30 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

تامر محسن: الــ Puppeteers أبطالي الحقيقيون، المجهولون

رضوان آدم

19 شباط 2024

العدد السادس
«ليس هناك مشروع عمل درامي اسمه القاهرة بالنسبة لي الآن»

 

(1)

في قهوة شعبية، جلستُ أنتظر. اندهشتُ مع شابين مُندهشين من المرأة العصبية التي فشلت في ركن سيارتها داخل جراج عمارتها، فدخلت بسرعة هستيرية في شجرة. ضاقت عليكِ الدنيا؟. توترتُ من المرأة المتهوّرة التي تصرخُ في وجوهنا ولا تنتبه لدمائها التي تسيل.

عندما بدأ جمهور المقهى المتزايد، يتفلسف، ويُحلّل شخصية المرأة، تحرّكتُ أنا إلى مقرّ شركة فيلم خانة القريب من الشجرة المُصابة. هاتفني المخرج المصري تامر مُحسن. تحرّكتُ وأنا أتساءل في حيرة بالغة: لماذا لا تكون هذه المرأة شُجاعة؟!. كنتُ في حاجة ماسة إليها؟. كنتُ في حاجة ماسة إلى جرعة suspense وأنا في طريقي للقاء تامر مُحسن.

 

(2)

لا يدلّ مدخل البناية حيث شركة فيلم خانة التي أسّسها تامر مُحسن حديثاً، على أي يافطة كتلك التي تُعلّق في مداخل العمارات. قد تكونُ هناك يافظة لكنّ قصّة المرأة العصبية أخفتها عني.

من المهم أن يبدأ اللقاء بدردشات إنسانية بسيطة. دخّنا سيجارتين في بالكونة صغيرة تطلّ على الشارع وتحدّثنا عن الأحوال، والحياة، والبناية المقابلة التي كانت مغلقة لسنوات ثم دبّت فجأة فيها الأنوار. إنّها الحياة.

متى بدأ الشغف بالفن؟. الشغف كلمة استعرتُها من حدّوتة العمارة التي دبّت فيها الأنوار. الحديث عن فترة التكوين في الطفولة يُلمّع النوستالجيا، «تقتحمني أسئلة كثيرة: كيف بدأ الشغف. في أي توقيت؟. في أي شكل؟. ما أسبابه؟. كنتُ طفلاً عاشقاً لأوبريت الليلة الكبيرة. الأوبريت الغنائي الشهير كان محرّكاً أساسياً للطفل تامر مُحسن. من يُحرّك عرائس الماريونيت؟. لماذا لا يظهرون؟. بدأتُ أحب المسرح!».

الأم كانت قريبة؟، «كانت تُراقب طبعاً. طفل يلعب ويرسم. كانت تشعر أنّ هناك شيئاً ما. كنتُ أرسم في سن مبكرة جداً. مسرح القاهرة للعرائس كان الكعبة بالنسبة لي. المهابة وباب الفن الواسع. كان حُلمي أن أدخل الكواليس وأفتّش عن أولئك الأسطوريين الذين يحرّكون العرائس: الــ Puppeteers. كان همّي الأكبر أن أقابل المخفيين. من هنا بدأ الشغف. لم يكن همّي التمثيل. لم أفكّر وقتها أن أكون ممثّلاً. كنتُ مشغولاً بالأصابع التي تحرّك الخيوط، وتخلق حياة فيها مشاعر وحدّوتة. هؤلاء كانوا أبطالي».

هل كان هذا انحياز مبكر لغير السائد/خفايا الهامش؟، «أنا مشغول دائماً بما وراء الشيء، بخلق الشيء وليس الشيء نفسه. الناس تتوقف عند الصورة غالباً. الطفل اكتشف من فوق المقعد إنْ هناك صورة وأداء للعرائس لكن هناك جانب أهم: من يحرّكهم؟.

التركيز الشديد، المشاركة، في كل تفاصيل ومراحل العمل الفني، طاقةٌ اكتسبها الطفل تامر مُحسن من الــ Puppeteer، يمكن أن يفسّر أطباء النفس أحسن منّي ما سأقول. شعرتُ أنّ عندي القدرة على التحكّم في تحريك الأشياء. عندي تصوّر ما وعندي إصرار إنْ يطلع للنور بأي طريقة. بشكل ديكتاتوري شويّة في فترة الطفولة».

