27 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

مجد كيّال: لن تنجوَ إسرائيل وفلسطين بَلا نِهايْ

محمود مروّة

25 تشرين الثاني 2023

العدد الخامس
وجدته، عابِثاً. يقرأ فلسطين بعيون «يسارية» لم تعد مألوفة

كان بديهياً أن أبادر إلى سؤاله: في أيّ لحظة نحن اليوم؟

فإبّان هبّة الكرامة في عام 2021، حين احتشد الفلسطينيون في أرجاء فلسطين التاريخية دعماً لغزَّة والقدس، قال الناشط والكاتب مجد كيّال إنّها «لحظة الممكن في فلسطين، لحظة تاريخية لنا كلنا نحن أهل فلسطين، من يعيش فيها ومن نُفي منها لاجئاً». إذاً، في أيّ لحظة نحن الآن في ظلّ حرب غزّة؟

أعرفه كاتباً منذ كنتُ أعمل في صحيفة السفير اللبنانية، وكان هو ينشر مقالاته في ملحق السفير العربي. ولكنّي فوتُّ في نيسان/أبريل 2014 فرصة التعرّف إلى ذلك الشاب الآتي من حيفا، من أراضي الـ48 ليشارك في احتفالية مرور 40 عاماً على انطلاقة الصحيفة.

أوقفه الإسرائيليون في طريق العودة عبر الأردن، ونشرت رئيسة تحرير السفير العربي نهلة الشهال مقالة تصفه بـ «المستعمَر المتمرِّد».

هو كذلك فعلاً. هذا ما رحتُ أستشفّه في لقائنا عبر تطبيق زوم قبل أيام. العالم عنده مستعمِر ومستعمَر. و«لا يُمكن للعالم الأبيض أن يرتاح بينما تستمر الإبادة في غزّة». ثم يؤكد لاحقاً أنّ ثمّة مواجهة قادمة مع إسرائيل بالنسبة إلى فلسطينيي الـ48: برأيي هذا حتمي... هذا أكيد.

تشعر بروح رفاقية في الحديث إليه.

ولِد في عام 1990 في حيفا، ونشأ في عائلة نضالية بحيّ الحليصة، «حيّ للفقر»، عند الطرف الغربي للمدينة.

يقول: «أمي وأبي شغّيلة، عملوا كل حياتهم بأكثر من وظيفة في ذات الوقت، ولكن ذلك لم يعطّلهم أبداً، حتى اليوم، عن واجباتهم النضالية في التنظيم السياسي والشغل الاجتماعي». ويضيف: «أبي، مبدّا كان حلونجي نهاراً ثم موزّع صحف ليلاً، وأمي، سهير، عملت بالعناية بالمسنّين ورعاية الأطفال، ثم بعض وظائف السكرتاريا. وكلاهما اليوم يشتغل بمهام اجتماعية مع فئات مستضعفة في المدينة».

يكاد يرفض الخوض في كل ما لا يؤدي إلى التأثير في مجرى الحرب على غزَّة. ما يشغله الآن هو الأثر السياسي «لكل ما يمكن كتابته وفعله». لا يخفي أسفه إزاء «التمييز الزائف بين النضالين السلمي والمسلّح»، بل يعرب بوضوح عن عدم إيمانه «بالمساندة العاطفية وبالتضامن». فلا بدّ لها أن تكون «ذات أثر مادي وفعلي يجعل العالم يحسب خسائره وبالتالي يتراجع عن الحرب».

الكلام مبعثِرٌ عنده، تماماً مثلما في أغانيه مع شريكه الموسيقي فرج سليمان، حيث يتفرّد «بحسّ وذكاء يجعلانه يدخل في تفاصيل صغيرة ووجيهة لينقلك عبرها إلى عالم هو فلسطين، بعيد عن الشعارات الرنانة. وتشعرك التفاصيل تلك بأنّك جزء منه»، تقول صديقة مشتركة.

درس الرفيق مجد الفلسفة في الجامعة العبرية في القدس، دون نيل إجازة. «مبدئياً»، يقول، «كانت التجربة سيئة جداً في الجامعة هناك، وعلى مستوى التدريس كانت التوجهات فلسفياً يمينية ومحافظة بشكل مقرف». ثم يضيف: «بالنهاية خلصت المواد إلّي عليِّ وكان باقيلي أدفع مصاري وأرجّع الكتب للمكتبة وأعمل كورس إحصاء. قلتلهم مع السلامة».

هكذا وجدته: عابِثاً يقرأ فلسطين بعيون «يسارية» لم تعد مألوفة. ما زالت المادية التاريخية بالنسبة إليه هي النافذة الأوسع والأوضح التي يرى منها العالم، بصفتها أداة تحليل وقراءة للواقعين الاجتماعي والسياسي. ويعتقد أنّ شكل عالمنا الحالي «يُحتّم علينا اهتماماً أعمق بالأدوات التنظيمية الأناركية».

أما أنا فرأيتُني أترك المساحة واسعة للمحكية الفلسطينية في نص هذه المقابلة التي نستهل بها إصدار مواد العدد الخامس لمجلّة المراسل، وننشرها ضمن زاويتنا: أهل الهوى، وهم: من نظنّهم يصنعون فارقاً في عالمنا المتهالك.

 

ولكن فعلاً، في أيّ لحظة فلسطينية نحن جميعنا الآن؟

 

مجد: إذا بتِرجَع بِتْدقِّق بالنَّص فهي لحظة كل الممكنات وكل المخاطر. بمعنى أنّ الهبّة الشعبية في عام 2021 كانت مادة خاماً يمكن أن تتأسس عليها إمكانات كثيرة وأن تُبنى وتتطوّر. لحظة يمكن الاستثمار فيها... ولكن أيضاً كانت في الوقت نفسه لحظة مخاطر لأنّه كان واضحاً أنّ إسرائيل رَح تْدِب كل قدرتها وطاقتها لتدمير ما حدث وممكناته واللحظة التاريخيّة إلّي صُنعت في انتفاضة الوحدة تلك.

إذاً السؤال هو: ماذا حدث بعد 2021؟ لأنّ لحظة الممكن انتهت إلى واقع صعب... من تعميق الملاحقة بأدوات متعدّدة، إلى عرب متأسرلين رفعوا رؤوسهم بضخ أموال أجنبي... الدولة الإسرائيلية بأجهزتها كافة وبأذرعها الأمنية والاقتصادية، وكذلك بأذرعها غير الرسمية: يعني عملاءْها والناس المتساوقون والمستفيدون، والصناديق الأجنبية إللّي دعمتها... صبّت تركيزها على محاولة محو ما حدث والتأكد من عدم حدوثه مجدداً.

وفي المقابل ما عِمْلَت القيادات السياسية أو ما يُسمّى النخب الفلسطينية الحد الأدنى المطلوب من أجل تثبيت تلك اللحظة... ربما، وعلى الأرجح لأنّها لم تكن في صالحها. يعني للأسف ولكن واقع التقسيم الاستعماري في فلسطين هو واقع أنتج أيضاً قيادات وبنى سياسية وتنظيمية واجتماعية مرتبطة جميعها بهذا التقسيم ذاته...

ويعني كمان على سبيل المثال لا الحصر، إنتِ لمّا عندَكْ مركز أبحاث يبحث فلسطينيي الداخل وآخر يبحث غزّة وآخر يبحث الضفة، وبِتْقوم بِتقُلْهم: صباح الخير فِش ضفة وفش داخل وفش... في جغرافيا وحدة واستعمار واحَد وشعب واحَد وبالتالي لا يمكن بناء قواعد معلومات ومعطيات وتحليلات ومعرفة منفصلة لكل فئة فلسطينيّة، بتكون وقتها شرعت عملياً بسحب البساط من تحت الأسس، لأنّ الوجود المؤسساتي وأساس التمويل وطرق التفكير قائمة على تقسيم بات متجذراً في وعينا...

أما بشأن العلاقة بين هبّة 2021 وما يحدث اليوم فللّحظة جوانب عدّة:

في الجانب المرتبط بالممكنات، أثبتْ أهل غزِّة إنّو رغم أصعب الظروف، أصعبْها على الإطلاق، يُمكن اجتراح معجزة إذا وُجدت إرادة سياسية للمراكمة. وهذا ليس موضوع تسلّح إنّما هناك ما هو أهم وأعمق: أقصد القدرة على أن تبني بنية اجتماعية كاملة ومتماسكة وشبكية على أصعدة الحياة كافة بمعزل شبه مطلق عن الإسرائيلي... هذه الإمكانيّة ثبَّتِتْها وحقَّقِتْها غزّة.

