29 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

تاجر الحدود البعيدة

عليّة عطائي

22 شباط 2024

العدد السادس
ترعرعتُ في إيران قرب الحدود مع أفغانستان (The New York Times@)

صدر هذا الريبورتاج في مجلة Guernica في 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2019. 

 

حتى تحت ضوء القمر المكتمل، يمكن بسهولة رؤية الأضواء الحمراء الكاشفة على طول الحدود بين إيران وأفغانستان. كان دليلي نائماً في غرفة إلى جانب غرفتي. أيقظته لكي ننطلق باكراً إلى قرية غازيك الحدودية. هناك سنقابل محمد عثمان. «سأبدأ العمل في الخامسة فجراً»، قال لي. وأردف: «كوني هناك قبل وصولي».

شرطة الحدود الايرانية اعتقلت محمد عثمان يوسفزاي ثلاث مرات حتى الآن، بتهمة تهريب مهاجرين غير شرعيين، وفي كل من المرات الثلاث أُطلِق سراحه لعدم كفاية الأدلة. نطاق عمله يقع جنوبي مقاطعة خراسان الإيرانية التي تحدّها من الجهة المقابلة مقاطعة فرح الأفغانية. «ليس لديّ أدنى فكرة عمن يكون هذا الرجل»، على ما أبلغني لاحقاً كولونيل في شرطة الحدود الايرانية. وأضاف: «يحمل أوراقاً ثبوتية ايرانية وأفغانية. المهاجرون الذين نعتقلهم يرفضون أن يشهدوا ضده. وحتى عندما نسجنهم يصرّون على الرفض. ما نعلمه كحقيقة هو أنّ هذا الرجل يعمل في نقل الأشخاص. ولكن من دون شهود يُدلون بإفادات ضده تبقى أيدينا مقيّدة».

لقد ترعرعتُ قرب الحدود، على الجانب الإيراني. ثمة في الأماكن الواقعة بين مناطق مختلفة، معجم خاص من المفردات لوصف الجغرافيا التي نعيش فيها. بعض الأماكن نطلق عليها اسم «الحدود»، وبعضها «الحدود+» (الحدود زائد)، وأخرى «هذا الجانب من الحدود» أو «ذاك الجانب من الحدود». مفردات يمكن أن تكون مضنية وخطرة. غازيك تُصنّف «الحدود+». إنّها نتوء حدودي.

هدفنا أن نقابل محمد عثمان باكراً، قبل أن يعبر الحدود للإتيان بشحنته البشرية. لم يكن من أثر له في المكان الذي حدّده لنا في ساحة لوقوف السيارات. كانت الساحة خالية إلا من سيارة بيجو رمادية. قبل انبلاج الفجر ظهر، وبدا غير خائف وشديد الثقة بنفسه. طويل لوّحت سحنته شمس الصحراء. قيل لي سابقاً إنّه يبلغ حوالى الخامسة والثلاثين من العمر، لكنّه بدا لي أصغر من ذلك بعشر سنوات. كان يلبس سروالاً واسعاً يكشف عن كاحليه وقميصاً بيضاء - اللباس التقليدي الذي يرتديه الإيرانيون والأفغان على طرفي الحدود. إلا أنّ سترة الجلد التي كان يرتديها بدت فاقعة في صيف لاهب ومغبر في هذه الأنحاء.

كذريعة لكي أتمكّن من مقابلته، أبلغت محمد عثمان أنني أريد التسلل إلى أفغانستان لتفادي المرور بشرطة طالبان وأخذ بصماتي. لكنه لم يصدّقني. «الجميع يريد أن يغادر تلك الأرض الملعونة للقدوم إلى هنا، وأنت تريدين الذهاب إلى هناك؟». حدّقت به، من دون أن أعرف ما الذي يجدر بي قوله. «ما الذي تريدينه بالضبط؟».

«أعرف قليلاً عن قبيلتك. أعني اليوسفزاي في فرح».

لم يبد عليه التأثر، ونظر إليّ بصمت؟

«اسمع، أريد فقط أن أتعلم القليل عن العمل في التهريب».