قدّم تامر محسن ابن التسع سنوات أولى مسرحياته على الإطلاق لسكّان العمارة (في حيّ حلوان القاهري). يتذكّر وعيناه تلمعان: «أنا من ألّف المسرحية، وأنا من كتب كلمات الأغاني ولحّنها. أنا من سجّلها على شريط كاسيت، وصنع العرائس، وبنى مسرحاً وقلَبَ الكنبة. قرّرتُ أن تكون هناك تذاكر دخول. والدتي عاتبتني. ما يصحّش تاخد فلوس من الجيران!. أنا رفضت. هناك طقس مسرحي يجب أن يكتمل. تضطر أمي هنا لإكرام جمهور المسرحية بالساندوتشات والحلويات والمشروبات».

 

(3)

فترة التجريب استمرّت في الصبا والمُراهقة؟، «في مدرسة العائلة المقدّسة في حلوان، شجّعتني معلمة الرسم على بناء مسرح في غرفة الرسم. بنيتُ كشكاً وكان هناك أراجوز، وقدّمت مسرحية. ألّفتها وأخرجتها وأشركت زملائي فيها. كان اسمها حكايات جُحا. أتذكّرها. أتذكّر مسيو إلياس، ناظر المدرسة. قال لي: خُذ المسرح الكبير في المدرسة. عرض دعماً. قلتُ إنّ 300 جنيه كافية. كنتُ في الصف الثالث الإعدادي. أحضرتُ فواتير الخشب وكل لوازم المسرح وأعطيتها لمسيو إلياس. كانت خطوة كبيرة. خطوة احترافية؟. نعم خطوة احترافية وكانت المسرحية بتذاكر واعترض الناظر لكنّه وافق في النهاية!».

كأنّ المُخرج بدأ يتكوّن في هذه اللحظة؟. مُحرِّكو العرائس قريبون من سؤالي؟. يتذكّر تامر مُحسن اللقاء الأوّل في تحضيرات المسرحية، «كنتُ خائفاً أن يراني أصحابي ديكتاتوراً. تركتُ لهم المجال كي يجيبوا عن: من أين نبدأ؟. ساد الصمت. ساد الصمت الكبير. قلتُ لهم إنّ تصوّري عن المسرحية كذا وكذا. فُلان سيُحرّك العرائس، وفُلان سيبني الديكور. كانت هذه فعلاً بداية المخرج. وضحت الأمور. نجحت الاجتماعات. نجحت البروفات، وطبعاً نجحت المسرحية».

حتّى لحظة نجاح المسرحية، وقبيل دخول الجامعة كان تامر مُحسن يشاهد أفلام السينما، ويعشق العرائس، ويحلم بالمسرح، وبأن يكون مهندساً معمارياً (العائلة ترغبُ أيضاً)، وأن يكون مخرج سينما. كل هؤلاء في الحُلم؟، «كان اختياراً صعباً. منذ تلك اللحظة بدأت لعبتي. أُصمّم مسرحاً، وأُصمّم سينما وأدمجهما في بعض!

في كلية الفنون الجميلة، قسم العمارة، دمجتُ كل أحلامي. من أوّل يوم، فتّشت عن فرقة المسرح. لم أقرّر وقت دخولي الجامعة أنّني سأدخل بعد البكالوريوس معهد السينما. لم أكن أعرف وقتها حقًا. طوال سنوات الجامعة الخمس، كنت عضواً في فريق Atelier المسرح. كنتُ ممثلاً، ثم رئيس فريق المسرح. قدّمنا مسرحيات كثيرة، وكنّا دائماً نُنافس على المركز الأول على مستوى الجمهورية (مصر). عرضنا مسرحية مرعى الغزلان، والزير سالم، وحفلة للمجانين، وكانت الأخيرة من تأليف الفنان خالد الصاوي. كل هذه المسرحيات أخذت المركز الأوّل».

