7 تشرين الأول 2024
7 تموز 2023
العدد الرابع
كنتُ حيث أسكن في الشارع الطويل الممتد بين «رونبوان الخسّة» (دوّار النافورة) والمدرسة الفرنسية في المرسى، أعرف أيام الأعياد الوطنية من الأعلام-البيارق الحمر حين تُرفع قبالتنا بأهلَّتِها ونجومها المطبوعة في دوائر بيض. نجدها في الصباح معلّقةً أعلى عواميد الإنارة التي يزيد ارتفاعها عن خمسة أمتار ويبتعد واحدها عن الآخر بنحو خمسين متراً. رغم هذا التناسق، تكون الأعلام كثيرةً لكادر واحد.
نحن نسكن في بلدة متوسطية تقع في واحدة من أقاصي نقاط شمالي ولاية تونس. يتوزّع مسرَحها لونا الأبيض والأزرق، وبحرُها الذي يطلّ على الشرق تقريباً، والسماء بنوارسها، والأبنية غير المرتفعة، وسكانها «الفرنكوفونيون والميسورون»، وزوارها (سياح الداخل) الوافدون من الأحياء المجاورة، أو من الجانب الآخر لهذا العالم للاستمتاع بطراوتها، خاصة في الصيف.
«أذكر جيداً عندما قصدتُ العاصمة للدراسة الجامعية في مطلع الألفينيات وزرت المرسى للمرة الأولى، كانت ساحرةً بالنسبة إلى شاب قادم من مجاهل الجنوب»، يقول الكاتب التونسي أحمد نظيف، ويضيف: «(ساحرة) إطلالتها البحرية ومطاعمها ومقاهيها، وخاصة بائع المثلجات قبالة الكورنيش!».
المرسى هي في أحد وجوهها صفوف الانتظار الطويلة عند Glaces Salem في الكورنيش، أو عند الآخرين المنتشرين في الطريق إلى سيدي بوسعيد. هي أيضاً تلك الطوابير قرب مقهيي الصفصاف والحْواص الأثريين من أجل «بمبلوني» بدينار فضي واحد.
قد لا يتجاوز سكان أحياء البلدة نفسها، دون محيطها، العشرين ألفاً كتقدير شخصي، وهم متفاوتون طبقياً. إذا كانت نسبة بارزة منهم تشكّل البورجوازية المحلية ذات الوجوه المتعددة، ثمة أيضاً «العيّاشة» من متوسطي الحال ونسبة أقل من «الزواولة» (للإشارة عامةً إلى الفقراء).
هي بلدة لسيناريوات هادئة يجري فيها كلّ شيء ولا شيء في الوقت نفسه. لا عجلة. من يسكنها لن يحتاج إلى الخروج منها. تصير(ين) وجهاً مألوفاً في محيطك بقليل من الوقت ودون التعرّض للاشتباه.
حتى البلَدية تؤدي عملها فعلاً في غالب الأحياء ولا تكتفي بجباية الضرائب. فترفع الفضلات المنزلية يومياً، وتنظِّف الشوارع (الرئيسية منها على الأقل)، وتهتم حتى بالكلاب السائبة التي لا تتخلّص منها رمياً بالرصاص كما يحدث في مدن أخرى، إنّما يجري إخصاؤها أو تعقيمها وتعطى اللقاحات الضرورية. كما أنّها توفّر حصصاً للرياضة الأسبوعية المجانية للراغبين! كلّ هذا هو ضرب من الخيال العلمي بالنسبة إلى الغالبية العظمى من التونسيين.
فرح صديق في العاصمة لمقامي في هذه البلدة: «شْفمّا خير من المرسى!». ربما تكون، في وجه من وجوهها، آخر ما تبقى من محيط تونس العاصمة الذي عرفه جيل الألفية في طفولته والجيل الذي سبقه في شبابه.
ما زالت متنفّساً. وما زال لـ«عِشْوِيّات» الصيف فيها مذاقها، كما في حلق الواد غير البعيدة. «تحتفظ بسحر خاص، رغم تراجع أحوالها على مستوى البنية التحتية كحال عموم البلاد»، يقول نظيف.
