذا فحسب بل إن نسبة اقتراب الموت المفاجيء من العم بِمْ بِمْ تزيد على 99% إذا لم يبدأ طريق العلاج خلال أسبوع من الآن.
ذكر العم بِمْ بِمْ عبارة «الموت المفاجيء» بعدد سبع سجائر أخرجها من العلبة الكليوباترا ورصّها فوق الطاولة وهو ينظر إليها كدائرة خارقة في الكون. يحبُ السجائر ويعتقد أنها أحسن دواء لأوجاع الحياة، لكنّ حكاية الموت المفاجيء جعلته حائرًا وخائفًا من الموت. لا يخاف على نفسه من الموت لكن يخاف على زوجته وحبيبته ليلى. يتركها في هذا العالم الحديدي الذي يريد أن يضع صورته فوق علب السجائر؟. تنام ليلى في السرير ولا تتحرك لمساعدة نفسها لأنها تعاني من هشاشة كبيرة في المفاصل. لم يُبلغها عن حكاية الورم ولا عن عرض شركة الدخّان. ماذا يقول لليلى المسكينة التي يمكن أن تطبّ ساكتة؟.
الحكاية كبيرة. أخبره مدير الإدارة الطبية في شركة الحلويات إن كل الأمراض والأورام التي درسها في كلية الطب، أو التي قد تظهر بعد ألف سنة متأهبة كجيوش كاسرة في الصدر والقلب والرئتين والكبد والكُلى والقولون والأوعية الدموية.
لم أشاهد حكاية كهذه الحكاية في الأفلام ولا قرأتُ عنها في أي مكان. لا أعتقد أنني أملك رأيًا سديدًا في قضية هستيرية كهذه القضية. أسنان العم بِمْ بِمْ فعلا كوميدية، وتقتل من الضحك لكنّ الرجل مجروح ويشعر أنه سيكون مُسخة للزملكاوية وكلاب السكك في الحي. ليس بعيدًا أن يُلقي مشجعو الزمالك عُلب السجائر الفارغة في البالكونة على العم بِمْ بِمْ الذي يرتبط بمنافسة شرسة مع الزملكاوية كل موسم.
يتوقع أن أُقدّم له دعمًا معنويًا أو حلا مُبتكرًا؟. غريب جدًا. ما الحكمة من ظهور وجهك؟. يستغرب العم بِمْ بِمْ سؤالي ويقول إنه لو كان يعرف لما لجأ إليّ في هذا الوقت المُبكر من اليوم. عنده حق. يجب أن لا أسأله أسئلة ساذجة لأنه علاوة على حساسيته العفوية المُفرطة، دمر نصف علبة سجائر في ربع ساعة. ولا أعرف إن كان صوته المُتحشرج مقصود أم أنه يحاول إظهاره خفيضًا فلا تسمعه المقهى.
يضحك العم بِمْ بِمْ من الأيام التي أوقعته في هذه المصيبة. بشكل مفاجيء، يُخفي أسنانه بكفّه اليُمنى مثلما يفعل لاعبو كرة القدم في الدوري الإنجليزي. المقصود من وضع الكفّ اليُمنى إخفاء معلومات تكيتيكية عن الفريق المنافس في الكرة، وأنا لست منافسًا يمكن أن يُحرج العم بِمْ بِمْ لأن أسنانه مُخيفة ومُضحكة. حاشا وكلّا، حتّى لو كانت أسنانه أكثر من مُضحكة لكنه إنسان في أزمة كبيرة ويحتاج إلى دعم هائل وصادق.
قال العم بِمْ بِمْ إن مدير الإدارة الطبية الذي كشف على صدره وبطنه ومخه، كان طبيبًا عصبيًا ومتعجرفًا. شعر العم بِمْ بِمْ بانزعاج شديد من هذا الطبيب الذي يعامله كمريض بالطاعون. العم بِمْ بِمْ عصبي كبير. سبّ الطبيب بأمه إضافة إلى ألفاظ قبيحة رفض الإفصاح عنها لأنه لا يريد أن يرفع صوته أكثر. الألفاظ القبيحة سببها أن الطبيب المتعجرف ألغى قرار العلاج العادي على نفقة شركة الحلويات، وحوله إلى لجنة أطباء في الشركة للبتّ وأوصى برفض علاجه على نفقة الشركة إلى الأبد بعدما تنازل عن إبلاغ الشرطة بصعوبة بالغة.
يعتقد العم سمير أن هذا هو السبب في تحويله إلى شركة الدخّان، وأنّ كلام مدير قسم المعاشات غير صحيح. الطبيب المتعجرف يُمعن في إهانته بعرضه على شركة الدخّان. العم بِمْ بِمْ أميَل إلى رفض العرض. لن يقبل الإهانة الصارخة حتى لو كان الثمن موت مفاجيء. دبّرني يا أستاذ؟.