كان الخوف من مسؤولية المؤلف أكثر ما يقلق تامر مُحسن، الطالب في كلية الفنون الجميلة. في السنة الثانية بدأ على استحياء بكتابة مسرحية الماريونيت. كتبها في مترو الأنفاق بين حيّ حلوان وحيّ الزمالك لكنّه كان قلقاً من ردّ فعل الجمهور. اقترح على زملاء أن يشاركوه العرض. اكتمل العرض، وسوف يراه الجمهور. ما العمل؟. هل دبّرتَ خطة؟، «أنا مخرج المسرحية لكن خايف أعرض المسرحية، خايف الناس تحضر. عرضناها بلا دعاية، وفي توقيت صعب جداً. الرابعة عصراً. وقت ميّت. وقت المحاضرات!».

ما حدث كان مفاجأة. ماذا جرى؟. استقبل الجمهور العرض باستحسان كبير. يومان غير كافيين لعرض المسرحية. عُرضت المسرحية لعدة أيام، وبعدها، وبالمصادفة، «قام زميل اسمه محمد عبد الخالق، بتقديم العرض، دون علمي، إلى مهرجان المسرح القومي في دورته الرابعة. كان مهرجاناً كبيراً. قلقتُ أكثر، وشعرت بالخجل. ستحصل فضيحة!».

«صنّاع الفِلم الوثائقي والقصير مظلومون» (من مجموعة تامر)

 

تتردّد عبارة «الخوف من النجاح» في حديثنا. فرغم مرور أكثر من ثلاثين سنة لم يُخرِج تامر مُحسن مسرحية أخرى بصدى الماريونيت. عُدنا إلى الماريونيت: لماذا خفت من نجاح المسرحية؟، «لا أعرف. أنا لم أدرس المسرح، وهناك خريجو مسرح، وأساتذة مسرح كبار في مصر. أنا هاوي. أقنعني عبد الخالق بالعكس. فوجئت بأنّ لجنة المشاهدة، طلبتْ أن يكون العرض في حفل الافتتاح. لكن خفت مرة ثانية. كانت اللجنة مُرعبة وفيها مخرجون وأساتذة كبار. نهاد صليحة، وعبد الرحمن عرنوس، ومحسن حلمي، وهدى وصفي وآخرون. أروح فين أنا؟. كان عرضنا في الليلة السابعة من المهرجان. وكانت المفاجأة».

في صباح اليوم التالي لختام المهرجان (عام 1992 تقريباً) وبينما كان تامر مُحسن يركب المترو متجهاً إلى حيّ حلوان، فوجئ باسمه وبالمسرحية في الصفحة الأولى لجريدة الأخبار (المصرية)، «الرئيس مبارك يفتتح كذا، والمنتخب القومي لكرة القدم يفوز، والماريونيت تفوز بالجائزة الأولى!. كنتُ طائراً من الفرح، ومن الخضّة».

كرّرتُ السؤال على العموم: هل تخاف من النجاح/الخضّة حتى بعد النجاح الحالي؟، «المسألة نفسية جداً، اكتشفتُ أنّ الناس نوعان. نوع من السهل أن يثق في ذاته، ونوع مثلي، صعب جداً أن يثق في نفسه!. النوع الأوّل مع أقل نجاح، يقول إنّه رائع، لكن أنا أخذتُ خطوات كبيرة إلى الوراء. قلتُ إنّني لن أُكرّر تجربة مسرحية الماريونيت. سيقولون إنّني كنتُ شخصاً محظوظاً. كنتُ أميلُ إلى الشك في تامر مُحسن. خطأ أن أجرِّب الحظ مرتين. لذا ابتعدتُ عن المسرح!. ابتعدتُ رغم أنني كنت أرى بعيني تأثير الماريونيت في الحركة المسرحية المصرية في ذلك الوقت. الأعمال كلها ذاهبة إلى روح الماريونيت. كانت مسرحية شديدة الجنون».