جوّها وبطؤها وعزلتها أتاحوا لي، بصفتي صحافياً، أن أصنع فيها طوال أشهر عالماً خاصاً بعد نحو 11 عاماً متتالية من العمل في الصحافة اليومية. جرّبت العالم مقلوباً، بلا معلوماته «الموثوقة». توقفتُ لمدّة غير وجيزة عن متابعة الأخبار لألتقطها مبعثرة «من تحت». من الطاولات المجاورة في المقاهي، ثرثرات سواقي التاكسي ومعلقين كثر في الراديوات، خطابات الرئيس، دكاكين «الحمّاصة» و«العطّارة»، ومن «الحَجّام» مثلاً الذي شرح لي فيما هو يحلق شعري في ثالث أيام الغزو الروسي لأوكرانيا كيف أنّ بوتين «باشْ ينيكِلْهُم دين والديهم».
ليست من أجمل البلدات الساحلية في تونس قطعاً، ولكن سمعتها كضاحية فرنسية تمتد في أرجاء البلاد كافة. فيطلق البعض عليها تسمية «الإمارة» تيمّناً بإمارة موناكو، لاختلاف الأجواء الاجتماعية فيها وأسلوب العيش القريب من النمط الغربي لفئة وازنة من أهاليها ومن الأجانب العاملين في المنظمات الدولية والشركات الكبرى والسفارات، والصحافيين الأجانب.
تستدرك نور، وهي أجنبية تعمل منذ سنوات في منظمة غير حكومية دولية وتعيش في المرسى، في سياق إعرابها عن حبّها للبلدة وراحتها فيها «بصفتي سيدة وحدي»، قائلة: «أزمتي الأساسية معها هو التواجد المبالغ فيه للعاملين في المنظمات والذين يعيشون غالباً في فقاعات. في تونس العاصمة تلتقي بأشخاص طبيعيين أكثر بمعنى أنّهم يعملون في مجالات شتى وليس حصراً في المنظمات».
يمكن للأجانب أن يجدوا مراجع إسنادهم الثقافية الأوروبية هنا، فيما هم يستمتعون بديكور بلدة عربية متوسطية وما تتيحه من طيب عيش وسلاسة في التعاملات. لن يلقوا مثلاً لدى التقدّم بمطالب الإقامة الكائنَ/الأمني العبوس الحازم الذي تقدّمت لديه في مدينة أريانة (شمالي غرب العاصمة) بأول مطلب إقامة لي في تونس. كان ذلك في نهاية 2021، وكانت العنصرية تجاه أفارقة جنوب الصحراء الآتين غالباً للدراسة مقزّزة في مركز الأمن.
«سيِّب العَرصة» نبر فيه. ضاق بعين أمنيِّ غرفة الانتظار عمود (عرصة) كان يلقي الإفريقي بدنه عليه.
لعب الشطرنج في مقهى الحواص (تصوير الكاتب)
وصفها الحسن بن محمد الوزّان (ليون الإفريقي) في القرن السادس عشر بأنّها «مدينة صغيرة قديمة مبنية على ساحل البحر (...) خربت في الزمان الغابر وبقيت خربة مدة طويلة، لكن يسكنها اليوم صيادون وفلاحون وقصارو الأقمشة، وتوجد بقربها القصور والضياع الملكية حيث يقضي الملك الحالي الصيف كله».
أما في التاريخ القريب، فكانت المرسى والضواحي الشمالية لتونس بصفة عامة «المكان الذي هربت إليه (في القرن التاسع عشر) الطبقة الحاكمة في العهد الملكي، والتي تضم الباي والعائلات المرتبطة بالبلاط، وهي (البَلْدِيّة) عائلات إقطاعية وجزء منها يهمين على المناصب الدينية العليا في البلاد (الإفتاء، شيخ الإسلام، مشيخة الزيتونة، إلخ)، بعدما كانوا في مدينة تونس القديمة التي نزح إليها قطاع واسع من سكان الدواخل (الريفيون والبدو) عقب دخول الاستعمار الفرنسي»، وفق أحمد نظيف.
«قبل ذلك، كانت خاليةً إلا من بعض رموز التصوّف الذين وجدوا فيها العزلة وسحر الطبيعة».
