7 تشرين الأول 2024
27 تشرين الثاني 2023
العدد الخامس
لم أكن يوماً أتخيل أنّ الخدع السينمائية المستخدمة في صناعة الأفلام وتقنيات الإبهار البصري يمكنها أن تكون واقعاً حقيقياً. هكذا بدت لي المربعات السكنية في حي اليرموك وسط مدينة غزّة، كأنّها تلك الصور الهاربة من أفلام الخيال: الأبراج والمباني العالية تكوّمت كالجبال، فيما تداخلت البيوت بعضها في بعض كأنّها قطع بسكويت ذابت في كأس شاي ساخن.
لا معالم للحيّ، كأنّه مكان آخر تماماً، كتلك الغرفة الصغيرة بحائطها الأخضر الملوّن التي تحوّلها كاميرات السينما إلى ساحات قتال شرسة. لعنات إسرائيل كانت أشبه بتلك الكاميرا وهي تحوّل الحيّ الباسق إلى أكوام متهالكة من الرماد ضمن أبشع المجازر التي ارتكبتها خلال حربها على قطاع غزّة.
هذه الحرب التي تعجز عن وصف أهوالها كل لغات الكون وأدب العالم ومفرداته أطلق عليها سكان المدينة «حرب الإبادة» كأقل تعبير. هذا الخراب يصنعه «حزام ناري»، وقد يبدو المصطلح رومانسياً أمام فواجع ومآسي ما تخلفه قنابل تلك الأحزمة ونيرانها.
أطنان القنابل تسقط على البيوت والعمارات والأبراج والأرصفة فتحيلها بمن فيها إلى حطام وأشلاء. هذه الصور الصادمة المرعبة كنت على موعد معها في أيام الهدنة المؤقتة حين خرجت لأتعرف إلى شكل المدينة بعد أكثر من أربعين يوماً من القتل والإبادة.
لم أعرف «اليرموك»، هذا الحيّ الذي يقع فيه منزلنا، فقد بدا كأنّه قد دخل في آلة زمن قديمة غيّرت شكله ومعالمه. تقول إحدى الفتيات لشقيقتها: «أماني، وين دارنا! جد أنا مش عارفة وين دارنا...». فمن نجا في تلك المنطقة التي لا تزال عشرات الجثامين تحت أنقاضها وركامها يعيش موتاً صامتاً من الصدمة والخوف والوجع والمجهول.
أسأل أحد الجيران عن الجد الذي كان في كل عصر يلعب مع أحفاده كرة القدم ثم يجلس بعدها طويلاً وهو يراقبهم بكل حب الدنيا ممسكاً بمصحفه يتلو سور القرآن بصوت خافت جميل. يقول الجار: «هوا ضل حد؟ لا السيد ولا الولاد ولا الأحفاد؛ كلهم ماتوا. الفيلا تاعتهم نزلت باللي فيها».
أشعر بغصة ويقرصني قلبي وأنا أتذكر تفاصيل الحيّ بضحكات صغاره وضجيج كباره، وروائح المخابز والمطاعم وموائد الأمهات وصوت صاحب محل الفواكه وهو يجادل زبائنه على الأسعار، وحتى صوت بائع الكلور والغاز وأصوات الباعة المتجولين، وأيضاً هناك اللاعبون الصغار المتقمصون أداور رونالدو وميسي حين يلعبون كرة القدم بكل مرح الكون وبهجته.
يقول لي صاحب المكتبة التي أضحت كومة من الخراب: «بتعرفي الولد الحلو حسن أبو عيون خضرا إلّي كان يِدْوِشنا ف شيل شيل يا طويل العمر؟ راح وكل الولاد الصغار إلّي كانوا يلعبوا معه راحو». أشعر بدوار وأنا أتذكر آلاف الضحكات التي أسكتتها نيران الموت، وآلاف الأمنيات والأحلام والألعاب والمشاوير التي ذهبت دون إقامة حداد أو مواساة.
في غزّة، تتوالى أخبار الفقد، ففي نهار اليوم الواحد لا تكاد عائلة إلا وتستقبل خبر رحيل قريب أو صديق أو عزيز. تقول جارتنا: «والله ما احنا عارفين نعزّي مين ولا مين...».
ما يجري في غزّة لا يمكن للعقل البشري أن يستوعبه، فحجم المصاب هذه المرّة يفوق الخيال. وفي الهدنة، جاءت مئات العائلات التي تركت بيوتها ونزحت من غرب المدينة نحو الشرق لتبحث عما تبقى لها من ذكريات. تبكي بألم بيوتاً ومنازل كانت الروح والأمان وسهرات الليل الطويل وشجارات النهار ومشاكسات الأطفال، ثم تحوّلت في غمضة عين إلى هياكل صامتة شاحبة وباكية.
تسألني صديقتي التي ذهبت كغيرها من آلاف العائلات نحو جنوبي قطاع غزّة كيف تبدو شوارع المدينة بعد أسابيع من الإبادة. «أنا أمام مدينة أخرى لا أعرفها» هكذا أجيبها! لم أعرف منطقة الرمال، هذه البقعة التي تعدّ الأكثر شهرة في مدينة غزة وأمكنتها صديقة كل العائلات وصديقة كل المناسبات والأعياد.
كانت منطقة ناطقة بالحياة لا يعرف ليلها النوم ولا نهارها السكون، وتضم أشهر المطاعم والمحلات التجارية التي تبيع الماركات العالمية. وفيها بوظة كاظم الشهيرة وقهوة بدري وهنية والنابلسية لدى أبي السعود وبيتزا الطابون ومعجنات العائلات وأشهر شاورما وأشهر فلافل... بقعة جميلة فيها الموسيقا والثقافة والحب والورود التي تهزم بألوانها ما خلفته سنوات الحصار العجاف.
«الرمال» لم يعد «نيويورك غزّة» كما يحب كثيرون أن يلقبوه، فقد بات صحراء قاحلة يكتنز طرقاتها الدمار والغبار ورمادية الموت. قبل عقود كانت منطقة الرمال كثباناً رملية وأخذت اسمها من تاريخها. والآن تدخل توقيت الماضي والزمن الآخر لكن بصورة أكثر بشاعة ودموية.
يتوه المارون في طرقات كانت تحفظ خطواتهم وأقدامهم وحتى أصواتهم. سقطت الأشجار ومباني الجامعات واختفى الصحافيون والأطباء وصمتت المستشفيات. تغيّر كلّ شيء في مدينة غزّة حتى وجوه سكانها. لم تعد المرايا تعرفنا ولا نعرفها.
في بداية الحرب، كان الجميع في نقاش دائم عن شكل الأيام المقبلة وما قد تحمله من أحداث. الآن، بعد مرور أسابيع من الموت اليومي الجماعي والدخول في دوائر العزلة والاستنزاف، لا أحد يتكلم.
الصمت سيّد الأمكنة في غزّة والمكلومون يعدون الصبر فقط. كل ما تريده المدينة الحزينة أن تسكت هذه الإبادة، وأن تسكت هذه الحرب المجنونة المسعورة، وأن تذهب بعدها غزّة إلى حروبها الأخرى الصامتة
صحافية فلسطينية في غزّة