يعني بتِقدر تقول إنّه بالحصار إسرائيل حفرت قبرها بإدِيها... لأنّو العزل الاجتماعي شبه المطلق لأهل غزِّة أنتج إمكانية بناء حالة شبكات إنسانيّة معزولة تماماً عن مراقبة الاحتلال. يعتقدون أنّ مشكلتهم شبكة الأنفاق بينما بالحقيقة مشكلتهم شبكة البشر الذين عُزلوا وعانوا لكنّهم خلقوا بناءً اجتماعياً وأيديولوجياً منفصلاً عن الاستعمار...

صحيح إنّو الاحتلال بيتحكّم بكل تفاصيل ما يدخل ويخرج من غزّة، أكيد، ولكن السؤال هو حول طبيعة التنشئة والتكافل اللذين لا تستطيع إسرائيل العبث بهما من الخارج...

الآن، حتى لو كنت على خلاف فكري مع هذه التجربة، ونحن على خلاف فكري عميق معها، إلا أنّها حققت الإمكانية... أهميِّتْها إنها نزعت عن الاستعمار هيمنته، بمعنى وجوده القدَري، وكأن قوته جزء من طبيعة مسلّم بها...

في «هابيتوس» اتطّحن بالبلد. ثبتت إمكانية «طبيعي» آخر...

على سيرة الاختلاف الفكري، بدك قبل ما تلومها أو تختلف معها بصفتك يساري، بدنا نسأل حالنا إحنا شو اشتغلنا... شو اشتغلنا لبناء شبكات تكافل اجتماعي، أو تعليم، أو كفالة يتيم، أو إغاثة. ومتى كانت آخر مرّة فكّرنا بالسياسة انطلاقاً من العمل الاجتماعي إلّي بيحاول بناء طرق الانفكاك عن الاحتلال؟ هذه بالنسبة لي هي الأفكار الماركسية الأشدّ بساطة: السياسة تبدأ من تحت. واليساريون، بين مزدوجين، هم اليوم أكثر من نسي هذه البديهة بينما التقطها آخرون...

 

 

س: في ظل اللحظة الفلسطينية الحالية وفي ضوء هذه النوستالجيا اليسارية، أريد أن أسألك:

إذا كنتَ قبل أربع سنوات أو خمس كتبت في نصّك السبب:

لأنّي لن أجد في كلّ هذا العالم بيتاً، أو شخصاً، أو بئراً، أو لغةً،

أو بحراً، أو هاردِسكاً، أو حاويةً، أو كوكباً، أو كابوساً، أو حَلقاً،

يتّسع لذرّة من الحقد الذي أتوسّده،

فكيف تقرأ هذه الجملة في واقعك الراهن؟

 

كان النص يدور حول أسباب الكتابة وعدمها، ونحن اليوم في حالة خَرَس مرعبة...

ثمة شعوران:

فمن جهة إنتِ بتِفهم أدّيش الكتابة صغيرة وغير مؤثّرة وغير هامة أمام ما ترى وما يحدث، وأنّها تتحوّل إلى نوع من الهرب من العجز أكثر من أيّ شيء آخر، لست تتجاوز العجز إنّما تنكره. هذا الشعور كفيل بإخراسك فعلاً. ولكن في المقابل، أو بالأحرى ما يغيّر الصورة والموقف هو أنّ السلطة الإسرائيلية تريد هذا الخرس، حتى هذا الحد الأدنى من التعبير يريدون قمعه، بل تمنعك حتّى من الادعاء بأنّك لستَ عاجزاً.

ثمة هذان الشعوران المتضاربان... وأنت تعرف أنّ الإبادة الجارية تتطلب فعلاً أكبر بكثير من أن تكتب مقالة أو بوست عَ فايسبوك، وتشعر بتقصير وعجز تامّين، ولكن من جهة تانية لمّا السلطة الإسرائيلية بتجرِّب تِخِرْسَك بِصير في عندك واجب إنّك تكتب.

يعني لمّا إنتِ بتِعرِف إنّو الاسرائيلي بدو يعتقلك وبدو يلاحقك لأنك كتبت أو قلت أو كذا، فمحاولة إخراسك هِيّ لِبتعطي قيمة لكتابتك، خاصةً في ظل صمت مروع وغير مسبوق هنا في الداخل... أظن أنّ الحرب أعادت للكلمات ثمنها لأنّو كان الحكي ببلاش، الثمن صغير وتافه مقارنة بما يجري في غزِّة... يعني مقارنةً بمن يفقد كل عائلته وبيته وحياته وتُدمّر كل مدينته، سجن الأسبوع والشهر ثمن سخيف.

بالتالي يصبح هذا اختباراً... بعدين إحنا آخر سنين، كل ما تِحكي مع حدا بِقُلك الثقافة مقاومة، وإحنا منقاوم بالقصّة والأغاني والرسم والرقص... وكل هذه الشعارات... وفجأة لمّا صار في ثمن واحتمال عقوبة، بطّلوا حتّى يغنّوا ويرسموا.

اليوم أسهل تشوف مين كان «يقاوم بالفن» لما الحكي ما كان عليه جمرك، ومين كان يقصد فعلاً ما يقول ويكتب ومستعد لدفع ثمن أفكاره ومبادئه. المشكلة طبعاً ليست في فلسطين تحديداً، بل حتّى في عالم الأكاديميا والثقافة بينما يُطرد الناس من وظائفهم بسبب أفكارهم عن فلسطين... هي حالة عالميّة معاصرة تستعمل فيها السلطة الرأسمالية حرية التعبير عن الرأي وحرية الإبداع كأداة لمنعك عن تغيير الواقع المادي...

لأنّك دائماً تعبِّر عن رأيك ضمن طواحين اقتصاد السلطة، وضمن قواعدها القمعية... لكن مثل الآن، لمّا رأيك يساهم في تمرّد حقيقي مادي على الواقع، فضروري يخرسوك

 

 

س: هل تتصوّر المثقف الفلسطيني اليوم مثقفاً عضوياً غرامشياً؟

 

مصطلح المثقف العضوي يُستخدم كتير وبشكل فضفاض وبدون علاقة بمعناه الأصلي، فما بعرف بالضبط شو منقصد فيه اليوم... بمنظور غرامشي المثقف العضوي موجود في كل طبقة اجتماعية، ومش بالضرورة تكون طبقة ثورية. يكون جزءاً من الطبقة وعلاقاتها الاقتصادية ويتمتّع بمقدراتها الفنية والتقنية... وهو يشارك من داخلها في صناعة وتغيير رؤيتها وصياغة توجهاتها.

فيَعني المثقف العضوي ممكن يكون كلب. ستيف جوبز مثقف عضوي، ناكاموتو إلّي عمل البيتكوين مثقف عضوي. السؤال إذاً عن أي طبقة أو فئة نتحدّث...

على أي حال بما إنّو جرّيتني على غرامشي، الهيمنة في فلسطين هي هيمنة التقسيم الاستعماري، والمثقف يلعب إلى حد بعيد دوراً في تثبيت بُنية هذه الهيمنة من خلال التزام اللعب بقواعد التقسيم الاستعماري، بشروطه وبأدواته، والرضى بشكل المجتمع المدني المتشكّل تحت هذا.

خذ الداخل مثلًا، عندك نماذج من المنخرطين بتعميق الصلات بين المجتمع الفلسطيني والاقتصاد الإسرائيلي، عندك أحزاب مقتنعة بمكانها في الهيئات التشريعيّة الإسرائيلية، عندك جمعيات غير حكومية تعمل بتخصصات محلية ومحدودة منزوعة المشروع السياسي...

هذه الحالة مع الوقت، تخلق كوارث وفجوات هائلة، خاصةً بين طبقات مختلفة في المجتمع الفلسطيني.

فجوة هائلة لا بدّ أن تُترجم إلى حقد اجتماعي وإلى إشكالات تنعكس على إمكانات التحرك السياسية. وأظن أنّ هذه هي الأداة الأساسية لفهم ما يحدث في فلسطين اليوم: الفجوات الاجتماعية الداخلية الهائلة التي ليس من مصلحة البرجوازيّة في الأكاديميا أن تتحدث عنها...

فجوة هائلة بين النخبة الحزبية والأكاديمية والثقافية وطبقة الإن جي أوز من جهة، وبين ما نشهده من تدهور اجتماعي وإهدار لبنيتنا الاجتماعية كلها من جهة ثانية...

هذه. الفجوة التي تستخدمها إسرائيل، وطريقها لتخلق صمتاً تاماً... في الداخل بشكل واضح، وفي الضفّة بشكل أشد تركيباً وبتدخُل فيه مسألة سلطة أوسلو، لكنّه حاضر وبقوّة شديدة... هذه النخب تنحصر وتضيق أكثر وأكثر، ويصبح مجتمعنا المستضعف مشاعاً تدب فيه إسرائيل كل قمعها وأدواتها لإخضاعه سياسياً...

في هذه المساحة أيضاً يتحرّك الإسلام السياسي ويحاول أن يجذّر خطابه ويبني تجاربه المختلفة...