 

ما فعله الشاب تامر مُحسن كان خروجاً على السائد/عِناداً مع السائد، وهو الخط الذي لم يكسره في محطاته الفنية اللاحقة وإنْ قال: «في فترة الشاب تكون متحرّراً أكثر. لا حسابات لأي شيء. عكس التيار؟. عادي جداً. الآن، وبصراحة، أنا نفس الشخص العنيد، لكنّني مُثقل بالحسابات. هل ما سأقدّمه مقبول؟. هل سيُفهم هذا أم لا؟. هل عملي يتشابه مع عمل آخرين وأنا لا أعرف؟. رقابياً؟. إنتاجياً؟. الممثلون؟. عندي حسابات كثيرة جداً. هذا حِمل ثقيل على الفنان».

نقطة التحوّل كانت معهد السينما (قسم الإخراج) في أكاديمية الفنون، لكن ما سبق تلك اللحظة كان مُهماً. من بارك الخطوة؟، «الأب أشار بإصبعية على الخبر المنشور في جريدة الأهرام: بدء التقديم في معهد سينما. كان هذا تشجيعاً كبيراً من أبي بعدما اطمئن أنّ ابنه صار مهندساً. أما أمي فكانت منذ أوّل لحظة، الداعم الأوّل، كانت مشروع فنان لم يكتمل. كانت تتبنى أفكاري وتشجعها. كانت تساعدني في عمل العرائس لكن بشرط أن أبتعد عن الإبرة حتى لا أنجرح!. كانت من صُنّاع مسرحياتي الأولى. أتذكر الآن حادثة سقوطي من فوق الدولاب!».

الطفل تامر مُحسن يحرّك العرائس من أعلى لكن يقع بوجهه على حدّ السرير لتنقله الأم على عجل إلى المستشفى. أراني مُحسن الخط الرفيع (الندبة) التي تركتها هذه الحادثة في وجهه. حكاها كأنّها وقعت الآن، «كنتُ أمشي في الطريق الصحيح. كنتُ مجتهداً ومحظوظاً بعض الشيء، وإن استغرب الناس اختياراتي».

 

(4)

من داخل معهد السينما بدأ تامر مُحسن أوّل مشروع إخراج للسينما بفِلم قصير اسمه الحفلة. كان تتويجاً لقُرب تخرُّجه من المعهد. يعتزّ مُحسن بالفِلم الذي كتبه وأخرجه. حاز جائزة شادي عبد السلام في المهرجان القومي السابع للسينما، «الحفلة يُعبِّر عني. أوّل حدّوتة سينما لشخص يشك دائماً في قدراته. شخص خائف. توقعات الأساتذة والزملاء عنّي عالية، وهذا أربكني. لماذا أخذتم مني احتمال أن أفشل؟. بصراحة، في البداية، قرّرتُ أن أقدّم فِلماً عادياً، لكن في لحظةٍ شعرتُ أنني يجب أن أقدّم فِلماً يعكس مشاعري. يعكس التوتر والتطلعات التي تحاوطني، فقدّمت الحفلة».

ما حكايته؟، «قرأتُ قصة للأديب إبراهيم أصلان اسمها العازف، فتذكّرتُ فقرة لامست قلبي. البطل يتورّط في حفلة موسيقية في دار الأوبرا، ويستلم كامنجا من دون أوتار لأنّ العازف الأساسي مات. يحاول الاعتذار أكثر من مرّة لكن يُقابل بالرفض. ينضم هذا الشخص إلى طاقم من العازفين المزيّفين ( آلات من دون أوتار). كانت موسيقى موتسارت تشتغل في الخلفية، بينما يُمثّل العازفون أنّهم يعزفون. يُفاجأ بطل الفِلم بالورود التي قدّمها له الجمهور بعد الحفلة، والتصفيق الحاد الذي يُزلزل القاعة!».

يشارك طالب معهد السينما بصفته مساعد مهندس ديكور مع المخرج الراحل يوسف شاهين في فِلمي المهاجر (1994) والمصير (1997)، ثم يُخرج فِلمه القصير الثاني أن تنام بهدوء حتى الساعة السابعة، الذي فاز بـجائزة لجنة التحكيم في المهرجان القومي الثامن عشر للسينما المصرية وافتتح مهرجان روتردام للفِلم العربي في دورته الثالثة (2003).

