7 تشرين الأول 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

من كتب هذه المقالة؟ ولماذا؟

علي زراقط

7 تموز 2023

العدد الرابع

كيف يمكن التأكد من أنّ المقالة على الشاشة أمام عينيك لم يكتبها برنامج ذكاء اصطناعي؟ وكيف لا يتملكك الشك في كل نص تقع عليه عيناك منذ ظهرت برامج الكتابة الآلية؟ فلتتأمل قليلاً ولتستنتج: هكذا مع الأيام، بدأ يتضح جلياً أنّ مهنة الكتابة تغيّرت إلى الأبد. التغيير ليس ابن البارحة، فمؤسسات مثل Bloomberg وThe Washington Post كانت قد بدأت استخدام الآلات المفكِّرة منذ 2016 لصناعة المحتوى. تغيّر كل شيء تقريباً في السنوات السبع الماضية، والماكينات التي كانت حكراً على الشركات الكبيرة صارت اليوم بين أيدي الناس كلهم. الآلة رهيبة؛ تعطيها موضوعاً وتطلب منها نصاً تخرجه في ثوانٍ. فما الفائدة من مجهود الكتابة؟

إليك في عجالة ما أفكر فيه: أناقش في هذا النص مستقبل الصحافة في علاقتها مع الذكاء الاصطناعي. هو نص أنصح أن يؤخذ في جرعة واحدة، مع ابتسامة ساخرة في الفم ورشة من السخرية المَلْحَةِ عند الحاجة.

إنّه زمن التغيير وعوامله كثيرة، فمن أين نبدأ بالعد كي نبدأ؟ هذا ونحن لا نبني على استقرار، بل نبني القلق على القلق، فالصحافة التقليدية لم تكن قد استوعبت صدمة النشر الرقمي بعد حتى أتتها صاعقة النشر المستقل، ثم منصات التواصل الاجتماعي، والآن الموجة الجديدة التي ستحوّل شكل العمل كلياً خلال السنوات العشر المقبلة. سيتغيّر شكل العمل في المجالات كافة، ووفق دراسة لشركة McKinsey عام 2021، إنّ 30% من الأدوار المهنية التي يقوم عليها الموظفون الآن قابلة للمكننة وفق التكنولوجيا المتاحة، وقد تكون الكتابة والمهن المتعلقة بها أكثر المتأثرين بهذه التغيرات.

يُذكر أنّ عدد العاملين في غرف الأخبار في الولايات المتحدة الأميركية انخفض بين 2008 و2020 بنسبة 26%، من 114 ألف موظف إلى 85 ألفاً، بحسب تقرير لمؤسسة PEW.

آه! عزيزي القارئ، مسيرة التكنولوجيا مستمرة مثل موكب من النمل في مهمة البحث عن حبة السكر بلا هوادة ولا اعتذار. مرّت جائحة كوفيد-19، ومرّت العاصفة التي طيّرت ميزانيات الصحف والإعلانات، وتحديداً عندما اعتقدنا أنّ حياتنا كانت قد بدأت الانتظام، يأتي الذكاء الاصطناعي، أو كما أحب أن أسميه «الذكاء غير الطبيعي»، لتغيير عالم الصحافة وإنشاء المحتوى. أوليس التطوّر رائعاً؟

تخيّل هذا: آلات خالية من المشاعر تصدر مقالات وتقارير في غمضة عين. أوه، كم هو «رومانسي» هذا المشهد! يمكن استبدال الصحافيين بأسطر من التعليمات البرمجية، ما يؤدي بلا تعب إلى إنشاء محتوى من البيانات المنظمة. تخيّل المقالات الساحرة عن المال والرياضة التي كتبها الذكاء الاصطناعي بكل ما في قلبه، عفواً، بكل ما في جدول بياناته من «مشاعر وأخلاقيات».

إذا كنت تعتقد أنّ صفحة الأخبار على فيسبوك أو صفحة الاستقبال على المتصفّح الخاص بك كانت مزدحمةً من قبل، فما عليك سوى الصبر، وكما قال محمود درويش: «انتظرها»، الأخبار المصممة تماماً على حجم رغباتك ستأتيك في الثامنة مساءً فانتظرها، وفي العاشرة انتظرها، ومع كل النوم المتبخّر من العيون في منتصف الليل انتظرها.

الذكاء الاصطناعي موجود هنا من أجل زيادة القدرة على إعداد التقارير. إبرة من الكافيين في غرفة الأخبار، أو فلنقل «شمّة من الكوكايين» تحثّ الصحافيين للعثور على مزيد من المعلومات، وتحليل المزيد من البيانات، واقتراح المزيد من الزوايا لقصصهم عبر طرقات قليلة من أناملهم على «الكيبورد»، أو صيحة واحدة للمساعد الآلي: «هاي شات جي بي تي! اكتب لي مقالة ذكية».