 

س: دعني أنتقل إلى مدينتك حيفا التي دارت حولها مجموعتك القصصية الموت في حيفا (2019) ثم رواية الكرمل التي صدرت أخيراً. يعني لو تحدِّثنا عن الواقع فيها اليوم

 

ما نعيشه أقرب في الواقع إلى الرواية الأولى مأساة السيد مطر، من حيث النكبويّة والسوداوية والكارثية والكابوسية.

العلاقة مع المدينة شخصيّة أكثر، أقوى أحياناً من العلاقة مع المجتمع كفكرة متخيّلة أو مع الأفكار السياسية... عندي شعور غريب تجاهها اليوم: شعور إنّو المدينة خذلتك، بعكس الشعور إللّي كان بـ 2021 حين كانت حيفا أشبه بحلم يتحقق مع نصب المتاريس وقيامة المدينة عن بكرة أبيها ضد الاحتلال والاستعمار.

الصمت الذي نعيشه اليوم هو خذلان مرعب. له أسبابه التي تتعلق بالاحتلال وبطشه... ولكن بالشعور العام، بالعاطفة أحكي، عندما تتعامل مع المدينة كشخص بتحبّه، تجد شعوراً بالخذلان أو الألم.

في صمت هائل بالمدينة، بمعنى إنْها مكتومة، وهذا لا يُشبهها بتاتاً

 

بالمناسبة صوت الضرب عالي منيح الليلة

المحاور: بيوصل؟!

بيوصل آه من عندكُ من الشمال من لبنان

 

... فكُنِتْ بَقول إنّ ثمة حالة مريبة فعلاً في المدينة. كأنّك ما بتعرفها. وثمّة حالة تمترس.

بتعرف حيفا نتيجة التشكيل الاجتماعي للإسرائيليين فيها، يعني عُمراً وطبقةً، الاحتدام العنصري فيها أخف بكثير... هدنة دائمة بتفقع كل شوي. ولكن رجعت الأمور تمترست في مربعها الأوّل، والصمت مروّع، والملاحقات شغّالة بس على خلفيّات تافهة جداً...

بالتالي... المدينة غريبة

يعني أنا فعلاً مش عارف، وهذا الشعور بالحزن ما بتذكر في حياتي إنّي واجهته تجاه حيفا، بحياتي

 

 

س: كيف ترى التهديد القائم اليوم بسعي إسرائيل إلى نكبة فلسطينية جديدة؟ تقاتل غزّة ضدّ نكبة قد تمتد إلى الضفة وأراضي 48 بصيغ أخرى

 

إذا نجحوا في تهجير سكان غزّة أو جزء منهم ومرّت التجربة بصمت، فلا شيء سيمنعهم عن تكرارها في الداخل، وفي الضفة الغربية قبل بالمناسبة.

أصلاً، الإسرائيليون يتعاملون مع فلسطييني الداخل والضفة... على اعتبار أنّ كل فلسطيني في فلسطين التاريخية هو قضية غير محلولة بعد ومتروكة، وسط وجود مخططات التهجير: يعني مخططات وين تروح بْمين موجودة.

قطعاً هم على استعداد عقائدي ونفسي وأيديولوجي لممارسة هكذا حرب، وما يحتاجونه هو نوع من الشرعية فحسب... وللمناسبة: جزء من الصمت في أماكن كثيرة ينبع من حجّة إنّو إحنا ما بِدنا نَعطي فرصة إنْهم يهَجرونا إحنا كمان، أو إنّو كمان ما بِدنا نعطيهم سبب لقتلنا في الشوارع لأننا نعرف أنّ لديهم الاستعداد الكامل بأي لحظة...

عجز الإسرائيليين عن تهجير غزَّة يحمينا بالضرورة. وشعور إسرائيل بإمكانية تهجير الفلسطينيين مجدداً إلى خارج فلسطين التاريخية والعالم يْكون رَواق مع الموضوع ويتقبّل الأمر سيؤدي إلى تكرار الأمر في الضفة وفي الداخل... وسيُعاد.

طبعاً منتحدث في إطار زمني واسع... على أي حال، إذا جعلت غزِّة مهمة التهجير مستحيلة، سيصعّب ذلك على إسرائيل أن تعيد الكرّة والمحاولة... ولكن طبعاً كلّه بيتعلق بإحنا كمان كيف بنِتحرك وكيف

 

 

س: هذا هو سؤالي... ما الذي تتوقعه عملياً كردّ فعل في الداخل المحتل؟ أو هل تعتقد أنّ نوعاً جديداً من المواجهة مع إسرائيل سينشأ؟ ولكن أتمنى عليك لو تلقي لنا قبل ذلك الضوء على طبيعة العلاقة بين الـ48 وبين إسرائيل... فمن الراسخ أنّ الأخيرة تعتبركم عناصر معادية ومصدر تهديد دائم، وهو ما طبع تعاملها في المحطات الكبرى التي شهدها الداخل بدءاً بآذار/مارس 1976 ومروراً بهبّة تشرين الأول/أكتوبر 2000 ووصولاً إلى أحداث عام 2021... فضلاً عن التضييقات اليومية والممارسات التمييزية ثم عمليات تسليح للمستوطنين قرب البلدات الفلسطينية... بالتالي، كيف يمكن لابن مدينتك ولابن أراضي الـ48 عامةً أن يتفاعل اليوم مع غزَّة ومع المقاومة ومع الضفة...؟ ما هو الهامش الذي يمكن التحرّك ضمنه أو الذي يجري العمل على خلقه؟

 

حالة التقسيم التي أنتجتها إسرائيل بنت أنماط علاقة مختلفة بين النظام وأشلاء المجتمع الفلسطيني. الأكيد أنّ العلاقة في الداخل هي الأوطد لارتباطها بحياة الناس الاقتصادية والمعيشية وتفاصيل حياتهم كلها بالمؤسسة الاسرائيلية. هو ارتباط مباشر وثمة نوع من العلاقات الاجتماعية... أيضاً ترتبط الغالبية الساحقة من أنماط العمل السياسي الموجودة في الداخل بقانون الدولة الإسرائيلية، بمعنى أنّ الأحزاب والجمعيات مسجلة وفق قوانين الدولة وما إلى ذلك.

وكل محاولة للبناء خارج هذا الإطار القانوني، تدأب السلطات الإسرائيلية على ضربها... كان المثال الأبرز في عام 2015 مع حظر إسرائيل الحركة الإسلامية-الجناح الشمالي بقيادة رائد صلاح وسجن قياداتها في ظل محاولاتها بناء تجربة اجتماعية سياسية خارج الأطر القانونية الإسرائيلية...

ولكن، كلّما يظن الإسرائيلي أنّه أحكم السيطرة، وكل ما يظن أنّه استطاع أن يضبط وأن يحكم وأن يخيف، هناك شيء يعاود الانفجار في وجهه مرة بعد أخرى. دائماً وبشكل غير متوقع وبتراكم لا تفهمه المؤسسة ولكنّه يصل إلى انفجار كبير... ويعني كما إنت ذكرت، هناك تجربة يوم الأرض في آذار/مارس عام 1976، وهناك تجربة تشرين الأول/أكتوبر في الانتفاضة الثانية، وهناك تجربة 2021... إذا بتعِدهن تجد أنّ هناك دائماً فاصلاً زمنياً من عشرين سنة أو خمس وعشرين.

ينشأ جيل جديد راكم في طفولته مشاهد مقاومة وقمع والتقط ما يكمن في محيطه الاجتماعي من حقد على الاحتلال حتّى وإن كان مكتوماً...

وهناك شيء ما على المستوى النفسي والعاطفي والأخلاقي والشخصي وفي ذاكرة الفلسطينيين وفي حياتهم وفي مخيلتهم وفي تعاملهم مع العالم لا يمكن بأي شكل من الأشكال قمعه وأسرلته... يُمكن كبته، لكنّه موجود، مادّة بركانيّة... مهما بدا أنّه خضع لهذه الأسرلة يعاود الانفجار. في الداخل على شكل هبّات شعبيّة، في الضفّة جرّبوا الأمر ذاته. شوف مخيّم جنين بعد 20 سنة من تدميره وقتل جيل كامل فيه...

لكن المشكلة أنّ ما ينفجر في وجه الإسرائيلي كل فترة وفترة يبقى على ما هو عليه لغياب إرادة سياسية بتوجيه وصناعة بنية اجتماعية تستديم وتُحوِّل التحدّي النضالي إلى نوع من الثقافة العامة السائدة...

وما يحدث دائماً أنّ المعتّرين هم من يدفعون ثمن انفجار هذه الشحنة العاطفية وهذا الانتماء العميق لفلسطين ولمواجهة الاستعمار. من يستشهد ومن ينزل إلى المواجهة ومن يُسجن لسنوات طويلة ومن يواجه الرصاص فعلياً وَ... هُمَّ فِي النِّهايْ من الفئات الأشد استضعافاً مجتمعياً، وليسوا جزءاً من النخبة السياسية المرتبطة بالأطر الإسرائيلية والعالمية.