 

في محطة تالية، يقضي تامر مُحسن سنوات طويلة في كتابة وإخراج الأفلام الوثائقية. كتب وأخرج أفلاماً عدّة، أبرزها اغتيال حسن البنا (2002)، واغتيال السادات (2005)، وسعد زغلول.. الزعيم وظلّه (2008).

الفِلم الوثائقي والقصير مظلومان؟، «حاولتُ أن أسأل نفسي هذا السؤال؟. نعم. سألتُ نفسي: هل نحن لا نقدّم شيئاً جذاباً؟. أنا قدّمتُ أفلاماً تحاول أن تكون جيّدة وجذّابة. الآن، أنا أُشجّع الشباب لإنتاج أفلامهم الوثائقية والقصيرة الجيدة، لكن اللحظة الإنتاجية صعبة. قد أُشارك في الإنتاج، لأنني لستُ منتج أموال، وبدأتُ أفكّر في شركاء يساعدون. كان الأمر مُحبطاً. لا أحد يهتم. كان سؤال الشركاء: أنت من سيُخرج؟. كانت إجابتي: لا. لم يهتموا. صنّاع الوثائقي والقصير مظلومون طبعاً».

 

(5)

رغم نجاحه مخرجاً جماهيرياً في المسلسلات الدرامية في السنوات الأخيرة، فإنّه يكره المسلسلات ولكنّه يدين لها بالفضل. علاقة كراهية وغرام. تبدو الدراما بالنسبة إلى تامر مُحسن جسراً بين المسرح والسينما.

في دراما شهر رمضان (2013) يقدّم مُحسن حبكة درامية على غرار تلك التي صدمت جمهور بدون ذكر أسماء. المسلسل كان أوّل عمل أخرجه تامر مُحسن للدراما التلفزيونية في تعاون أوّل مع السيناريست الشهير وحيد حامد. مسلسل يؤرِّخ لما جناه انفتاح السبعينيات على المصريين في حقبتي الثمانينيات والتسعينيات: «شحاذون وانتهازيون، وصحافيون وسياسيون فاسدون. فقر وحب، وعلاقات مشبوهة، وتديّن أكسسواري، ونهايات غريبة لغالبية الشخصيات».

في هذا المساء الذي عُرض عام 2017، تفاجأ الجمهور بتامر مُحسن الذي يبني دراما مختلفة عن السائد. كل المسلسلات المصرية وقتذاك، كانت تتنافس على من يعرض عدداً أكبر من الجثث الغامضة على الشاشة، لكن مُحسن كسر السائد وبنى حبكات درامية مختلفة ورسَم الشخصيات بطريقة مُبتكرة. لم يلقِ بالاً بجمهور رمضان. هذا المساء حدّوتة عن القاهرة كطاقة مكان ودورة حياة. عن الزحام، والونَس، والصياح في مراكب النيل، والأبطال العاديين المجهولين الذين يمرّون في الشوارع، ويشترون الورود في عيد الحب، حتى من دون أن نلحظ وجودهم في الحياة. العُقَد الدرامية لا تظهر من الحلقات الأولى، والأحداث غير مُفتعلة، وتصعدُ درجات السلّم الدرامي بثبات، «التجريب يحافظ على علاقتي بالفن. العناد مع السائد. هذا ما حرّكني في هذا المساء».

 

(6)

استمراراً للمعارك مع السائد درامياً، أثار مسلسل لعبة نيوتن (2021) ضجّة في مصر والعالم العربي. قصة غير عادية تدور حول شخصين يخطّطان سرّاً لإنجاب طفلهما (إبراهيم) على الأراضي الأميركية، ولكن تتعقد الدنيا، وتقوم قيامة العائلة الحالمة وتظهر النهايات المؤلمة التي تضعنا أمام أسئلة كثيرة: هل نحن قدّيسون أم بشر يُخطئون فيتألمون؟. في نهاية لعبة نيوتن نسأل أنفسنا بصفتنا جمهوراً مُنفعلاً: «وإيه يعني جنسية أمريكية؟، وليه هَنا انشغلت عن ابنها، والأب حازم راح في حتّة نفسية تانية؟. مين يخلّي باله من الولد؟. منكم لله.. ظلمتوا إبراهيم!».