لكنّ المفارقة الاجتماعية، وفق الكاتب التونسي، أنّ «تلك الطبقة الحاكمة المكوّنة من جناح تركي وجناح عربي، وذات طبيعة محافظة دينياً واجتماعياً، هي من أرسلت أبناءها منذ منتصف الثلاثينيات للدراسة في مدارس فرنسية في تونس وفي باريس، في حين كان أبناء "العامة" يدرسون العلوم الشرعية في جامع الزيتونة» في تونس القديمة، وفق نظيف.
ويكمل: «استقرّ فيها في الوقت نفسه قطاع واسع من النخبة الفرنسية الاستيطانية، ولاحقاً بعد الاستقلال استقرّ فيها قطاع من الطبقة الحاكمة الجديدة ذات النزوع الفرنكفوني، تعليماً وثقافةً، ومع دخول البلاد مرحلة الانفتاح بعد السبعينيات بدأت تظهر فيها المدارس الفرنسية الخاصة، وهكذا في كل حقبة كانت تضاف إليها شرائح جديدة ذات خصائص طبقية عليا (إقطاع، برجوازية، برجوازية جديدة، طبقة وسطى عليا) وخصائص ثقافية فرنكوفونية، وبالتالي غدت المنطقة شبه جزيرة فرنسية».
«حتى أنّ اسمها العربي الأصيل، الذي يشير إلى المرفأ أو الميناء، يحيل دائماً لدى عموم التونسيين عندما ينطق بالفرنسية La Marsa إلى التونسي الفرنكفوني الميسور».
أذكر مرّةً في «عيد الجلاء» (15 تشرين الأول/أكتوبر) ابني فيما هو يتأمّل في طريق العودة من المدرسة الفرنسية الأعلام على عواميد الإنارة ليقول بثقة وفخر: بابا هذا علم المرسى! (باللغة الفرنسية). ضاع الصبي! ثم سأله مرّة الأهل في لبنان إن كان يحب العيش في تونس؟ فردّ بالثقة نفسها: أنا لا أعيش في تونس، أنا أعيش في المرسى. لَه يا الله!
فاجأني بائع الخضار في الشارع الخلفي لنا بالتحية باللغة الفرنسية في أول مرّة زرته. طلبت منه الجرجير فسألني إن كنت أقصد la roquette. مثال غير قابل للتعميم.
ثمة عند مدخل المرسى في فرع «مكتبة الكتاب» (أبرز المكتبات وطنياً)، زاوية ضيّقة للكتب العربية، أو بالكاد. البقية الباقية كتب فرنسية، وإنكليزية بدرجة أقل.
أكاد أجزم أنّها ألماسة العاصمة. «معمارها جميل وتقسيمها المَجَالي مريح ومبهج، وارتفاعها قليلاً فوق ساحل البحر يجعلها مُنسّمةً دائماً»، كما يراها الكاتب محمد بالطيّب القادم من الجنوب (تطاوين). «هي تبدو لي نقيضاً شاملاً لعوالمي الذاتية. البحر كنقيض للصحراء، والمركز والبَلْدِيّة كنقيض للأطراف والهوامش»، يقول.
لكن ليس سهلاً أبداً الدخول إلى العوالم العائلية وبخاصة الشبابية المرسويّة. «صعبٌ الدخول إلى المجتمع المحلي هنا»، يؤكد الشاذلي (اسم مستعار) الذي ولِد ونشأ في المرسى. فما هي الكودات اللازمة لاختراق هذا العالم؟ «الانتماء إلى المكان بدرجة أولى، بكل ما يعنيه ذلك من أبعاد اجتماعية»، يقول الشاذلي مضيفاً:
«الجميع يريدون الانتماء إلى المرسى. حين يفوز نادي "المستقبل الرياضي بالمرسى" يأتي الناس من لِبْحَر لَزرَق (أحد الأحياء الشعبية المحيطة) للاحتفال. الجميع يريدون الانتماء إلى هنا، لكن وفقاً عن أيّ مرسى نتحدث... كلّ واحد يراها من زاويته».
«لم أتعرّف إلى مرسويّين، بمعنى أنّي لم أدخل حيواتهم»، تقول نور.
«الناس الذين عرفتهم هنا هم أكثر communities، المصريين مثلاً والليبيين، وكان معظمهم يعملون في المنظمات غير الحكومية».