يدفع الفقراء ثمن التضحيات والانفجار فيما تعود النخبة أدراجها إلى منطقتها الآمنة كي لا تخسر... وتستفرد السلطة بالأغلبيّة المهمّشة ويسود الخوف. يعني تتمكن إسرائيل فعلاً من زراعة الخوف بواسطة آلاف الاعتقالات والأحكام الطويلة وأساليب الترهيب البدائية التي كان يمكن تحدّيها على قدر عال لو كان هناك تنظيمات سياسية عندها هذه الإرادة...

ولكن، هل هناك مواجهة قادمة مع إسرائيل بالنسبة إلى فلسطينيي الـ48؟ برأيي هذا حتمي، هذا أكيد.
الدم الذي تزرعه إسرائيل اليوم، مشاهد المجازر، العربدة، الانفلات، الجنون، هذا كلّه يتشرّب في تربة المظلومية...

يعني شوف أنا اليوم عندي غضب على نفسي أولاً وعلى أصدقائي وعلى جيراني... غضب هائل على الصمت... ولكن: ما عندي أي شك بإنّو كل أم في الداخل المحتل ترى أشلاء الأطفال وما يحدث في غزّة، وكل أب يبكي ويذرف دمعته أمام أطفاله في البيت، وكل طفل بيسمع صراخ الناس تحت الركام على التيكتوك أو على الانستغرام...

هذا كلّه يراكم حقداً وغضباً وحالة عاطفية وانتماء لمظلومية فلسطين لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تنجوَ منها إسرائيل...

لكن السؤال إذا اتفقنا أنّه سينفجر، فهل سينفجر بشكل يبني ويراكم نضالياً ويقدّم تجربة يمكنها فعلاً أن تصنع شيئاً وتغيّر الأحداث؟ أم أنّه سيُنتج هبّةً أخرى تنفجر لأسبوع أو أسبوعين ثم نعود لننتظر عشرين سنة أخرى؟

فالسؤال ليس سؤال انتماء عاطفي وأخلاقي لأنّ هذا أكيد ومحسوم، وليس سؤال أجيال، وليس سؤال استعداد المجتمع... السؤال هو سؤال النخب السياسية وقدرتها على بناء حالة تُراكم وتصنع وتبني وتطوّر

 

 

س: أنت اليوم على تماس مع النخب الفلسطينية عامةً، من هي وما هي آفاقها؟

 

(ضاحكاً): هلأ شوف الخارطة وَسِيعة وكُلْها عَسَّطِح...

في الداخل، هناك طبعاً طبقة المنظمات غير الحكومية إللّي كل تمويلها هو تمويل أوروبي وأميركي: إما من الدول وإما من صناديق... جزء من هذه المنظمات يلعب دوراً سياسياً إسرائيلياً سيئاً جداً، وآخر له دور مهم ويحاول تقديم مقاربات نضالية مختلفة... يعني هِيِّ قصة طويلة، ولكن بغض النظر عن فحوى ما يقدّمونه، كل البنية التحتية مرتبطة ببنية اقتصادية غير حرّة، خاضعة لهيمنة مصادر تمويلها...

ولكن في نهاية المطاف هذه الشبكة واسعة في فلسطين: في الضفة وفي الداخل وحتى في غزَّة، مرتبطة بمجموعة من الصناديق الأوروبية والأميركية والتي كشفت كلّها من دون استثناء حقيقتها في مواقفها المعيبة والحقيرة إزاء حرب غزِّة حتّى إنْها لا تدعو لوقف إطلاق النار...

خود صندوق جورج سوروس OSF: مواقف معيبة... عندك روزا لوكسمبورغ إلّي هي مفروض صندوق يساري ألماني ووالله بتعمل أبحاث عن التمويل المشروط... تبنّوا موقف حزبهم المعيب وهددوا بقطع التمويل عن مؤسسات في المنطقة العربية... وعِدْ على صناديق بتهدد بقطع التمويل بسبب التضامن مع غزِّة وغيره...

شو بدّك... يَعني ما في تقريباً منظمة غير حكومية، من حقوقيين لمنظمات نسوية لمنظمات ثقافية... ما في حدا مش مرتبط بهلشبكة الاقتصادية المالية...

وهذه شبكة هائلة لأنّها أيضاً تستقطب وتربّي شرائح شبابية يُمكن أن توظَّف بشكل آخر. هذه شريحة مهمة عندما نحاول أن نتحدّث عن النخبة الفلسطينية.

هناك جزء ثاني مرتبط بالجامعات والأكاديميات والإعلام.

في الداخل هم مرتبطون بالأكاديميا الإسرائيلية والإعلام الإسرائيلي. وثمّة نخبة فلسطينية مرتبطة بالجامعات الأوروبية والأميركية... رغم أنّ جزءاً منهم يقومون بدور مهم فعلًا، يناضلون من أجل غزَّة وتجري ملاحقتهم واللوبي الإسرائيلي يشكّل ضغطاً عليهم وْإلى آخْرُه، ولكن في النهاية إنتِ كباحث أو كاتب تُسأل عن سياق إنتاجك المعرفي، ونحن ننتج معرفة – عن الهيمنة الاستعمارية والمركزية الأوروبية – بلغة الاستعمار وقواعده البحثية ومنحه ومراكمته التاريخية.

أنا أكتر إشي مُسلّي بنظري هو العرب إلّي بِعنتروا ضد الهيمنة الغربية بالإنكليزي، بمعنى إنّو الهجوم على الهيمنة بالحوار معها بعزز مركزيّتها أكثر من شيء آخر...

ولدى هذه النخبة دائماً حالة ترجمة تُجمِّل أو تغيّر الحقيقة الموجودة في فلسطين لصالح إنّك تكون مقبول في الأكاديميا الأميركية والغربية.

ثم هناك نخب مرتبطة بالسلطة الفلسطينية في الضفة، وبرأيي يرتبطون في نهاية المطاف بسلطة خدمات أمنية لإسرائيل، وهي مستعدة لأن تحكم غزَّة على دماء عشرات الآلاف. هذه سلطة متعاونة مع الإبادة، شريكة في الإبادة. بدك تكون بليغ وتختار كلماتك، ولكن عندما يُقتل خمستالاف طفل وأبو مازن يحمي إسرائيل ويحتضن بلينكن، ما في كلمة تانية للوصف إلا الخيانة.

هذا هو شكل النخب الفلسطينية... وهناك النخب السياسية الأقدم المرتبطة بأحزاب هنا وهناك، وهذه بنى تآكلت إلى حد بعيد...

مرّة أخرى، المصيبة الكبرى هِي انفصال هذه الحالة عن الواقع الاجتماعي الأليم

 

س: طيب أنت كفنان فلسطيني، ما هو التحدّي أمامك اليوم؟ يعني مثلاً بما يخص مشروعك مع شريكك الموسيقي فرج سليمان والذي تصنع فيه لغة فلسطينية جديدة، ما هي التحديات أمامكما في ضوء هذا الواقع؟

 

ما بدي إحكي باسم فرج، رَح إحكي عن نفسي على المستوى الأدبي والكتابة وهالأمور...

لا أرى إنّو العمل الفني والثقافي يمكنه أن يلعب الوظيفة السياسية المطلوبة اليوم. وأعتقد أنّ الواجب والوظيفة الأخلاقية بهيدي الأيام هي إنَّك تِكتِب وتِصنع كل ما يخدم التحشيد نصرةً لغزِّة...

وفي هذه المرحلة ما عندي أي رغبة وأي استعداد أو تقبّل لأي شيء لا يسعى بشكل فاعل لرفع الظلم النازل بأهلنا. من غير الإنساني ومن غير الأخلاقي أن تفكِّر اليوم في أي شيء غير وقف الحرب ورفع الظلم عن غزِّة. بتاتاً.

قد نقدِم على الكتابة من منطلق حب ورغبة وما إلى ذلك، وهذا كلّه شرعي وطبيعي ومهم ولا أنتقص من أهميته... ولكن أنا أولاً مع ألّا تتوهم أنّ أغنيتك أو كتابك يغيّران الواقع السياسي خاصةً أنّ طبيعة الحياة إلّي نِحن فيها قائمة على صناعة رأسمالية للثقافة من شأنها ابتلاع كل شيء وإفراغه من معناه...

حتى لو كنت بِتغني ضد الاستعمار، فيمكن للمستعمِر عادي أن يشغِّل الأغنية نفسها ويرقص عليها، ولا بيهمه...