«العمل» على الحدود يعني آلاف الأمور. الوقود، الأرز، الفاصولياء، الأفيون، البشر. أردتُ دائماً أن أتعرّف إلى أشخاص يعملون في هذا «الخط».

للمرّة الأولى، في محادثتنا القصيرة، حدّق محمد عثمان بي وبدأ ترديد معلومات معيّنة وسريعة عن عائلتي. المعلومات هي عمله. ما قاله أدهشني وصبّ عليّ مياهاً باردة. قال: «لن أجلب الصداع لنفسي بإفشاء أسرار عملي لك». وعدتُ بألا أزعجه. فأجاب: «لا أزال لا افهم ما الذي تفعلينه؟».

قد لا تكون الحياة في إيران سهلة لكثيرين، لكنّها نزهة بالمقارنة مع الحياة في أفغانستان. على الأقل لا انتحاريين هنا يفجرّون أنفسهم يومياً. في الواقع، هناك سببان يدفعان الأفغاني إلى المخاطرة بعبور الحدود إلى إيران: للحصول على عمل لا يقوم به الإيرانيون، أو بصفتها محطة عبور إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا. في الحالتين، عليه أن يجتاز الحدود.

تحت ضوء الفجر الخافت، ظهر شابان في ساحة وقوف السيارات حيث كنّا. مساعدان. سريعاً بدآ العمل بنزع لوحة السيارة. كان محمد عثمان يشتِم طوال الوقت. عندما يشتِم تطغى لكنته الأفغانية على كلامه. سألت دليلي: ماذا عن اللكنة الإيرانية التي يصطنعها بقية الوقت؟

«ما الفارق أيّ لهجة يصطنع؟»، ردّ دليلي بحدّة. «هل يعلم أيّ منا نحن الذين نعيش هنا إلى أيّ طرف من الحدود ننتمي؟».

كان محقاً. لكن، في المقابل، من يعيشون قرب الحدود لديهم على الأغلب علاقة هوسية بالهوية - هويتهم وهويات الآخرين. دائماً، نرغب في معرفة من أين أتى الآخرون، وفي أن نحدّدهم بالمكان والزمان.

أخرج محمد عثمان دفتراً من جيب سترته الجلدية، ولوّح به. «لا تسألي أسئلة. هاكي. الأسماء التي ترينها هنا أسماء مسافرين معي».

يعقوب صالح رافي، قندوز 28 كانون الثاني/يناير؛ ميثاق محمدي، أنار دارا 8 نيسان/أبريل؛ مسوماه يادغاري، فارياب 5 كانون الثاني/يناير...

ليست لديّ أيّ فكرة عمّا ترمز إليه هذه التواريخ. هل هي تواريخ عبورهم الحدود؟ أم تواريخ الاتفاق على العبور؟ حاولت أن أمارس نوعاً من الاستعراض بالإشارة إلى القليل الذي أعرفه عن الأعمال التي تجري عبر الحدود، وأخبرته أنني أستطيع بسهولة تخمين السيارات والحافلات التي جُهّزت للعبور بصورة غير شرعية. صهل بضحكة مجلجلة. «أهتم بالناس الذين يعبرون معي. لا أجعلهم يعانون بإرسالهم هنا وهناك. الله يهتم بمحمد عثمان وعمله». كان مساعداه يخرجان المقاعد كلها من السيارة. غشَتنا رائحة نتنة يصعب نسيانها.

«ما هذه الرائحة؟».

«لا تسألي»، أجاب فوراً. «فقط اعتادي عليها. إنّه الخوف الذي تشمّين رائحته. لا يستطيع المرء كبت ما في داخله عندما يكون خائفاً هكذا».

يسجّل حرس الحدود الإيراني محاولة نحو ثلاثة آلاف أفغاني عبور الحدود يومياً قادمين من أفغانستان وباكستان. نصف هؤلاء يُلقى القبض عليهم ويُردّون على أعقابهم. النصف الآخر يسلك طريقه نحو المدن الإيرانية الكبرى، على أمل التواري عن الأنظار. فيما كنتُ أتساءل كيف سيتمكن محمد عثمان وشحنته من العبور اليوم، قال لي: «إذا ما أوقفك رجال الشرطة لأيّ سبب أخبريهم بأنني كنت أعمل لدى والدك. هل تفهمين؟».