منذ الحلقة الأولى بدأت الضجّة، «كان لعبة نيوتن مُغامرة. أنا أذهب إلى مناطق داخل مصر بالعافية، فإذا بي أذهب إلى أمريكا كي أُصوّر جزءاً من مشاهد المسلسل. كنّا في عزّ وباء كورونا ومع ذلك أنهينا المسلسل. أنا غامرت فيه. منى زكي مثلاً لم يكن لديها جمهور كبير في الدراما في ذاك الوقت، لكنني غامرت. الناس تريد نيللي كريم، أو هند صبري، لكنني غامرتُ بها. شكل الدراما كان مختلفاً. الخيوط الدرامية ليست كثيرة. شخصيات المسلسل لا تتعدى الستّة. كل هذا عكس السائد».

ما معنى هذا؟، «أنا كسرت توقّع المشاهد. دوري كمخرج أن أخالف توقعات الجمهور. أن أدهشه. لمعان أعين الجمهور هو دوري كمخرج. مغامراتي مضمونة؟. بالعكس، لكن هذا سحر اللعبة، وفي كل مرّة أبحثُ عن لعبة مختلفة ومشاعر مختلفة، مشاعر أعرفها أو عشتها وهذا يجعلني قادراً على معرفة دواخل كل شخصية في أعمالي، أنا مشغول جداً بدغدغة كل ما أكرهه فينا من أحكام مُطلقة وسريعة على الناس والأشياء. يشغلني أن ألعب مع المشاهد هذه اللعبة الشريرة. يجب أن يتخلّص الناس من أحكامهم السريعة على الشخصيات التي أبنيها. في لحظة ما يكتشف المشاهد، بسبب التسرُّع، أن عليه أن يُراجع أحكامه، ويعترف بأنه مُخطئ. الدنيا أعقد من أن نُلخّصها في كلمة أو حكم. شخصياتي تأخذ المشاهد في رحلة، ويتورّط معها، وأحيان كتيرة تخدعه، وقد يتعاطف معها، ثم يكرهها، ثم يتعاطف معها، ثم يعود ويُراجع نفسه. هذا شيء يشغلني جداً في الحكاية».

 

(7)

لا المسرح ولا الدراما. يحب تامر مُحسن السينما أكثر. ومع أنّه تخرّج قبل 21 عاماً في معهد السينما، فإنّ شغف السينما لم يُترجم في ملامح مشروع بعد. فحتى الآن في الفِلم الروائي الطويل هناك فِلم وحيد قط وفار (2015) فِلم طويل، ووحيد لمُحسن في السينما. صراع بين قط (محمود حميدة- السلطة)، وفأر (محمد فرّاج- المواطن العادي) على جثّة الأم (سوسن بدر- أو مصر كما يتخيّل البعض). في نهاية الفِلم ينتصر الفأر على القط عندما يعرف خفايا قوّته.

اعتمد قط وفار روح أفلام الكارتون في بناء الحبكة، لكنّه لم يُحقّق نجاحاً جماهيرياً، «أنا راضي عن فكرة المُغامرة. نجاح المغامرة أو فشلها أمر آخر. اسمها مغامرة!. فِلم كارتون للكبار. قط وفار بالنسبة لي فِلم مُدهش ومُختلف. روح الكارتون ذكية لأن الفِلم يجب أن لا يتسلل إلى ما تحت الجلد. بالعكس. يجب أن تتفرّج عليه بدرجة عالية من العقل الواعي».

بعيد أنت عن السينما؟، خائف منها؟، «بصراحة، أنا مقصّر بشكل رهيب في حق السينما لكن هناك تحضيرات لعمل جديد لن أُفصح عن تفاصيله. لا أعرف سبب التأخير. قد يكون الخوف. السينما أكثر شيء أحبّه في الحياة. ألفّ وأدور دائماً حول السينما. أخاف وأتردّد وأتأنى. وهذا يُعطّلني، كما أنّ آلية صناعة المسلسلات أصبحت سلسة بالنسبة لي. ومع ذلك لو تركتُ نفسي، لن أشتغل سينما. أحاول الآن العودة إلى السينما لكنّني أخاف. عندي تخيّل لسينما في منطقة عالية. سينما مُدهشة. هل أصل إليها؟. أحاول».

