7 تشرين الأول 2024
7 تموز 2023
العدد الرابع
الحزن شعور بلا ملامح. يلقي بظلال متصدّعة على أجسادنا. لذا لا نعرف أيّ جزء منها سيتألم بعد حين. على هذا النحو، كان مناسباً لعالم الفن أن يستكشف طبيعته على مدى قرون. يُنظر إلى إيميلي ديكنسون، الشاعرة الأميركية العظيمة في القرن التاسع عشر، أنّها المؤرخة الأدبية الكبرى للحزن، وصاغت كلماتها بأسلوب يعكس حال الدمار التي يتركنا فيها.
«112» هي إحدى أبرز قصائدها، وتقدّم استبصاراً لكيفية تجسيد الحزن لنفسه في حياة البشر:
طعم النجاح أعذب
لمن لم يذقه يوماً
ورحيق الأزهار أطيب
لمن ذرف دماً بين أشواكها
ما كلّ من خرج من ساحات الوغى
حاملاً رايات النصر
أدرك معنى الظفر
ولو رآه بأمّ العين
وحده الجندي الجريح
في سكرات موته
يسمع أبواق النصر تدوّي من بعيد
وسط الأنين والرّدى
هل ثمة تعبير أفضل عمّا شعر به ستيفن جيرارد وهو يرى ديمبا با يمضي بسرعة بعيداً عنه في 2014؟ انزلاقه، الانزلاق الأكثر مأسوية وعذاباً في تاريخ كرة القدم الإنكليزية، سيضع حداً للمسيرة الطويلة لليفربول نحو اللقب ذاك العام.
كان الفريق قد حقق لتوّه 11 فوزاً متتالياً منحه صدارة الدوري مع تبقّي ثلاث مباريات فقط. الفوز في ملعبه على تشلسي ومدربه جوزيه مورينيو كان كفيلاً بامتلاك ليفربول مصيره بين يديه. كان لهذه المباراة موعد مع القدر: بعد 25 عاماً على آخر لقب في الدوري الإنكليزي، كان ستيفن جيرارد الذي يجري دم ليفربول في عروقه ومشجّعه منذ الطفولة سيقوده إلى المجد.
لكن بعد ثوانٍ من سقوطه على العشب الأخضر في ملعب أنفيلد، انتهى كل شيء...
كان محو تلك الذكرى أكبر إنجاز منتظر من يورغن كلوب بصفته مدرباً لليفربول، أو على الأقل إيداعها في غياهب أذهان مشجعيه كلهم.
في 25 حزيران/يونيو 2020، في الصيف المؤلم للتفشي الأول لفيروس كوفيد-19، انتهت العقود الثلاثة لانتظار ليفربول لقب الدوري. الفريق الإنكليزي الذي هيمن على القرن العشرين عاد في نهاية المطاف إلى القمة. غدا كلوب من الخالدين، المدرب الأهم بعد بيل شانكلي، وقيمته تفوق حتى شريحة مطلية بالذهب من عيار 24 قيراط.
ذلك اليوم، أكثر من فوزه الموازي أهميةً بدوري أبطال أوروبا عام 2019، سيكون السبب الذي يؤدي إلى نحت تمثال من البرونز لكلوب ونصبه بفخر خارج ملعب ليفربول. هو لم يكتِف بالفوز فحسب، بل حقّق ذلك مع تقديم كرة قدم من أكثر ما رأيناه إثارةً على الإطلاق. أخذ تصاميم غوارديولا وأعاد صقلها عبر فلسفة بافارية فريدة وأنتج أمراً رائعاً خاصاً به.
لقد كان حقاً ملكاً مُتوجاً ذاك اليوم، وأكثر شخص محبوب في النصف الأحمر من المدينة. لكن للأسف لكل حقبة نهاية، وحركة المدّ والجزر لا تتوقف.
كان محو ذكرى سقوط جيرارد أكبر إنجاز منتظر من يورغن كلوب (Sky Sports)
مع نهاية مباراة التعادل 4-4 ضد ساوثمبتون الهابط إلى الدرجة الإنكليزية الأولى في اليوم الأخير لموسم 2022-2023، غطّت غمامة من الإخفاق أجواء الفريق.