بالتالي، هناك أهمية لتوثيق ما يحدث من خلال الكتابة والنشر ومحاولة تحريك ما يمكن تحريكه وإيجاد أدوات وقنوات للتحشيد الجماهيري وحثّ الرأي العام بهدف بناء حالة نضالية وتأجيجها.

ولا أعتقد أنّ ثمّة دوراً لكتابة الأغاني والأدب اليوم. لا أعتقد أنّها أولوية بأيّ شكل من الأشكال.

ربما هناك وقت آخر للألم وللأدب وللتعبير عن هذا الحزن كله، ولكن ليس عندي شعور بأنّ هناك رفاهية للمثقف لأن يعبّر عن مشاعره الآن في فضاء أو في VACUUM بمعزل عن الأثر السياسي. الشيء الوحيد الذي يشغلني الآن هو الأثر السياسي لكل ما يمكن كتابته وفعله.

وهناك واجب إنّو تضلّك تجرِّب... يعني إذا بِدَّك منسمّيها: تنفخ بِلمَيِّت... وأنا لست من مؤيدي التنازل إزاء الصمت هنا في الداخل بل يجب أن نواصل المحاولات لإحيائه حتى لو بمظاهرات تجمع أربعة أشخاص، أو بشاب يكتب على الحيط.

فهناك ما يجب أن يتراكم وهناك ما يجب أن يُكسر من حيث الخوف... وأعتقد أنّ المسؤولية على إلّي صوتْهم عالي وفي ناس تقرأهم وتشوفهم، هي في أن يكونوا في مقدمة محاولات كسر الصمت

 

 

س: في ضوء معرفتك بإسرائيل، أيّ إسرائيل نواجه نحن جميعنا اليوم؟ من هي بخاصة بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر؟

 

بعد بكّير نعرف فعلًا ما هي إسرائيل بعد 7 تشرين، ولكنّها بالعموم تغيّرت في العقود الأخيرة على مستويات عدّة وبقي ما هو ثابت وجوهري فيها.

التغيير الأكبر والأهم هو التغيير الاقتصادي ونزوع الحركة الصهيونية من ميول اشتراكية إلى نيو ليبرالية مطلقة. وقد انبنى هذا في مجتمع يضم مستعمِرين مهاجرين ومتعدد الثقافات... ما خلق بالتالي قوة هائلة لسياسة الهويات داخل إسرائيل.

قوى متصارعة ضمن بنية سياسية تعطي تمثيلاً لهذه الهويات، بمعنى أنّ البنية الانتخابية في إسرائيل تعطي مساحة أوسع لسياسات وصراعات الهويات العرقية بأن تزدهر أو تنفجر داخل المجتمع الصهيوني.

هذه التغيّرات مزبوط تبدو جذرية في إسرائيل، ولكنها لم تغيّر من الجوهر الاستعلائي الاستعماري الصهيوني فيها.

ما تغيّر فعلاً هو مدى اهتمام إسرائيل بعلاقتها بادعاء مفاهيم الحداثة والتنوّر الأوروبية، وبخاصة علاقتها بصفتها الديمقراطية، وبالتالي ما يسمى الرأي العام الدولي ومنظومة حقوق الإنسان والشرعية الدولية إلخ... لم تعد إسرائيل، تلك التي سعت لعقود خلف نوع من الشرعية الدولية ضمن منظومة ما بعد الحرب العالمية الثانية واعتمدت إلى حد بعيد في أفعالها على منظومة قانونية دقيقة تشرعن لها الكثير...

ومسألة المنظومة القانونية الإسرائيلية، فكرة سيادة القانون، هي ضلع أساسي في القمع الاستعماري...

هلأ تخايل مثلاً إسرائيل فاتَتْ وأسرت نفس عدد الأشخاص إللّي أسرتهم حماس وأَجَت قالت: نفّذنا اعتقالات إدارية ومبررات الاعتقال سرية وخضعت لموافقة وزير الأمن... العالم كلّه سيرضى بالموضوع، وقد فعلوا هذا مئات المرّات...

 كان يمكن لإسرائيل أن تعتقل العدد نفسه ومن الفئات والأعمار نفسها ولكن تلصق تهماً واهية وتافهة ودون معنى من دفتر قوانينها وما حدِّش بالعالم بيسأل عَ لْموضوع... ليش؟! لِأنْها «سلطة قانون»... بحبّوا الأوروبيي الـ rule of law

بالتالي ما فعلته حماس على مستوى الأسر في السابع من تشرين تفعله إسرائيل يومياً، منذ تأسيسها إلى اليوم... الفرق هو أنّه يحدث ضمن إطار وميكانيكية قانونية وبنجاعة قمعيّة أعلى...

لكن ما أودّ قوله في الأساس هو أنّ إسرائيل النيو ليبرالية هذه، وفي العالم النيو ليبرالي هذا، اختلفت مصادر شرعيتها.

لم تعد مصادر شرعيتها مرتبطة بالتوجّهات الدستورية وسلطة القانون والمنظومة الحقوقية والتنوّر تبعِت منظمات الأمم المتحدة والشرعية الدولية إلخ... اليوم نشأت حالة قائمة على مصدرين للشرعية يمثّلان التحالف الجديد المهيمن في إسرائيل بين الصهيونية المتدينة وقيادة اقتصادية نفّذت فتح مطلق للسوق. صارت مصادر الشرعية من جهة الأسطورة الدينية، ومن جهة ثانية استفحال ووقاحة العلاقات الاقتصادية مع سلطة الشركات العالمية الكبرى ورؤوس الأموال التي صارت تهيمن على الدول...

بالتالي صارت إسرائيل قادرة على أن تتخلص من عقلانيتها القانونية في القمع أكتر من أي وقت مضى... وبالتالي أيضاً منظومة الحكم السائدة تتآكل ومن الممكن استبدالها بأشكال مختلفة من القمع، وهذا كان الشرخ في إسرائيل عشية 7 أكتوبر.

الصراع الأساسي في إسرائيل اليوم هو صراع طرفه الأول نخبة أشكينازية قديمة تسطير على مرافق الدولة كافة، بمعنى القضاء والأكاديميا والإعلام والبنوك والاقتصاد... وهي تريد الإبقاء على إسرائيل بسماتها وببنيتها القانونية القديمة، وتقاسم سلطات وحالة قانونية مركبة وحذرة ودقيقة... بالمستوى الرسمي عم نحكي، بالمستوى الخطابي التقني.

أما الطرف الثاني فهو إسرائيل جديدة، نيو ليبرالية قائمة على سياسة الهويات وعلى أحقاد، وهي تقول: لسنا في حاجة إلى هذا كلّه، وتريد أن ترخي الضوابط المتعلقة بسلطة القانون بما ينعكس انفلاتاً وعربدةً تجاه الفلسطينيين...

بالنسبة إلى إسرائيل الأولى: عليك أن تقتل الفلسطيني، ولكن افعل وفق القانون وبتعليمات واضحة ونظيفة وإحنا كدُولة وكمحكمة عليا وكمدّعي عسكري سنوفّر لك الحماية... وفي المقابل هناك من يريد انفلاتاً تاماً.

إنّما على مستوى الأثر على الفلسطيني، فلا يوجد أي اختلاف.

ما في فرق... الفلسطيني تحت القصف.. شو بيِفْرِق معي أنا إذا عم أُقصَف حسب القانون أو مش حسب القانون!

... وهناك اختلاف حتى ثقافي بين الإسرائيلَتين

لأنّ الأولى، القانونية إلّي تعمل وفق بنية آلية دقيقة، بميكانيكية قتل وبرودة وتفاهة بيروقراطية، لا يمكن أن تذكِّر إلا بالكتابات التي تحلل النازية... المفاهيم التقنية النظيفة التي تسفك الدم بعلمية.

أما هذوك فعندهم شي تبَع خلّي كل واحِد يْطُخ كيفْ بِدُّه...

والعالم غير قلق لقتل الفلسطينيين، إنّما لأن نُقتل بما لا يمس نظرة الأوروبي لذاته، والتزامه بشكليات سلطة القانون، والسطح الديمقراطي الذي يقنع نفسه به...

شيء عجيب يعني

 

 

س: طالما أننا نتحدّث عن عالم يجنح نحو تقبّل العنف بحق الفلسطينيين وتبرير الهمجية والوحشية من أجل أن تدوم إسرائيل لا غير، إذ تشعر كأنّ عملية طوفان الأقصى أثارت فوراً في هذا الغرب خوفاً حقيقياً على وجود هذا الكيان. وهذا ما أتاح له أن يلعب علناً وبصورة فاقعة دور رقيب على كبريات المؤسسات الإعلامية الدولية، ويضغط عبر لوبياته بحزم وبشراسة غير معهودة من أجل نشر البروباغندا الإسرائيلية وتكميم الأفواه... بالحرف... فما هو هذا الخوف المسبِّب برأيك؟

 

أعتقد أنّه خوف أيديولوجي عميق من كل ما يهدّد البنية الأيديولوجية لأوروبا ولأميركا، وهي بنية قائمة على الاستعلاء الأبيض وعلى الموروث الاستعماري وعلى توسيع المصالح الاقتصادية والعسكرية لهذه القوى في عالمنا كله... كلّ من يتحدى هذه الهيمنة الشاملة ويهددها جدّياً يؤدّي لحالة الجنون إلّي هني فيها.