«هم communities مقفلة إذ ثمة حاجة لـ"حدّ يدخّلك". وهكذا هي الأمور في تونس عامةً: صعب أن تتعرف إلى أناس إنْ لم تكن تعرف أحداً. لازم حدّ يدخّلك». «مش متل ببيروت (...) القصص مش بهيدي العفوية»، تقول لبنانية تعيش في المرسى حيث تعمل منذ سنوات قليلة.
يصلها بالعاصمة طريق سريع يمتد لنحو 18 كيلومتراً، ومحطة قطار يركبه ناس الجوانب الأخرى بملاليم لبلوغها، وقبلها بقية أرجاء الضاحية الشمالية كسيدي بوسعيد، وخاصة قرطاج وحلق الواد في الصيف.
يذكّرني نفور سكان محليين من هذه المحطة بالجلبة التي دارت في صيف 2017 حول محطة مترو كان يُعمل على إنشائها في حي الزمالك بالقاهرة. كنتُ صدفةً هناك وكان جلياً السخط في أحاديث مع سكان التقيتهم، أو السخرية على سبيل «أصلاً هي الزمالك لمِّت» في إشارة إلى تدهور المستوى الاجتماعي لمن يرتادون الحي ويعيشون فيه.
بخلاف العائلات الكبرى التي بدأت بالهجرة إلى المرسى منذ القرن التاسع عشر، ثمة من انتقل إليها لاحقاً ضمن سياقات حكمت الاقتصاد التونسي. فيقول الشاذلي:
«أصلنا من المْدينة العَرْبي (العتيقة في وسط البلد)، جدي مولود قْبَل الحرب العالمية الأولى، كانت حرفته صناعة الجلد دباغي، وكان عنده مشكلة حساسية فكانوا يجيبوه هْنا في الصيف... تِعجبه المرسى... وبعد بالشويّة بالشويّة صارت مشاكل اقتصادية وما عادش فمّا إقبال على الصناعات التقليدية كيما قْبَل، وجاته فرصة ينتقل باش يخدم في شركة نقل تونس في الحافلات هنا، وبْناه الدار عام 1963 في ظل تسهيلات ما بعد الاستقلال لاكتساب الأراضي».
«بالتالي لسنا من العائلات المرسويّة أي التي يمكن وصفها بالمخملية، إنّما جئنا إلى هنا ضمن سياق تطوّر مدينة تونس الكبرى».
في القطار الذي يربط تونس بالمرسى
ثمة أيضاً من راحوا ينتقلون إلى المرسى في العقود اللاحقة، سواء أكانوا من متسلقي المصعد الاجتماعي الذي وفرته الدولة الوطنية أم من Les Nouveaux Riches.
يقول أوروبي عمل في منظمة غير حكومية في الضاحية الشمالية لتونس لوقت قريب وسكن في المرسى: «من عرفتهم يسكنون جميعاً في أحياء البلدة نفسها، وقسم منهم ينحدرون من مدن الساحل على وجه الخصوص. فمنهم من هو من صفاقس مثلاً، والآخر من سوسة، ولكن ليس من الداخل التونسي... إطلاقاً».
وعن «العقل»، يضيف: «يحبون الحفلات وأكيد "عندهم فلوس" (...)يعمل آباء من عرفتهم في مهن مثل الطب والمحاماة والهندسة وآخرون في التجارة، ومنهم من درسوا في الخارج وبالتالي علاقاتهم بالخارج أكبر من غيرهم».
«عندهم فلوس، يسهرون ويحتفلون بصورة كبيرة، في حفلات يكثر فيها الكحول وغيره (...) غالبيتهم يحبّون أجواء الـ Techno parties (...) وكل ويكند! (...) كنا مثلاً نستأجر داراً في الريف Airbnb لتنظيم الحفلات الموسعة»، علماً أنّها عادة صارت منتشرة في تونس عامةً.
أما عن «حيرة العقل»، فيلفت إلى أنّه «ثمة قلق كبير من الوضع في تونس وعلى المستقبل، وكما الجميع في البلاد يودّون هم أيضاً المغادرة»، قبل أن يختم مازحاً: «وطبعاً لديهم هموم الشباب نفسها كما في الدول كلها... قصص الحب والخيانات والديون والإدمان والخلافات الجيلية في العائلات، وما إلى ذلك».