كان مانشستر يونايتد قد عزّز بفوزه 2-1 على فولهام موقعه في المركز الثالث المؤهل إلى دوري أبطال أوروبا، وكذلك فعل نيوكاستل الرابع بتعادله مع تشيلسي، تاركين لليفربول المركز الخامس والاكتفاء بالمشاركة في Europa League، المسابقة الثانية من حيث الأهمية القارية، وذلك للمرة الأولى خلال ثمانية أعوام.
هذه النتيجة، مضافةً إلى الإقصاء من الدور الرابع لكأس إنكلترا وكأس رابطة الأندية المحترفة، والخسارة أمام ريال مدريد الإسباني في الدور الثاني من دوري الأبطال، جعلت موسم فريق كلوب سيئاً للغاية.
الصعوبات التي واجهها ليفربول هذا العام هي مزيج غريب من المفاجئ والمحتوم. تبدُّل الأقدار منذ الموسم الماضي يؤشر على هبوط لافت. كان الفريق قبل عام يحتاج إلى فوزين ليغدو أول نادٍ إنكليزي يحقق الرباعية. لو خسر مانشستر سيتي في اليوم الأخير من الموسم وفاز ليفربول على ريال مدريد في نهائي دوري الأبطال، كان الفريق سيحجز لنفسه موقعاً خالداً في تاريخ كرة القدم.
فقد أنهى فريق كلوب الموسم بلقب كأس الاتحاد وكأس الأندية المحترفة، والحلول وصيفاً في الدوري الممتاز ودوري الأبطال. ورغم الألم الذي يصحب الاقتراب من إنجاز دون تحقيقه، تبقى هذه الحصيلة جيدة جداً.
يرتكز التراجع (النسبيّ) لهذا الفريق على ثلاثة محاور أساسية: العمر والتعاقد السيئ والتكتيك.
على مدى الأعوام الخمسة الماضية التي توّج خلالها ليفربول بالدوري الإنكليزي ودوري الأبطال وكأسين محلّيتين وبلغ النهائي الأوروبي مرتين أخريين، اعتمد الفريق على نواة صلبة من اللاعبين. بعضهم كانوا ضمن التشكيلة قبل وصول كلوب، أو جرى التعاقد معهم في مطلع عهده، ما أتاح لهم التشكّل في بوتقة متراصة على مدى أعوام.
لكن بطبيعة الحال، يتقدم البشر في السن وبعضهم يمضون إلى تجارب جديدة. على مدى الأشهر الاثني عشر الأخيرة، اضطرت نواة هذا الفريق إلى اختبار صعوبة التقدم في السن وسوء تعويض من انتقل منهم إلى فرق أخرى.
تُظهر أعمار اللاعبين في الفريق أنّ القسم الأكبر منهم ناهز السابعة والعشرين، وبلغ ذروة مسيرته الكروية. ثلاثيّ الهجوم مانيه وفيرمينو وصلاح كان مشعاً. على مدى خمسة مواسم، سجلوا معاً 338 هدفاً في حصيلة مذهلة. كانوا توليفةً مثالية من المهارة والذكاء والقسوة والانضباط.
ثلاثيّ خط الوسط فينالدوم وفابينيو وهندرسون كانوا أيضاً ضمن الأفضل في العالم. ستحفظهم الذاكرة بصفتهم من أفضل مجموعات الضغط في تاريخ كرة القدم الحديثة. إرفاقهم ذلك بالتمرير الممتاز جعلهم خصوماً مدمّرين لمنافسيهم. ضمّ الفريق جيمس ميلنر أيضاً الذي كان في الحادية والثلاثين عندئذٍ، لكنه شارك بصفته أساسياً بصورة منتظمة، ودائماً ما نال المديح من كلوب.
يأتي خلفهم خط الدفاع. إذا كنت في 2019 تعمل على وضع التشكيلة الأفضل لفريق كرة قدم، فمن الصعب عليك إزالة روبرتسون وفان دايك وترنت ألكسندر-أرنولد من فريقك. روبرتسون المغمور غدا أحد أفضل لاعبي العالم في مركز الظهير، وترنت مضى في تغيير مفاهيم كرة القدم بأداء دور صانع الألعاب الموغل في العمق الخلفيّ لمركز الظهير، وفان دايك كان بلا منازع أفضل قلب دفاع أثناء العقد الماضي. حتى الحارس أليسون لم يكن سيئاً!