ظهر هذا بوضوح في حرب روسيا-أوكرانيا... الجنون الذي أصابهم وقتها وفقدانهم لكل أنواع الضوابط الأخلاقية والمهنية والموضوعية... هذا كله كان واضحاً جداً وبارزاً بدرجات هستيرية... يعني فجأة تُبدِل أوروبا أعلامها في كبرى مؤسساتها بأعلام أوكرانيا... وتسليح مرعب... وطرد الفنانين الروس من كل مكان وطرد الرياضيين الروس ونزع الشرعية والشيطنة وَ وَ وَ...

بصرف النظر عن موقفنا من هذه الحرب لأنّ الموضوع ليس هنا، ولكن قدرة هذه الأيديولوجيا التي تدّعي التعددية والتنوّع والاختلاف والموضوعية على التجنّد مثل أي جهاز عسكري توتاليتاري خلف قيادة كُلْنا منعرِف شو هِيِّ اقتصادياً وأيديولوجياً وفكرياً، يثبت أنها قادرة فوراً على التمترس في البنية التحتية العنيفة التي هي في جوهر هذا العالم الذي نعيشه.

 

يعني:

كل ما يظهر من التعددية والموضوعية والصحافة الحرّة إلخ... تتآكل جميعها في لحظة الخطر هذه وتتراجع إلى جوهر عنصري استعلائي وقمعي وتوتاليتاري، يوظِّف مصانع الأسلحة ومهرجانات السينما بنفس الطريقة... تماماً...

هذا بالظبط ما يحدث في فلسطين لأنّ إسرائيل في نهاية المطاف ليست سوى تمثيل لمصلحة أميركا وأوروبا في هذه المنطقة.

هي إذا بِدّك الجبهة الأولى، خط الهجوم الأول في هذه المنطقة.

بالتالي إنّ المهدِّد هنا مش موضوع إنّو حماس قتْلَت وأسرت... المسألة في أنّ هناك حرب سيطرة يشنّها الأبيض الرأسمالي الاستعماري على شعوب المنطقة كلهم وفي كل مكان... ونموذج غزِّة مثّل ذروة إحكام السيطرة الممكنة، أو أقصى ما يُمكن للمستعمر أن يفعله:

يْحاصِر 2 مليون إنسان ويتحّكم بكل كيس طحين يدخل إليهم ويجعلهم مختبر لتجريب الأسلحة الأكثر تقدماً والمراقبة والتجسس الأكثر تقدّماً، والأهم من هذا أن تُجرّب فيه سياسات اجتماعية استعمارية قمعية...

ولكن رغم هذا كله، فجأةً، تتمرَّد غزِّة وتقلب الموازين كلها وتكشف هشاشة السيطرة الاستعمارية... لهذا عادت البنية الأيديولوجية إلى مربعها الأول وتمترست في جوهرها العنيف والدموي.

من ناحية ثانية، في كل مكان في العالم ليست فكرة العنف الثوري أن يحرِّر منطقة جغرافية. هو غير معني بالجغرافيا، بل معني بخلخلة بنى الاستعمار والظلم من أجل نزع الأقنعة وإعادتهما إلى المربع الجوهريّ الأول: كشف العنف الدموي والاستعلاء والقوة، وكشف عدم طبيعيّة السلطة، عدم قدريّتها...

وظيفة الحركة الثوريّة أن تفرض على نظم القمع أو الاستعمار أو الديكتاتورية مثلاً، التعرّي من كافة البنى الفوقية الجميلة والمتنوّرة والمتسامحة والحقوقية، والعودة إلى شرعيته الأولى، إشهار قوته الدموية واستنزاف بُنيته الاجتماعيّة...

 

 

س: بحديثنا عن ذلك الخوف على مصير إسرائيل والهيمنة، ماذا يدور في الأدب والثقافة الإسرائيليين حالياً؟

 

يحدث شيء مثير للاهتمام.

الهوية الإسرائيلية، الهوية الثقافية الإسرائيلية (وهي غير متجانسة ومركّبة من ألف هوية ثقافيّة مهاجرة) مرتبطة بمكانة الهولوكوست في هذا المجتمع وفي هذه الثقافة: مكانة الهولوكوست جذرية بمعنى أنّها المطلَق الأول للألم والكارثة التي، في السردية الإسرائيلية، تحرِّك الفعل الصهيوني وتشرعن القوّة والعنف...

هناك صناعة Trauma في إسرائيل وتوثيقها وإعادة إنتاجها وتوريثها إلى الأجيال القادمة من أجل منح شرعية وسردية للاستعمار الإسرائيلي... وإعادة الإنتاج هي منظومة كاملة تعمل من وزارات التعليم إلى الإعلام إلى المتاحف إلى الأكاديميا... كلها تهدف في الأخير إلى أدوَتة هذه التروما، إعادة استخدامها وإعادة صياغتها بشكل دائم.

ما يجري اليوم في إسرائيل أنّهم فهموا فوراً أنّه يجب إعادة الكرّة مع سبعة تشرين، أي يجب تحويله إلى هولوكوست جديد.

راقب السرعة... وكأنّ المؤسسة مدرّبة على توظيف الصدمة والتروما لتكريس العدوانية وهذا مذهل بصراحة.

بالتالي كان يجب استخدام التقنيات والوسائل ذاتها من أجل إعادة إنتاج الصدمة وإعادة كتابة القصة والسردية بناء على هذا اليوم... طبعاً الأميركان عِملوا شيء شبيه وقت 11 أيلول، ولكنّي أعتقد أنّ قدرة الإسرائيليين ومعرفتهم وأدواتهم أوسع بكثير، هذه المسألة أعمق بكثير في الثقافة الإسرائيلية.

ستعيد إسرائيل إنتاج لحظة الصدمة لعقود طويلة إلى الأمام.

وأعتقد أنّهم عاجزون عن أي شيء آخر، خاصة الأشكينازيين الأوروبيين...

الإسرائيليون عاجزون عن تجاوز استخدام الألم والتروما، وعن التفكير بنفسهم بأي طريقة أخرى غير الكارثة، هذا ما فرضته بنيتهم الأيديولوجية... فترى نبش القصص البسيطة العادية وتحويلها كلها إلى جزء من سردية كارثية كُبرى... هذا سيتم استنزافه إلى آخر لحظة.

وإسرائيل تلعب أيضاً في عالم جاهز لتقبّل هذا. العالم الغربي غير قادر على أن يرى شيئاً خارج قصته الأوروبية... هي جزء من قصتهم وهم لا يرون غير أنفسهم. لا قدرة لهم على أن ينظروا إلى العالم من منظور آخر... بالتالي السردية الوحيدة التي تقنعهم هي ما يشبههم، وهي صدمة أوروبا بالنازية ومساءلتهم للحداثة...

حتى لو ما في أي علاقة بين المحرقة وبين سبعة تشرين، ولكنّهم قدّموا للأوروبي والأميركي السردية بطريقة يرى بها نفسه، وطبعاً وظّفوا الاسلاموفوبيا وعداء المهاجرين

 

س: إلى أي مدى تجعلك حرب غزّة أكثر جذرية في مواقفك وفي نظرتك إلى العالم؟

 

(ضاحكاً): أنا عن نفسي مواقفي جذرية

ولكن فعلاًـ تزيد هذه الحرب استعدادك لكي تحرق كل الجسور مع النفاق الغربي... تُصعِّب عليك إلى حد بعيد العودة إلى حوارات سابقة.

لا أعتقد أنّه يمكن لي اليوم الخوض في الحوار نفسه مع الأميركي أو الألماني أو الفرنسي مثلما كنت أفعل قبل سنتين. من رأى قتل 14 ألف إنسان بهذا الشكل، قتل آلاف الأطفال بهذا الشكل، وما زال يحدّثك عن غرافيتي معادي للسامية في باريس وتمزيق بوسترات في نيويورك... يبرِّرون هذه الجرائم المروعة... لا أعرف كيف يمكن التحاور معهم بعد اليوم...

كان هناك شيئاً مستفزاً تشعر به منذ حرب روسيا وأوكرانيا فيما أنت تراقب سلوك الأوروبيين والأميركيين وردود فعلهم، ولكن عندما يتعلّق الأمر بهذه المجازر البشعة في غزّة فلا يُمكن...