أومأت برأسي إيجاباً.

أخذ المساعدان مقاعد السيارة بعيداً فيما كان محمد عثمان يملأ صندوقها بعبوات الغاز.

استجمعت نفسي لأبدو عفوية وقلت: «سنتبعك بسيارتنا».

لم يكلّف نفسه عناء الإجابة. «خذ هذه المرأة بعيداً من هنا، الآن»، قال لدليلي.

«لكنني أريد أن أتعلم كيف أعبر الحدود!».

«انتظرانا غداً عند تقاطع شمس آباد. سنعود مع شحنتنا بين الرابعة فجراً والسادسة صباحاً. هذا أقصى ما يمكنني أن أكشفه لك».

وانطلقوا.

بالنسبة لمحمد عثمان، من يصنع الشريط الشائك هو من يصنع الحدود (تصوير الكاتبة)

 

بالنسبة إلى محمد عثمان، الذي قضى معظم سنوات عمره ينقل أشخاصاً ذهاباً وإياباً، لم يكن السؤال يوماً: لماذا يجري هذا؟ وإنّما كيف يجري؟ على الجانب الآخر من الحدود هناك بطالة، وهناك حرب، وهناك رجال ونساء يحاولون بطريقة ما الانتقال إلى هنا. لكن لعبور خط الحدود ثمناً. يحتاجون إلى جوازات سفر وسمات دخول ورسائل دعوة يرسلها إليهم مقيمون هنا - وهذه أمور لن يفقهها أفغاني لا خبرة لديه بشيء ولا يشكّل وجوده أهمية لأحد. هذه الـ«لماذا» أمر بديهي. يقول محمد عثمان إنّ مهنته هي «تحسين حياة الناس». ما لا أفهمه هو الآلية لذلك.

في الصباح التالي، انطلقنا عند الثالثة فجراً. هناك قرى عدّة أشبه بقرى الأشباح مجاورة للحدود. القرية التي كنّا في طريقنا إليها، شمس آباد، كانت مفعمة بالحياة ومركز تسوّق، إلى ما قبل نحو عقدين، عندما أصدرت السلطات بطاقات تعريف لسكان هذه المناطق وتشدّدت في التثبت من هوياتهم، وتم إغلاق السوق. كان على المرء أن يختار ما إذا كان أفغانياً أو إيرانياً. البيوت الطينية المهجورة ومستوعبات الشحن التي علاها الصدأ دليل باهت على تلك الأوقات، وتذكير بوقائع الحياة على الحدود التي تخيّم على الناس هنا.

على مفترق شمس آباد أطفأنا محرّك السيارة وانتظرنا. موسيقى أفغانية كانت تنبعث خافتة من المذياع، وكان القلق معنا كأنّه راكب ثالث يرافقنا. ماذا لو أُلقي القبض على محمد عثمان هذه المرّة؟ كانت الظلمة لا تزال تخيّم على المكان، لكنني قررت الخروج من السيارة. الريح والغبار يغمران المكان. أخيراً، سمعنا هدير سيارة يقترب. إنّه هو، يقود سيارته مطفأة الأنوار.

أشار إلينا لكي نتبعه. داخل القرية الهامدة توقفنا أمام مستوعب حديدي قديم. قفز محمد عثمان خارج سيارته وفتح صندوقها ليخرج منه ستة أشخاص.

وقفت هناك أراقب غير مصدّقة. في المقعد الخلفي كان عدد من الأشخاص يستحيل أن تسعهم سيارة كهذه، وقد رُبطوا جميعاً بحبل. رأيت بوضوح امرأة حاملاً. تحتها كان رجل هو على الأرجح زوجها. لم ينبس أحد بكلمة قبل أن يُسحب الحبل. كان كل منهم يخرج من السيارة ويستدير ليصافح محمد عثمان. كان هناك أشخاص في المقعد الأمامي أيضاً.  لقد تمكنت من إحصاء 18 شخصاً.