المقارنة بين هذا الفريق وذاك الذي حجّمه ريال مدريد بهزمه بنتيجة 5-2 في دوري الأبطال هذا الموسم تخلص إلى اختلاف صريح: الفارق واضح، وإذا اعتمدنا قاموس كرة القدم، يمكن القول إنّ الفريق يواجه خطر الهبوط. أربع من ركائزه الأساسية، أي أليسون وفان دايك وهندرسون وصلاح، تجاوزوا عتبة الثلاثين من العمر. في حين أنّ الحادية والثلاثين أو الثانية والثلاثين ليست سنّاً متقدمة نظراً إلى اعتماد كرة القدم الحديثة على علوم الرياضة المعقدة، لكنّها يجب أن توضع في سياق الفريق. من الجدير ذكره أنّ ميلنر وفيرمينو شاركا بصفتهما بديلين في هذه المباراة، وهما في الخامسة والثلاثين والحادية والثلاثين على التوالي.
أحد الفوارق الواضحة والأساسية بين الفريقين هو غياب مانيه وفينالدوم، مع انتقال الأول إلى بايرن ميونيخ الألماني في 2022 بعدما سبقه الآخر إلى باريس سان جرمان قبل عام. لم يتمكن ليفربول فعلياً من تعويض أيّ منهما. تعاقد النادي مع ثلاثة لاعبين لإعادة تشكيل ثلاثيّ خط المقدمة: داروين نونييز وديوغو جوتا وكودي غاكبو، وبقي صلاح الأساسيّ المضمون في التشكيلة.
ببساطة، وربما بصراحة فجة، لم يفلح أي من هؤلاء الثلاثة في تعويض مانيه باقتدار أو حتى ملء الفراغ الذي سبّبه تراجع دور فيرمينو. حقق جوتا عائداً مقبولاً بتسجيله 41 هدفاً في 113 مشاركة، بينما سجّل نونييز 15 في 42 مباراة في موسمه الأول، ولا يمكن منطقياً الحكم على غاكبو بعد لأنه لم يُمضِ أكثر من ستة أشهر مع الفريق.
الأكيد أن استبدال مانيه في الفريق يشكّل تحدياً ضخماً لأيّ كان، والأضخم من ذلك هو تعويض ثلاثيّ خط الهجوم. رفع ليفربول من مستوى رهانه وأنفق 180 مليون جنيه إسترليني على هؤلاء الثلاثة، بينما حصل على 35 مليوناً فقط من بيع مانيه. وفيرمينو غادر بصفته لاعباً حُراً هذا الصيف إلى السعودية.
التشكيلة المتقادمة في السن، مترافقةً مع تعاقدات مفككة، عرقلت قدرة ليفربول على اللعب وفق رؤية كلوب الكروية. نسخة هذا العام من ليفربول عانت لتطبيق أسلوبه في الضغط المكثّف مع سرعة قاتلة في الانتقال من طرف إلى آخر وخط دفاع متقدم.
الانطباع هذا الموسم أنّ الفريق خسر بصورة جماعية بعض إيقاعه. الضغط التكتيكي كان صحيحاً في غالبية الأحيان، واللاعبون كانوا يدركون توقيت إطلاقه المثالي. لكن بدا دائماً أنّهم متأخرون لحظةً كانت تكفي المنافسَ لاختراق الصفوف وبدء عملية انتقال هجوميّ. لعل عدَّهم «أبطأ بلحظة» هو أقرب لمبالغة في معايير الرضى، ولكن على هذا المستوى كل ملّيمتر هو بمنزلة كيلومتر.
ضمّ الفريق هذا الصيف لاعبي خط الوسط ألكسيس ماك أليستر ودومينيك سوبوسلاي
ما زال كلوب في السادسة والخمسين من العمر، ولكنّه أمضى أكثر من عشرين منها في التدريب: سبعة أعوام في ماينتس ومثلها في دورتموند، ويبدأ حالياً موسمه الثامن الكامل على رأس الإدارة الفنية لليفربول. بصورة أو بأخرى، يدخل ميداناً لم يختبره قبلاً، ويحاول تأدية ما لم يعهده سابقاً في مسيرته التدريبية: إعادة بناء فريق للمرة الثانية.