ما رأيي يا عم بِمْ بِمْ؟. أنا مؤمن، وهذا متطابق للأسف مع رأي الطبيب المتعجرف، أنكَ لن تبقى على قيد الحياة أكثر من خمس ساعات بعد الآن. العم بِمْ بِمْ نموذج لهيكل عظمي هارب من مقبرة فرعونية، ومع ذلك يظهر في شكل بني آدم ويجلس إلى جواري في المقهى، ويُدخّن بشراهة منقطعة النظير. يجب أن يسمع مرة واحدة صوت الحقيقة. عاتبتهُ كثيرًا كي يخفّف عدد العلب التي يشربها كل يوم لكنه يقول إن أباه مات وهو في سن المئة وبضعة أيام قليلة. وتلك الأيام القليلة كان يمصّ فيها أعواد الأفيون ويضحك.
قال العم بِمْ بِمْ إنه كان حائرًا منذ أن جلسنا، لكنه توصل لقرار الآن. ما سيحدث هو الآتي: يذهب إلى شركة الدخان بعد أن يذهب طبعًا إلى قسم المعاشات ويترك موافقته الخطية. وعندما يصل شركة الدخّان يطلب من الموظف على البوّابة أن يُدخله إلى أستوديو الشركة لأن هناك جوابًا وصل على الفاكس باسمه. عندما يدخل الأستوديو يتعامل بشكل طبيعي للغاية، ويخضع للتصوير. لن يكون لدى العم بِمْ بِمْ أي امتعاض من البحلقة في الصورة لكنها ستكون بحلقة احتجاج. بحلقة احتجاج؟. تريد الشركة أن تُظهر نظرة العم بِمْ بِمْ ساخرة وأقرب إلى المُهينة لكنه سيفعل العكس. هذه طريقة العم بِمْ بِمْ في مقاومة قرار تشويه سمعته في حيّ الجيزة.
الناس لن تفهم تعبيرات الاحتجاج. نحن لا نعيش مع جمهور مسرح واعٍ يا عم بِمْ بِمْ. المصوّر نفسه سوف يعترض. ماذا تفعل؟. توقع العم بِمْ بِمْ سؤالي وكان جاهزّا بالرد. قال إنه غطى رأسه بطاقية، وبحلق باحتجاج في مرآة دولاب غرفة النوم وسأل ليلى إن كانت تعرف هذا الوجه الذي يُبحلق في المرآة فلم تعرف رغم أنه سألها عدّة مرات!. لذا فإن العم بِمْ بِمْ إذا قص شعره، وأدى بحلقة الاحتجاج كما يجب، فإن أحدًا من المُدخنين لن يعرف أنه سمير بِمْ بِمْ صاحب الشعر الطويل. فكرة عظيمة؟.
تبدو فكرة جديدة لكن هل يقتنع بها العم بِمْ بِمْ بشكل نهائي؟. يُقلّب في هاتفه ويُفرجني صورًا التقطها لنفسه وهو يُبحلق. الأمر حقيقي ولا يُبالغ العم بِمْ بِمْ؟. أضحكتني الصورة الأولى فقهقت بشكل مفاجيء. بنظرة امتعاض خفيفة، راقبني العم بِمْ بِمْ وأمسك بالهاتف وشاور لي على صورة اختارها كنموذج يُحتذى به في خداع المصور. الصورة كوميدية للغاية، والعم بِمْ بِمْ نفسه يتأملها من جديد ويُقهقه من كل قلبه.
للأسف، ليست هناك صورة تُخفي ملامح العم بِمْ بِمْ من فوق علب السجائر. لم تترك لنا شركة الحلويات أي مخارج؟. العم بِمْ بِمْ الذي يحاول أن يهديء نفسه، يقول وهو يفتحُ العُلبة الثانية إن التدخين صديق العمر الحقيقي. يشعر بزعل مفاجيء لأنه لم يتوقع أن يأتي اليوم الذي يُجبره فيه الأطباء على ترك التدخين الجميل.
يقول العم بِمْ بِمْ إنه حزين لأنه لو دخل مرحلة العلاج لن يُدخّن مرة أخرى حتّى مع فنجان القهوة في صباح مُشمس. يُحبُّ السجائر ويعتبرها صديق العمر الذي آنس وحدته بعدما دخلت ليلى سن اليأس وهاجمتها آلام المفاصل بشكل سريع ومؤلم. لم تعد تقوى على الحركة الطبيعية، ولم يعد العم بِمْ بِمْ هو ذاك الرجل الذي كان ينتظر ليلة الخميس. يشعر بحيرة بالغة لأنه في اختيار صعب بين ليلى والسجائر. يفكر كثيرًا في مصارحتها بالتطورات الصحية الأخيرة لكنه يخاف عليها من الصدمة.