بالكاد كانت السيّدة الحامل قادرة على الحركة، وتئن خفيفاً. تبيّنت أنّها وزوجها يتكلمان البشتونية وأنّهما من منطقة مجاورة لباكستان. كان البقية يتكلمون الفارسية. بدت عليهم جميعاً إمارات الخوف والتوتر والتعب والإحباط. لدى الأفغان تعبير عن هذا المزيج: يسمّونه زنده مارغي، «الموت الذي نحياه».

كان محمد عثمان يمسك بيد عجوز ويحادثه بلكنة أفغانية، أكثر احتراماً مما سمعته منه من قبل. لا أملك أدنى فكرة عمّن يكون هذا الرجل، ولا يفترض بي أن أطرح أسئلة أو أتكلم مع أحد. من بين الأشخاص الـ 18، كان من الواضح أنّ سبعة منهم من الهزارة الشيعة، بملامح وسط آسيوية بارزة، ما يجعلهم صيداً سهلاً للسلطات الإيرانية. أما الآخرون فتبدو فرصهم أفضل إذا لم يفتحوا أفواههم لتفضحهم لهجاتهم. كيف يكون ذلك ممكناً، لستُ متأكدة.

كان محمد عثمان يوجّه الجميع نحو مستوعب الشحن الحديدي. لم يكن أيّ من الأشخاص الـ 18 يحمل متاعاً أو حتى حقيبة يد صغيرة. أخذ دليلي بعض علب البسكويت وعبوات الصودا من سيارتنا وقدّمها اليهم.

استدار محمد عثمان وقال لي: «عاصفة رملية شديدة في طريقها إلى هنا. عيناك ستؤلمانك». لا بد أنّ عدم الارتياح كان بادياً عليّ بوضوح. أخرَج من جيبه كيساً من الكحل وقدّمه لي. «كحّلي عينيك. الكحل كالسحر للعيون، وهو يعطيك القدرة على الرؤية في الصحراء».

هذا جانب رقيق من شخصيته. أكثر رقة بكثير مما كنتُ أفترض كيف يمكن لمهرّب أن يتصرّف.

بالنسبة إلى الأشخاص الـ 18، لم أكن موجودة. يتصرّفون كأنّهم لا يرونني. لقد خرجوا للتوّ من الجحيم، وكانوا سعيدين جداً كونهم أحياء. أتخيّل رحلتهم، الساعات التي أمضوها مقيّدين، وكيف يبدون الآن، غير مستقرين يهمهمون لأنفسهم. ما الذي يأملون الحصول عليه في إيران؟

الرياح تشتدّ وصوت محمد عثمان بالكاد يمكن سماعه. «سيكون أيوب ويعقوب هنا قريباً. قبل منتصف النهار سأوصل هؤلاء الأشخاص إلى زابول. مهمتنا إيصالهم إلى هناك. بعد ذلك سيكون لكل منهم طريقه».

«وماذا إذا ما أُلقيَ القبض عليهم؟ عبر أيّ معبر حدودي تعيدهم الشرطة إلى أفغانستان؟».

«طريق الميل 78 من بيرجاند».

طريق الميل 78 من بيرجاند. يبدو ذلك أشبه بأغنية.

حتى الآن لم أر أيّ عملية تقاضي أموال. وبما أنّه بات أقل إلحاحاً على أن أبقي فمي مغلقاً، قلتُ له: «لا بد أنّك ثري».

«لا. هذه ليست أموال يمكن أن تُجمع. اعتماداً على من أنقل، أتقاضى بين 100 دولار و500 دولار عن الشخص قبل الرحلة».

يلفظ كلمة «دولار» كما قد يلفظها أميركي - أو كما قد يلفظها أفغاني غزا الأميركيون بلده ولا يزالون هناك منذ نحو عقدين. مرّة أخرى، لم أكن متأكدة من هذا الرجل. أريد أن أصدّقه عندما يقول إنّه يجعل حياة الناس أفضل وأسهل. أريده أن يعترف لي بأنّه لا يتقاضى أموالاً من هؤلاء المعدمين أو ممن حياتهم عرضة للخطر الشديد. لكنّه يتحدّث بسهولة شديدة عن المال – عن الدولارات على الجانب الآخر من الحدود، وعمّا يفعله من أجل إدخالهم إلى إيران. إنّه، في النهاية، مهرّب حقيقي. لا بد أنّ هذه الحدود أمر فظيع لكثيرين، لكنها بالنسبة الى محمد عثمان مصدر ربح.