هذا مش بس غضب، هذا إدراك ما... معرفة صادقة بأنّه لا يمكن أن نتحرّر ونفكّر ونطوّر نضالنا إذا كان يبقى في قنوات ومساحات ودوائر الهيمنة للأميركي والأوروبي.

ما منقدر نضل نفكّر كيف بدنا نرفع مواقفنا ونطوّرها أمام السي إن إن، لازم يسقط وهم حيادهم ويسقط وهم أنّهم الطريق إلى الحل. هم جزء جوهري من الحالة الظالمة التي نعيشها...

المنظمات الدولية كلها مش مستعدة أن تطالب حتّى بوقف إطلاق النار. هيومن رايتس ووتش بتقلّك إحنا مع embargo سلاح على إسرائيل وعلى حماس والجهاد. يعني تخيّل إنّو دولة تصلها غواصات نووية وبوارج حربية ومتفجرات وقنابل بالأطنان، تضعها في نفس الجملة مع شعب تحت حصار يصنّع عبوات بدائية ويستخدم الكلاشينات... تضعهم في المقاربة ذاتها.

خذ مثلاً السهولة إلّي فيها يمكن لآمنستي وهيومن رايتس ووش القول إنّ ما ارتكبته حماس بشاعات وجرائم حرب وَ وَ وَ... خلال ساعتين بعد الحدث حسموا إنْها جرائم حرب، دون إثباتات أو أدلة أو تحقيق. بينما هؤلاء نفسهم أخَدِلْهُم 75 سَنِة ليحققوا ويقولوا عن إسرائيل أبرتهايد...

وإلى اليوم، حين يحكون عما ترتكبه إسرائيل بيقولوا: «ما يمكن أن يرقى إلى جرائم حرب». يستعملون مصطلحاً قانونياً إلّي هو «شبهات في ارتكاب جرائم حرب»، وتأخذ سنوات من التحقيقات الجنائية لكل طلقة وكل صاروخ وكل مجزرة... وتبقى شبهات... بينما عندما يُهاجِم الفِلَسطيني فخلال نصف ساعة هم بيستنتجوا وبيسموها بشاعات.

بالتالي علينا أن نفهم ونواجه، أن نسأل من يموّل ويجلس في رأس هذه المؤسسات؟ وما هي مصالحهم... أنظر إلى مجالس الإدارة، تجد شخصيات من صناديق استثمار كبرى، شخصيات قضت عمرها في خدمة الإدارة الأمريكية، شركات أسلحة... كلها في نهاية المطاف شبكات واحدة وإحنا شايفين وإحنا عارفين هذه الحقيقة.

ولكن، حين تبلغ الأمور مبلغ ما يحدث في غزِّة الآن، لا يمكن لإنسان عاقل في رأيي ولا يمكن لإنسان بدّيش أقول فلسطيني وعربي، بل لأي إنسان من مناطقنا المنكوبة والمستغَلّة والمستضعفة سواء المنطقة العربيّة، أو في أفريقيا أو أميركا اللاتينية أو آسيا... أن ينظر إلى هذه المؤسسات العالمية باعتبارها شيئاً يُمكن أن يخدم العدالة.

هذه راديكالية زيادة؟ فليكُن... أعتقد أنّ كل الجسور مع هذه المؤسسات ومع هذه المنظومة حُرِقت وفقط من يكذب على نفسه يستطيع أن يبقى في خدمتها دون أن يحاول التحرّر منها والانفصال عنها. بعرف إنّو هناك أشخاص مناضلين وصادقين في أماكن سيئة سياسياً، سؤالي، ماذا يفعلون – لا لتحسينها إنما لتفكيك هيمنتها والتحرّر منها؟

المخرج الوحيد من كل هذا هو البناء بلغتنا وداخل مجتمعنا وشبكاته القاعدية والشعبيّة المتجذّرة...

ويَعني ح زدلك شغلة كمان:

الجميع يتحدث الآن أنّ الأوروبيين بْيِحكوا بدّن يِقطعوا التمويل عن المؤسسات التي تتضامن مع فلسطين وكذا... هلأ صحيح شي ابتزاز حقير، أكيد، ولكن هذا يقابله مشكلة أكبر قادمة: نحن نعرف كيف تعمل هذه المنظومة، بعد الحرب ستُضخ أموال هائلة لفلسطين... ليش؟ لأنّه هذا أسلوبهن في إحكام السيطرة والهيمنة...

همّ صحيح عم يِلووا ذراعك بإنّو رح نقطع التمويل وكذا، ولكن رح يضخّوا كميات أموال هائلة لتثبيت منجزات إسرائيل بالمستوى الاجتماعي، والمشكلة أنّ العديد العديد العديد ممن يسمّون النخب سيقبلون هذه المعادلة مجدداً

 

 

المحاور: كيف تنظر إلى تفاعل المحيط مع الحرب في غزَّة خاصة أنّ ثمّة عند الحدود مع لبنان جبهة مشتعلة وسمّاها أمين عام حزب الله «جبهة مساندة» للقطاع ومقاومته... كيف تتفاعل أنت مع هذا المحيط؟

 

بتعرِف... كل علاقة بمسألة حزب الله ونصر الله شائكة جداً في فترة العشر سنين إلّي خضناهن...

أنا مؤمن فعلًا بأنّ التضامن والمساندة شيئان مختلفان. التضامن فيه بعد تعبيري، رمزي، بينما المساندة لها أثر مادّي.

وللأسف، لسنوات طويلة، خُلق نوع من التمييز الزائف بين النضال السلمي والنضال المسلّح... بالحقيقة طريقك لتِفهم الفروق النضالية هو الفرق بين النضال الرمزي والنضال إلّي عنده أثر مادي. تكمن المسألة في ما إذا كانت فعاليتك مكلفة للاحتلال ومن يسانده.

إذا كنت بتحركك عم تِشغُل المنظومة الأمنية بالتظاهرات والاحتجاجات، ثم المنظومة القضائية بالاعتقالات والمحاكمات، والمنظومة الاقتصادية بالإضرابات... فكل ضغط من هذا القبيل، بغض النظر إن كان مدنياً وشعبياً أو على شكل ذراع مسلّح في مناطق مختلفة، نتيجته تشكيل ضغط وثقل يصعّب على إسرائيل أن تواصل الإبادة في غزّة.

بالمقابل الهدوء والرواء بيعطيهم إمكانية لزيادة القتلة دون حساب وتطويل أمد الحرب وتعميقها...

الآن هذا صحيح في كل مكان في العالم. خذ فرنسا مثلًا: ماكرون أول رئيس لدولة أوروبية كبرى بيدعو لوقف إطلاق النار... إنسانية منّو يعني؟ خايف على أطفال غزِّة ماكرون؟! خايف على نفسه...

يعرف أنّ شرائح واسعة جداً من مجتمع المهاجرين العرب تغلي وتنزل بمئات الآلاف إلى الشوارع ولا يُمكن قمعها، وأنّ هذا غضب يتغلغل ويراكم... وإنّو في المرّة القادمة التي سيُقتل فيها فتى عربي بيد الشرطة الفرنسية، هذا الغضب سينفجر.

ماكرون خايف على مونبرناس مش على الشجاعيّة...

إذاً، تشكيل الضغط وإظهار الغضب وإنهاك الأجهزة الأمنية واستنزاف مواردها وطاقتها بالتظاهر والاحتجاج، هذا كله يساهم مباشرةً برفع الظلم عن غزِّة...

ولهذا يجب أن تُغلَق مراكز لندن بالمظاهرات، ويُهاجم الاقتصاد بالمقاطعة والإضرابات... والديمقراطيون في الولايات المتحدة سيخسرون الحكم بسبب دعمهم للحرب قبل أي شيء.

أنا غير مؤمن بالمساندة العاطفية وبالتضامن. لا بدّ أن تكون المساندة ذات أثر مادي وفعلي يجعل العالم يحسب خسائره وبالتالي يتراجع عن الحرب على غزِّة

 

 

س: هل تسمح لي أن أقول إنّك عم تدعو أو تفكّر في هذه المقابلة إلى/في إعادة إنتاج للفعل الثوري الفلسطيني، أو المناصر لفلسطين؟

 

(ضاحكاً): أدعو شوَي كلمة كبيرة لأن بظنّش في حدا بالعالم بستنى منّي دعوى لأي إشي...

ولكن أظن أنّ الهزيمة الكبرى لفلسطين في أوسلو وبعد الخروج من بيروت كانت في نزع بعدها الأممي. يعني نزعها من حاضنة أممية مرتبطة بحركات التحرّر العالمية... أصلاً كانت الهزيمة جزءاً من سياق أوسع للقضاء على حركات التحرّر مش بس بفلسطين، يعني هي الفترة ذاتها إلّي قُضي فيها على حركات في أيرلندا والباسك وأمريكا اللاتينية وغيرها.