صحيح أنه غيّر الفريق جذرياً حين ضمّ أليسون وصلاح وفان دايك ومانيه... لكنّ السؤال: هل في مقدوره إنجاز ذلك مجدداً؟ إعادة البناء الثانية قد تكون في بعض أوجهها أصعب لما تثقلها به المرة الأولى. هل يمكن أن تكرر عظمة فريقك السابق؟ هل يمكنك أن تماثل حدة تلك السنوات؟ هل أنت مستعد فعلاً لتختبر مجدداً سيل الأحاسيس الذي تفجّره كرة القدم الاحترافية؟
تأتي بعدها الصعوبة العملية للإطار الخاص بالفريق. ليفربول لا يتمتع بموارد مفتوحة كأندية أوروبية أخرى. أراد كلوب بأسلوب واضح التعاقد مع جود بيلينغام، ولكنّه قال بصراحة إنّ إنفاق 100 مليون جنيه لضمه من دورتموند سيحول عملياً دون التعاقد مع أي لاعب آخر. يواجه كلوب تحديَ إعادة البناء لنواة فريق ولاعب واحد أو اثنان لن يحلّا مشكلاته كافة.
لقد طُويت حقبة السلالات في عالم التدريب منذ زمن. كان يُنظر إلى أليكس فيرغوسون وأرسين فينغر وفاليري لوبانويسكي بصفتهم آلهة في أنديتهم. كلوب يعمل تحت ضغط لم يواجهه أيّ من هؤلاء؛ هو يدرك تماماً أن موسماً سيئاً آخر سيرفع بصورة حادة من منسوب شائعات الإقالة.
قد يبدو التخلي عن كلوب مُستبعداً، ولكن تشيلسي أقال في الموسم الماضي مدرباً متوجاً بلقب دوري الأبطال، فيما أقال ليستر كلاوديو رانييري بعد ستة أشهر من تحقيقه الإنجاز الأكبر في تاريخ الرياضة، وتوتنهام أقال بأسلوب غير مبرّر بوتشيتينو الذي يُعدّ أفضل مدرب للفريق خلال 50 عاماً. كرة القدم متوحشة وغبية ولا ترحم إطلاقاً.
هذه المرحلة قد تكون أيضاً مدّة صناعة الإنجاز الأكبر لكلوب بصفته مدرباً، بإحياء فريقه وموازاة مجد الأعوام الماضية. سيستمتع بتحدي التحقيق لأمر لم يحققه إلى الآن. سبق له أن قال إنّ التحدي الماثل أمامه كان أحد العوامل المحفّزة في تمديد مدة تعاقده. في حديثه إلى برنامج مايكل كالفن الإذاعي Football People [رجال كرة القدم]، شدّد على أنّ ذلك «كان أحد الأسباب الرئيسية لتوقيعي عقداً جديداً، لأنني أعرف أنّها (إعادة البناء) ضرورية».
تثير المناطق المجهولة الخوف لسبب بسيط هو أنّ الخريطة التي تقود إليها تغدو فارغةً متى اقتربت منها. أن تكون ناجحاً ومؤثراً إلى القدر الذي كان كلوب عليه أثناء الأعوام الخمسة عشر الماضية هذا دليل على إيمانه بنفسه وبمهارته التدريبية. يدرك حجم المهمة الماثلة أمامه والشجاعة التي يحتاج إليها للنجاح فيها. سيلتزم مُثله العليا وقناعته الراسخة عن كيفية وجوب لعب كرة القدم. في غضون خمسة أعوام، قد نرى فريق ليفربول جديداً كاملاً في نهائي دوري الأبطال وكلوب رافعاً الكأس الفضية الأسطورية فوق رأسه مجدداً، أو ربما تكون هذه فعلاً نهاية حقبة مضيئة في تاريخ ليفربول، والتيار الذي يسبح عكسه سيسحبه إلى ماضٍ سحيق.
صحافي رياضي بريطاني. يكتب للمراسل.