سألته: «من تعتقد بنى الحدود؟».

هزّ كتفيه قائلاً: «ربما صُنع الشريط الشائك في بيرجاند».

كان هذا سؤالاً فلسفياً أكبر من أن يستوعبه، أو أنّه لم يرد أن يجيب عليه. بالنسبة لمحمد عثمان، من يصنع الشريط الشائك هو من يصنع الحدود. كلاهما، هو وصانع الشريط، يجنيان أموالاً من الحدود. يتجمّع المهاجرون الأفغان داخل مستوعب الشحن ويغلق محمد عثمان الباب الحديدي الضخم خلفهم. الخطوة التالية هي انتظار وصول مساعدَيه لاستلام هؤلاء قبل أن يبدأوا المرحلة التالية من رحلتهم.

راقبتُ محمد عثمان وهو يصعد سيارته. الجزء الأكبر من مهمته انتهى. يستدير نحوي منادياً: «لم تخبريني قط ما هو عملك».

«وأنت لم تخبرني من أين أنت»، قلت له. «ولكن إذا سألك أحد من أين أنت قل لهم إنك من مقاطعة خراسان».

ربما فهم، وربما لم يفعل. خراسان مساحة ضخمة من الأرض وذات أهمية دائمة لنا نحن الأفغان. إنّها أرض الواقع والخيال اللذين يربطان الأفغان بالإيرانيين وبوسط آسيا – مهد الحضارة الفارسية. اليوم يقسم شريط شائك خراسان إلى قسمين. لم يكن الأمر يقتضي كثيراً من التفكّر، من ناحيتي، لأعلم بأنّ ما قلته لمحمد عثمان هو قضيتي أنا، لا قضيته. لوّح بيده بلامبالاة، وانطلق بالسيارة.

تحدّثنا عن كلّ شيء سوى الأهم: لماذا الحدود موجودة أساساً؟ (تصوير الكاتبة)

 

بعد ثمانية أشهر، في نيسان 2018، علمتُ بأنّ محمد عثمان اعتقل وأنّه نزيل في سجن فردوس. مدينة فردوس بعيدة ولم أكن متيقنة ما إذا كان الأمر يستحق أن أتوجه إلى هناك. قد لا يسمحون لي برؤيته؛ فأنا لست قريبته، ولا أحمل بطاقة صحافية. ذهبت على أي حال.

قال الضابط المناوب: «بالطبع نعرف هذا الرجل. هو يصرّ على أنّه أفغاني ويحمل جواز سفر أفغانياً. لكنه قد يكون مزوراً. أو ربما يكون جوازه الإيراني مزوّراً. أو ربما الجوازان مزوّران. من يدري! سأقول لكِ ما الذي سيحدث له. إذا ما تبيّن أنّه أفغاني، كالعادة، سنقوم برميه على الجانب الآخر من الحدود. ولكن إذا ما تبيّن يوماً أنّه إيراني، فإنّ جريمته كبيرة».

شربنا الشاي وتحدّثنا عن سوء طالع الشعب الأفغاني، عن المفاوضات القائمة مع حركة طالبان المتحجّرة – التي، حتى أثناء المفاوضات، واصلت قتل مواطنيها الأفغان. تحدّثنا كمذيعَي أخبار، عن كلّ شيء وأيّ شيء، إلا عن الأمر المهم: لماذا الحدود موجودة أساساً؟

الضابط من شيراز، وهي مدينة وادعة في الجنوب، بعيداً عن الحدود الإيرانية المتشعّبة. فوق مكتبه سوار من صنع أفغاني وعلبة من الشاي الأخضر الهندي.

تطوّع للقول: «هذه هدايا من الأفغان الذين "نستضيفهم" لبعض الوقت. عندما نعيدهم إلى بلدهم يتركون أغراضاً خلفهم ويدعونني لزيارتهم إذا ذهبت إلى أفغانستان يوماً». في هذه اللحظة، بدا لي كأنّ محمد عثمان والضابط الإيراني وأنا شخص واحد.