في مقهى شبابي أميركي الطراز، سمعت أربعة شباب يتنقاشون بين العربية والفرنسية والانكليزية بأمر الدربي المرتقب في ذلك اليوم، وعن العمل والتجارة (وملايين)، وأسماء ماركات وبضائع فاخرة، قبل أن ينتقل فجأة الحديث إلى كريستيانو رونالدو. «أرجل واحد» يقول أحدهم، «صحيح» يؤيده الثاني. لماذا؟ يسأل رفيقهما ليجيبانه بأنّه الوحيد الذي لم يتبادل قميصه مع لاعبي الفريق الإسرائيلي بعد المباراة، رغم أنّه طُلب منه ذلك. فيؤكدون جميعاً تقديرهم له على هذا الموقف.
يقول «مواطن» من الأحياء الشعبية لقرطاج-بيرصة القريبة، أو «مواطن مطلّع» مثلما حلا له:
«في المرسى ماهُمْش كْرُزْ (فاحشو الثراء)، هوما مِذخْمين معناها Élégant أما ماهُمْش كْرُزْ».
ثم أضاف: «Par contre في قرطاج خاصة شيرِة (ناحية) لِبْحَرْ، كُلها كْرُزْ، يعني إلّي شادّين البلاد... مثل دار ميلاد، وداري مبروك و الشايبي إلي مناسبين بعضهم (...) الشايبي عنده مثلاً Carrefour... كارفور يازِّبي!!!».
يعرب «المواطن» في سياق الحديث الذي راح يتشعّب، عن اعتقاده بأنّه «من حلق الواد إلى قمرت تنجِّم تقول 50٪ يِتعاطوا... من الكل... كيما في تونس كلها إلي فِسْدِت بعد 2011».
يكمل: «في وقت بِنْ عْلِيّ كُنت نتكيِّف سيجارو نِبدا خايف أربعين يوم».
«كان بِنْ عْلِيّ مخرّينا على رْوَاحْنا... أما تْسَيْبِت لِبْلاد».
لم تكن الأعلام-البيارق وحدها هي التي تنبئنا بروزنامة أعياد الدولة. نعرفها أيضاً من خلوّ هذا الشارع، نهج عبد الرحمن مامي، من تلاميذ المدرسة الفرنسية، ومن أقرانهم الوافدين من الأحياء المجاورة إلى الثانويتين الحكوميتين الواقعتين خلفنا، حيث يبدأ درب بين الصنوبر يصل المرسى بسيدي بوسعيد وسيدي ظريف، ليزيد السحر سحراً. بحر قبالته جبل أخضر.
هربتُ قبل أيام من قيظ العاصمة وزحامها وخيبات كلّ ما كان. تثاقَلت تونس. أيقنَت خسارتها. شهدتهُا في العامين الأخيرين عاصمةً لأفعال عزاء كثيرة. دعوا الأحياء يدفنون موتاهم. لكن من صنع معارك فعلاً؟
صار يُرى في هذه المكتئبة بالفعل لا بالقول، أفق بلونين قاتمين «لا ثالث لهما لتونس: إما أن تنفجر البلاد انفجاراً سيكون دموياً هذه المرّة، أو أن يحكمنا العسكر»، يقول باحث شاب في علم الاجتماع.
لكن حين سيحلّ القدر، أين ستقف نخب المرسى هذه المرّة؟ فقد احتشدت بغالبيتها في انتخابات عام 2014 المفصلية خلف الباجي القائد السبسي في مشروعه الذي أظهرت الأيام كم كان دعِيّاً.
لم يُقدَّر للمرسى ولمثيلاتها أن تكون جزراً. هذا ما يخطر لكثر. لكنّي سأسافر بعد قليل مغادراً هذا المكان الذي صرت أشعر بانتماء ما إليه، وبامتنان. هل صرتُ مرسويّاً؟ بوجه من الوجوه ربما.
ثم انقضَت تلك السُنون وَأَهلُها فكأنها وكأنهم أَحلامُ
أبو تمام
محرِّر موقع المراسل. عمل في الصحافة المكتوبة في جريدتي السفير والأخبار اللبنانيتين وفي وكالة الصحافة الفرنسية.