العم بِمْ بِمْ كتوم، وقد يكون الشخصية الأكثر إخفاء للأزمات الشخصية في الحيّ، ومع هذا، ورغم الأزمة التي يمر بها، يتمتع بجرأة كبيرة وهو يطرح مقترحًا بأن ينتحر بعد أن يقتل الطبيب المتعجرف الذي كان سببًا في كل ما حدث وما قد يحدث من إهانه لسمعته ناصعة البياض. لم يُهن العم بِمْ بِمْ الطبيب لكن دافع العم عن نفسه، وهذا مشروع. تعرض كبير الأهلاوية لطعنة غادرة من طبيب عنيد يسيء استغلال السلطة.
تنتحر وتقتل الطبيب؟. كان العم بِمْ بِمْ يتحدث بجدية. يعاتبني لأنني لا أشاركه التدخين ولا أشاركه الأزمة بطريقة يشعر معها أننا جيران وبيننا عيش وملح. قال إن الانتقام من الطبيب أفضل حل إذا لم يكن لي رأي آخر في مواجهة الأزمة العويصة؟.
يقول العم بِمْ بِمْ إنّ مسألة أسنانه المُحرجة ليست بسبب إدمان السجائر. أسنان العم بِمْ بِمْ وراثة عن سابع جد. السجائر بريئة، والعلاح قد لا يكون ناجحًا ويموت في الأسابيع الأولى من بدئه. عند هذه النقطة، سوف تحزن ليلى طويلا لكن في النهاية يجب أن تعرف أن زوجها حاول الدفاع عن كرامته وتحمل العواقب. وبهذه الحالة يكون شهيدًا وتتعايش ليلى بالمعاش ويساعدها الله على وجع المفاصل. يسألني: تُريدني أن أعدم بحل شديد الخشونة وتترمل ليلى؟.
يجب أن أتكلم الآن لأن العم سمير بِمْ بِمْ يغلي. اقترحتُ عليه أن يتراجع نهائيًا عن حكاية قتل الطبيب حتى لو كان ظالمًا ومتعجرفًا كما يدعي لأن احتمالية الموت بحبل المشنقة أسرع من احتمالية الموت في الأسابيع الأولى من بدء العلاج.
أُداوم على قراءة مجلة طبيبك الخاص الصادرة عن مؤسسة دار الهلال، وكذبتُ وقلت إنني قرأت في عدد يناير/كانون الثاني عام 1999 موضوعًا عن رجل في حالة العم بِمْ بِمْ نفسها، صُوِّر راقدًا وإلى جواره صراصير سود طويلة ومتوسطة وقصيرة. طويلة وقصيرة؟. لم يقتصر الأمر عند هذا الحد. فما حدث هو أنّ ذاك الرجل صُوِّر وهو يدخن سيجارة على شكل صرصار مُحترق. يا الله؟. ومع هذا الرعب الكبير، عاش الرجل حياة سعيدة مع زوجته وكانا يربيان كلبًا مطيعًا يحمي بيتهم الريفي الجميل من اللصوص.
عدد يناير 1999؟. أحاول منع نفسي من الضحك بسبب الحبكة الضعيفة لهذه الحكاية الخيالية التي لم تحدث أبدًا، لكنني مُصمم على استكمالها. يسمعني العم بِمْ بِمْ بانتباه منقطع النظير وعينين تلمعان، وبقايا أسنان. يجب أن أتحلى بالشهامة والثبات الانفعالي حتى لا يشعر العم بِمْ بِمْ أنني أكذب. عاشا حياة سعيدة؟.
انتهزتُ الفرصة. كان الرجل السعيد يعاني من قرابة مئة وثلاثين مرضًا في كل أنحاء جسده حتى أن الأطباء احتاروا في أمره، وعرضوه على أكبر طبيب في الدولة الأجنبية المتقدمة التي حدثت فيها الواقعة العجيبة، فقرر أن علاجه مستحيل لولا أن شركة الدخّان هناك عرضت على الرجل، وزوجته التي كانت على علم بكل شيء، أن يخضع لجلسة تصوير لالتقاط صورته وطبعها فوق علب السجائر.
كان الرجل السعيد في غاية الذكاء. ارتدى نظارة سوداء في فترات النهار لمدة عامين متتاليين حتّى قررت شركة الدخان استبدال صوره بصورة حنجرة متورمة ومتفحمة ومخيفة. ولم يستغرب أحد حكاية النظّارة السوداء؟. هدأت أعصاب العم بِمْ بِمْ.