بعد ساعات ثلاث ساقوا محمد عثمان إلى حيث كنا. بدا لي سعيداً، وبدأ يتمتم ببشتونية غليظة لا يتقنها أيّ إيراني. كان يحاول إظهار أفغانيته للسلطات، ولكن حتى أثناء تكلمه بالبشتونية، ذكّرني بالقصة التي اتفقنا عليها قبل أشهر حول عمله لمصلحة والدي.

«أين كنتَ كل هذه المدة؟»، سألته.

مجدداً أمطرني بالبشتونية. «كان مفترضاً أن آتي بابنة عمي من قندوز وقرّرت أن أصطحب معي بعض الأشخاص الذين أرادوا القدوم إلى إيران. ما الضرر في ذلك؟ لكن المرأة، ابنة عمي، ماذا يمكنني أن أخبرك؟ لقد سمعتُ أنّها تزوّجت من إيراني فيما أنا أتعفّن هنا في السجن».

لم تكن لدي أدنى فكرة عمّا إذا كان يخترع هذه القصة كلّها. إنّه يلعب دوراً مختلفاً اليوم. الجندي الذي كان يقف بتأهب قرب الباب، أتى له بكوب من الماء، فيما كان محمد يشكره ببشتونية مضطربة. بدا كأنّهم يميلون، كالعادة، إلى اعتباره أفغانياً. قال الضابط: «سنرسله إلى أفغانستان قريباً».

هذه المرّة، همهم محمد عثمان بلكنة أقرب إلى تلك التي يتكلم بها الحدوديون: «هذا أفضل بكثير. من يريد إيران على أي حال؟».

الجندي، الذي تأهب مجدداً، أطلق تنهيدة كأنّه يؤكد على ما قاله. هناك أمر غريب تماماً، وربما عاطفي إلى حد ما، حول وضعنا في هذه الغرفة، وحول القانون الذي يمزج بين التعاطف واللاتسامح. بعد أكثر من عام من محاولة اكتشاف تجارة تهريب البشر في هذه المنطقة، أخيراً أفهم أنّ ما كنت أحاول أن أضع اصبعي عليه هو الهوية. من هو محمد عثمان؟ مهرّب، ليس أفغانياً ولا إيرانياً. شخص على الحدود. محمد عثمان، شأنه شأن كثيرين من سكان الحدود، قادر على اتخاذ أكثر من شكل؛ يمكنه أن يكون روبن هود أو نوح. يمكنه أن يجعل حياة الناس أفضل، كما يزعم، ويمكنه أن يقودهم إلى السجن.

استأذن الضابط لمغادرة الغرفة لبعض الوقت. فيما كان الجندي لا يزال موجوداً، سألتُ محمد عثمان إن كان يحتاج شيئاً. تابع لعب دور البريء – عاشق، جاهل، أفغاني بشتوني. راوٍ ماهر، لكن لا يزال عليه أن يمضي ستة أشهر في السجن وأن يدفع غرامة قبل أن يطردوه خلف الحدود.

تذكرت آخر صورة لنا في الصحراء، وهو يسألني عن عملي.

«كلانا تاجران، تعلم ذلك».

نظر إليّ، وكنتُ أريد أن أصدّق أنّه مهرّب ذكي كما تمنيت.

«أنا كاتبة، أبيع كلمات للناس. وأنت تبيعهم حدوداً».

أخرجت من حقيبتي كيس الكحل الذي أعطانيه وتركته له على الطاولة. لكن الحالم الغامض لم يبدِ أي اهتمام.

عليّة عطائي

مؤلفة وكاتبة سيناريو إيرانية أفغانية، ولدت عام 1981 في إيران ونشأت في دارميان، المنطقة الحدودية الواقعة بين محافظة خراسان الجنوبية في إيران ومحافظة فرح في أفغانستان. كانت عطائي من سكان الحدود، ويعيش جزء من عائلتها في إيران والجزء الآخر في أفغانستان.

×