«مستوى ذائقتنا الفنية في مصر والمحيط العربي ضعيف»

 

(8)

يدخل تامر مُحسن كل تجربة فنية بحقيبة إخراجية جديدة، «أنا في قلب كل مغامرة جديدة، أحبّها، وأستمتع بها، ولا أحب تكرار شكل نجاح معيّن». لكن هذا يجعله في مرمى بعض النقّاد: «هذا المخرج لا يملك أسلوباً خاصاً»، أليست هذه خطورة عليك بصفتك مخرجاً؟، «كل حدّوتة تحدّد أسلوبها. الحدّوتة محرّك أساسي. قد تكون هذه مسألة مُربكة، ومُخاطَرة للبعض، لكنني أعتقد أنّه إذا كان تحقيق الإدهاش، والإيمان بتقديم حدّوتة جيدة، يعني إخفاء أسلوب المُخرج، فلتختفِ ذات المخرج!».

المخرج الجماهيري يضمن جمهور أعماله الفنية في جيبه الصغير. هل ما زلت بعد هذا النجاح، لا تعتبر نفسك مُخرجاً جماهيرياً؟، «ما هو معيار الجماهيري أساساً؟، سأقول كلاماً يُحسب عليّ لكنني سأقول. يجب أن أقول إنّ الشعوب لأسباب كثيرة جداً، يتشكّل مستوى تذوّقها، ووعيها بالفن، بشكل متفاوت. نحن لا نشبه بعضنا البعض. الحاصل على درجة عالية من العلم لديه درجة تذوّق أعلى، المتخصص في دراسة الفنون ذائقته أعلى وأعلى، من يشاهد أفلاماً ومسلسلات مهمة هو متلقٍ مهم. الفقير المُستهلَك في الحياة، لا يملك البراح لزيارة معرض فن تشكيلي مثلاً.

للأسف، مستوى ذائقتنا الفنية في مصر والمحيط العربي ضعيف. لن نضحك على بعض. هذا عكس المتلقي الأجنبي الذي يقرأ في المترو والباص. فارق كبير. هناك فارق أن تُخاطب جمهوراً أنت تتخيّله (تُعالجه بصرياً). وعيك بهذا المتلقي الضعيف يجعل الــ IQ للعمل يهبط. عندما تكتب قصة عن صديق لك ذي ذائقة عالية، فأنت تحكيها بطريقة تختلف عن حَكْي نفس القصة لطفل. هنا أنت تحتاج إلى التنسيق والتفصيل حتى يستوعب الطفل.

إذًا، نحن مُدركون الآن أنّ شكل الحكي يتأثر بمستوى الــ IQ لجمهورك. فعندما لا تكون واضحاً ومُباشراً في بعض الأحيان تفقد الجمهور الواسع، وإذا كنتَ واضحاً ومُباشراً تفقد قطاعاً آخر سيهاجمك. هذه إشكالية أعاني منها. لذا أنا مخرج غير جماهيري. أنا ألعبُ في منطقة المنتصف. ساعات أتقدّم بعد المنتصف لصالح غير السائد، وساعات أخرى أرجع إلى الوراء قليلاً. تحت السيطرة مسلسل خاص جداً، هذا المساء جماهيري بدرجة، لعبة نيوتن جماهيري أكثر. أتمنى أن أُخرِج عملاً تفتحه الناس في المقاهي في شهر رمضان. أتمنى هذا، لكنني لا أستطيع. هذا يتطلب أشياء أخرى. أعرف جداً أنّ الناس لن تحب كل أعمالي».