هل يقتنع العم بِمْ بِمْ أم يفاجئني بأنني أختلق كلامًا فارغًا؟. يجب أن أكون جاهزًا لأسئلته. هناك أنواع كثيرة من النظارات الطبية تبدو كنظارات الشمس وهي تُخفي الأعين وغالبية ملامح الوجه. يمكن لأي إنسان أن يختار هذا النوع من النظارات. الطب يتقدم بسرعة هائلة، كما أن الرجل عندما انتهى من مراحل العلاج عاش مع زوجته في شهر عسل أبدي. وفي النهاية أيضًا اختفت كل أمراض الرجل الذي ظهر راقدًا إلى جوار الصرصار فوق علب السجائر، وعادت رئته تعمل كرئة طفل في العاشرة. ورغم أن النظارات السود في عصر ذاك الرجل السعيد كانت متأخرة نسبيًا عن نظارات هذه الأيام فإن أحدًا لم يلحظ صورته فوق علب السجائر.
سكت العم سمير بِمْ بِمْ ثم قال إن هذا الرجل قدوة عالمية ويجب تكريمه وتقديم التحية لشركة الدخّان الأجنبية أيضًا لأنها أنقذت حياته من مئة وخمسين مرضًا. ورغم أن تعبيرات وجهه كانت توحي بأنه سيخضع لجلسة التصوير في شركة الدخّان، إلا أنه فاجأني بأنه يجب أن يقرأ أولا مجلة طبيبك الخاص قبل أن يتخذ القرار النهائي. قال إنه سوف يذهب غدًا إلى مؤسسة دار الهلال ويطلب عدد يناير 1999 وبالتأكيد سوف يجده في هذه الدار القديمة في حيّ السيدة زينب، وبالمرّة يصلّي ركعتين في مسجد أم العواجز ويطلب شفاعتها الأكيدة.
لأنه كان صادقًا في مشوار الغد، حاولتُ إرباكه. قلتُ إنني قرأت حكاية الرجل السعيد في قصاصة مجلة وجدتها ذات مرة بالصدفة في مكان لا أذكره الآن. ورقم العدد واسم المجلة ليسا إلا ضعفًا في الذاكرة لأنني لم أنم من البارحة.
قال إنه لم يتصوّر أنني أكذب عليه رغم خطورة الموقف الذي قد يتدحرج إلى الأسوأ لو ضربه موت مفاجيء، وعاشت ليلى بقية حياتها أرملة العم بِمْ بِمْ. أنا في حرج بالغ؟. أنا في حرج كبير لأنني إما أن أجد مخرجًا لكذبتي الآن أو أترك العم بِمْ بِمْ بين خيار الانتحار بعد قتل الطبيب أو الخضوع لجلسة تصوير مهينة للكرامة الإنسانية.
بينما تضرب الحيرة رأس العم سمير بِمْ بِمْ، دخل عليه سيد كلاي ( 60 عامًا)، وهو ملاكم سابق، وأخذ العم بِمْ بِمْ بالباط، وجلس في مكان بعيد. لم يكن ظهور سيد كلاي عاديًا في المقهى. أشعل العم بِمْ بِمْ سيجارة جديدة، فلمعت أسنانه المتفحمة بفكرة جُهنمية. قرر العم بِمْ بِمْ تشكيل عصابة من كبار السن في رابطة الأهلاوية، والزملكاوية إن تحلوا بروح رياضية. الهدف الرئيس من تشكيل العصابة هو سرقة صور العم بِمْ بِمْ بعد خروج الماتيريال من مقر شركة الدخّان بكافة الوسائل الممكنة وغير المُمكنة. هذا طبعًا مع استبعاد قتل الطبيب حتى لا يضيع مجهود العصابة هدرًا وتتوقف مراحل العلاح، ويموت العم بِمْ بِمْ موتًا مفاجئًا وتخسر ليلى، وتخسر رابطة النادي الأهلي في حيّ الجيزة واحدًا من أبنائها الأبرار!.
صحافي مصري وقاص وكاتب اسكريبت للفِلم الوثائقي والفِلم القصير. صدرت له في القصّة مجموعتان عن دار روافد للنشر: جبلُ الحَلَب (2013)؛ دَبيبُ النّجْع (2019)؛ وفي الفِلم الوثائقي: يوسف إدريس؛ نجيب الريحاني؛ أسامة أنور عكاشة؛ سليم حسن... حفّار مصر القديمة؛ وفي الفِلم القصير: البلابيصة؛ اختناق القمر.