وأعتقد أنّ المنجز الذي يحدث منذ الانتفاضة الثانية... وتطوُّر حركة BDS على سبيل المثال لا الحصر، وتغلغلها في الجامعات وتطوّرات أخرى كثيرة في عالمنا، هو في أنّها جميعها تعيد إنتاج شبكة تضامن أمميّ مع فلسطين، مرتبطة بحركات تحرّر وتضامن مختلفة في العالم...

الحركات الواعية بجوهرية العنصرية وتجذّر الاستعلاء في مؤسسات الحكم الدولية.

يعني ما هُدِم في أوسلو يجري إعادة ترميمه ويجري إعادة بنائه... وسأقول بحذر، وربما هو أمل كبير، ما أفكّر فيه من أوّل يوم بالحرب. وهو أنّ فلسطين اليوم هي الشيء الوحيد القادر على إعادة بناء الأممية والدفع نحو أسس فكرية وتاريخية وأخلاقية جديدة لها. يعني منقدرش نفكّر الأممية كفكرة نوستالجية بالهَوا، ولكنّها تنبني في صلب تحركات تاريخية معينة وأحداث...

واليوم، يمكن لفلسطين أن تعيد بناء هذه المنظومة القيمية نحو النضال الأممي، أي نحو فكرة الأممية كقوّة ثورية مناهضة لبنى الاستعمار ومناهضة لبنى الاستعلاء الأبيض ومناهضة للرأسمالية المتوحشة.

إذاً رغم المأساة والبشاعات والألم والنكبة التي نشهدها في غزَّة... هناك أمل كبير شرطه الانتقال من وعي إلى آخر.

يجب أن تكون هذه لحظة الوعي بمحدودية فكرة التضامن الرمزي والتعبيري... الوعي بأنّ فكرة التعبير الرمزي، دون أثر مادي، وحدها، تلعب في مصلحة البنية العليا للأنظمة الغربية... بالتالي لا بدّ من إبدال فكرة التعبير بفكرة الأثر المادي.

إبدالها بفكرة أنّ التظاهر والتحرّك السياسي لا يهدف إلى التعبير عن آرائنا، إنّما أن نشكّل ضغطاً فعلياً له تكاليف مالية وسياسية وأمنية ويخلخل المؤسسات:

يعني الأممية مش تعبّر عن رأي... لأء!.

بَدّك تخليهم يحطّوا ملايين ويغلقوا مراكز المدن ويصرفوا آلاف رجال الأمن لمظاهرات متواصلة ونفسها طويل، ويجازف الحُكم بالغضب الذي تراكمه مشاهد الإبادة في المجتمعات، خاصةً المجتمعات المقموعة والمستضعفة في الولايات المتّحدة وأميركا، وعلى الجامعات أن تتخلخل، والمؤسسات أن تغرق بالصراعات الداخلية على خلفية ما يحدث في فلسطين، والشركات تُضرَب بالإضرابات والمقاطعة... لا يُمكن للعالم الأبيض أن يرتاح بينما تستمر الإبادة في غزِّة، وتستمر عربدته على شعوب العالم المنهوبة.

فقط بهذا التحوّل من الأفق التعبيري إلى الأفق المادّي يمكن أن يبنى شيء جديد يسعف فلسطين... ربما متأخراً بعد كل الدمار الذي شاهدناه، ولكن لا يُمكن، إنسانياً، أن نُهزم باليأس... هناك أفق أممي شعبي جديد ممكن، وبغباء المنظومة الأوروبية والأمريكية هي تأججه إلى نحو غير مسبوق في العقود الأخيرة.

 

 

س: شكراً على هذه الإجابة. سؤالي الأخير حَ يكون في يمكن فيكشن أو نن-فيكشن بضوء الواقع... كيف ترى نهاية (أو لا نهاية) الصراع مع إسرائيل؟

 

(بعد صمت ثوانٍ): شوف رح أضل فكّر بهذا السؤال وأضل مش عارف أجاوب.

أنا مع نرجع خطوة لَوَرا. فإسرائيل هي تمثيل، جبهة أولى، للسطوة الاستعمارية الغربية في منطقتنا...

بالتالي: حتى لو اختلف شكلها، يعني حتى لو زالت إسرائيل إلّي منعرفها، اختلفت بنية الدولة والسلطة، فإنّ المسألة ليست إسرائيل. المسألة هي هذه المصالح الاستعمارية، السطوة الجبروت القوّة الغربية في منطقتنا المنتهكة. والسؤال هو هل ستبقى حاضرة من خلال آلة قمع وطغيان وقتل موجودة في منطقتنا أم لا؟... إذا بقيت كيف؟ من خلال مشروع بحجم إسرائيل أم بأساليب أخرى مثلما يحدث في منطقتنا العربية بواسطة حكومات مرتهنة وتابعة وقمعية؟

وبشكل شوي هيكا حالم، أو هو مش حالم بس مثالي نوعاً ما:

أظن أنّ فكرة التحرّر من الاستعمار جرى تأطيرها بأدوات الدولة القومية الحديثة. بمعنى أنّ أدوات تخيّلك لحريّتك هي أيضاً إنتاج تاريخي أوروبي. خذلك مثلًا الدولة التي أقامتها فتح في الضفة الغربية... بنوك مستفحلة وتبعية أمنية وقمع حريات وفجوات طبقية وزبائنية وشو مَ بِدّك...

بالتالي بتسأل حالك شو التحّرر؟ هل هو مسار ذو نهاية؟ أم هو فعل إنساني دائم ومطلق؟ إنّو حياتك هي دائماً سعي نضالي للتحرّر من سلطة قمعية ومطمع استعماري...بالتالي، بَفَكِّر إنّو لا يوجد نِهايْ لقصة فلسطين مع الاستعمار. وقصتها ليست ببناء دولة ولا باسم المحتل العيني، بل هي قصة أزلية على أبدية، بين ولاد البلد والغرباء إلّي بميّلوا واحد ورا الثاني... شعب بعده بمارس نفس الدور من مئات السنين، في وطن راح يبقى مستهدف لمئات السنوات.

غزِّة مثلًا... هذا مفصل تاريخي، هذه كتلة أحداث رسّخت شيئاً في تاريخ والبشرية وذاكرتها...

نموذج لمقاومة الاستعمار ومكافحة الظلم.

أعرف أنّ ما أقوله يبدو مثالياً... اعتدنا أنّ الأوربيين وحدهم من يرسمون الذاكرة البشرية. لكن لا. غزِّة اليوم تثبت شيئاً في قلوب ونفوس البشر حول العالم، مفاهيم تتعلّق بمقاومة الظلم والاستعمار.

إنتِ كفلسطيني رغم ما أوهموك به السلطة وأميركا وإسرائيل إنّو هدفك تبني دولة، إنتِ مش سائل بالدولة... إنتِ معني بإنّك تعيش حرُ في مدينتك أو في قريتك الفلاحية أو البدوية، وتتنقل وتعمّر وتزرع وما حداش يتدخّل فيك ويهندس حياتك حسب مصالح غريبة عن الصالح العام لأهلك وناسك...

هياها بسيطة، مش معنيين بأكثر من هيك، نقطة.

إذاً، هذان هما المستويان: من جهة تريد العيش بحرية، فيما من جهة أخرى المطامع الاستعمارية متواصلة ومطوّلة.

هكذا يولد صراع مستديم على هذه الأرض، يبقى ويخلق ويخترع من جديد نموذجَ الإنسان المتمرّد على الظلم. إلى أبد الآبدين. آمين.

إسّا أنا عم ببالغ إلى أبد الآبدين بس إنّو في شي في هذه البلد... يعني غزّة هذه فعلاً شيء مذهل... هذا المكان في قدرته على المقاومة رغم كل البشاعات التي ترتكب في حقه... ما يحدث فيها هو حالة تمثّل شيئاً قيمياً أساسياً في البشرية وفي المعجزة وفي عبثية إنّه ينتصر الطغيان على الإنسان. في شي عبثي ومستحيل بمحاولات الطغيان كسر الناس، عبثي ومستحيل بالمطلق... ما بعرف ربما هذه وظيفة في التاريخ البشري... مكان يبقى نوعاً من محرّك مقاومة الطغيان في العالم...

وإسرائيل هي الامتحان الأكبر لأنّها الاستعمار الأعمق، الأكثر جذرية والأوطد بناءً، ورغم هيك يفشل فشلاً ذريعاً...

 

 

س: يعني يشعر الواحد بقلق عليك بس تُنشَر المقابلة

 

آه... لا يا معلِّم رواء...

أعلى ما بخيلهن يِركبوه...

رواء...

ثم ضحكٌ.

محمود مروّة

محرِّر موقع المراسل. عمل في الصحافة المكتوبة في جريدتي السفير والأخبار اللبنانيتين وفي وكالة الصحافة الفرنسية.

×