إلى أي مدى تؤثر فيك ردّة فعل الجمهور؟. أنت تفاعلت مثلاً مع ردود الفعل حول مصير هانيا في مسلسل تحت السيطرة ولم تقتلها في العمل الفني كما كان مقرّراً، بل أنقذتها؟، «هذا الأمر كان في السابق. في مرحلة من حياتي كنت مرناً مع رأي الناس. لو كان الرأي سلبياً، لا أنام في الليل. أريد أن أنجح فقط. كانت مرحلة وكُسرت. أنا مبسوط الآن لأنّ هذا القيد انكسر. قرأت عبارة ضايقتني في منصة X حول فِلم قط وفار. كنتُ غاضباً جداً ولكن بعدها هدأت. أريدُ أن أُقابل هذا الشخص كي أشكره لأنّه حرّرني من الفقاعة الزجاجية. من حقّي أن أعمل نصوصاً حلوة، ونصوصاً تراها الناس غير حلوة. سعيد بنسخة تامر مُحسن الحالية لأنّها أكثر حريّة».

كثُرَ الكلام في الأعوام الثلاثة الأخيرة حول مشروع حُلم اسمه القاهرة من إخراج تامر مُحسن. قيل إنّه مشروع درامي كبير يتكئ على روايات عدّة للأديب المصري الحائز جائزة نوبل للآداب نجيب محفوظ، وأنّه سيكون مفاجأة فنية، بالمشاركة مع السيناريست مريم ناعوم. أين المشروع؟. أين وصل، وأين المفاجآت؟، «المفاجأة أنّه لا مفاجآت. ليس هناك مشروع اسمه القاهرة الآن بالنسبة لتامر مُحسن. ظهر اسمي في حدّوتة الإعلان عن المشروع، وأنا لا أعلن عن مشاريعي. كنتُ مُتحمّساً، وكان المشروع يسير طبيعياً في أوّل الأمر ولكن حدثت تطورات، وقرّرتُ أن أكون خارج هذا المشروع. هو الآن في عُهدة مريم نعوم. أنا مُنشغل حالياً بمسلسل درامي سوف يُعرض على منصّة رقمية، المشروع في مرحلة الكتابة، وقد نبدأ التصوير في النصف الثاني من 2024».

نُدخن سيحارتين أخيرتين، وأسأله: ماذا عن علاقة الكاتب تامر مُحسن، والمخرج تامر مُحسن؟، «نحن مُنسجمان، وعلى خير ما يُرام. تعرف!. الآن، أكادُ أحب الكتابة، والسيناريو أكثر من الإخراج. ظروف الإخراج صعبة، وتزداد صعوبة مع الوقت. ضغط العمل، والضغوط الأخرى. أنت داخل في معركة، لكن الكتابة فيها ظروف جيدة وأجواءها جميلة. الكتابة والإخراج بالنسبة لي شيء واحد، لأنني أُخرِج المشهد وأنا أكتبه. أعتبرها عودة إلى الطفل الذي كان يؤلّف ويُخرج مسرحياته لسكان العمارة».

 

(9)

عندما خرجتُ من البناية، لم أكن راضياً عن اللقاء. لم أكن سعيداً لأنّ مراحل التكوين والتجريب أخفت الكثير من الأسئلة الأخرى. كما أنّ تامر مُحسن، وقد أكون مخطئاً، يُخفي خطواته، وأسراره، حتّى لو سألته مليون سؤال!. يختبئ مثل الــpuppeteer.

في المساء، كنت راضياً عن الاقتراب الأوّل، لأنني عرّجتُ على المقهى، وعلمتُ أنّ المرأة المتهوّرة في حالة جيّدة. شعرتُ بالراحة والوَنَس. أنقذها رجال الإسعاف في آخر لحظة. ليتني دخلتُ لقاء تامر مُحسن مثلما دخلت المرأة الشُجاعة في الشجرة!.

رضوان آدم

صحافي مصري وقاص وكاتب اسكريبت للفِلم الوثائقي والفِلم القصير. صدرت له في القصّة مجموعتان عن دار روافد للنشر: جبلُ الحَلَب (2013)؛ دَبيبُ النّجْع (2019)؛ وفي الفِلم الوثائقي: يوسف إدريس؛ نجيب الريحاني؛ أسامة أنور عكاشة؛ سليم حسن... حفّار مصر القديمة؛ وفي الفِلم القصير: البلابيصة؛ اختناق القمر.

×