عزيزي القارئ، من يحتاج إلى النوم عندما يكون هناك ذكاء اصطناعي يقوم على الأعمال الصعبة؟ من يحتاج إلى النوم عندما تمتلك المساعد الذي لن يأخذ قسطاً من الراحة، وسيوفّر لك حاجتك وزيادة من المحتوى المتعمّق والقائم على البيانات، الذي دوماً رغبت في استهلاكه في الثالثة صباحاً. صح النوم!

دعونا لا ننسى المحتوى المتخصص، ليس بموضوع معيّن، بل المحتوى المتخصص بك شخصياً. تخيّل أن تمتلك كاتبك الخاص الذي يعرف مقاييسك تماماً كخيّاط محترف يفصّل البدلات: ذكاء اصطناعي يَعِدُ بتقديم محتوى بناءً على اهتماماتك وتوقعاته عن الاهتمامات التي قد تخطر لك في المستقبل، وعادات القراءة الجيّدة والسيّئة. إنّه ذكاء اصطناعي حميم يعرف رفاق السوء والهنّات والونّات وساعات البكاء الحزين مع لوح الشوكولاتة الذي طلبته عبر خدمة التوصيل.

تخيّل ذكاءً اصطناعياً يعرف لون ألبستك الداخلية التي اشتريتها عبر «أمازون»، وعدد خطواتك الذي يظهر على الساعة الذكية، ويعرف حتى تلك الأوقات التي نقرتَ فيها بطريق الخطأ على رابط يتكلم على عادات التزاوج لذباب الفاكهة. الآن صار في إمكانه أن يصنع لك موجزاً للأخبار الخاصة بك وفريداً مثلك، مليئاً بالقصص التي يعتقد أنّك ستحبها. كيفك معها هذه؟ الآلة تهتم بما تحب، أليس كذلك؟

إلى غرف التحرير، يا للكفاءة! لم يكن اكتشاف الأخبار العاجلة أسرع في أيّ وقت مضى. لماذا تنتظر حتى يخبرك الإنسان بحدوث زلزال في حين يستطيع الروبوت فعل الأمر في ثلاث دقائق؟ فضلاً عن ذلك يمكن للذكاء الاصطناعي تولي المهمات العادية مثل النسخ أو وضع كلام الصور، فيمكن للصحافيين الآن التركيز على المهمات «الحقيقية». ومن لا يفضّل آلة تستطيع أن تفرّغ محتوى تسجيل المقابلات وتصنّف الموضوعات في ثوانٍ وتضع لك تصميماً أولياً للمقالة على «اللمسة» البشرية؟

لكن بالطبع، كما الحال مع أيّ ابتكار كبير، هناك بعض التحديات «الصغيرة» و«غير المهمة». كما تعلم، «تفاصيل ثانوية» مثل المخاوف الأخلاقية حول تخصيص المحتوى الشخصي واختراقه الفردية وحقوق حماية المعلومات، كذلك هناك تفصيل حول فقدان الوظائف المحتملة في غرفة الأخبار، وسيل من الأخبار والصور والفيديوات المزيفة، ألم ترَ: ترامب يهرب من الشرطة؟ بالإضافة إلى ذلك، إنّ تطبيق الذكاء الاصطناعي في الصحافة خطر لدرجة أنّه يشبه محاولة تغيير إطار في سيارة مسرعة خلال تحركها.

لستُ هنا لأرسم مستقبلاً قاتماً، بل همّي أن أحدّد لنفسي ولكم بعض التحديات الواضحة في عالم صناعة الكلام والكتابة وإنتاج المحتوى. بين انخفاض الميزانيات وتراجع النشر الورقي، والكتابة الآلية عبر الذكاء الاصطناعي، وسهولة النشر المستقل لكل فرد يمتلك باقة إنترنت، لا يمكنني أن أنكر أنّ المهنة التي عملت فيها منذ أن كان عمري 18 عاماً تغيّرت. انخفض عدد الإعلانات في الصحف، وقلّت مبيعات الكتب، ووقعت المؤسسات الكبرى في الأزمة.

الناس لم تفقد الرغبة في القراءة. صحيح أنّ معدل الكتب والصحف قد انخفض بالفعل، لكنّ الإحصاءات تقول إنّ مئات الملايين يقرؤون يومياً بطرق أخرى. نعم، فبحسب social media today 77% من مستخدمي الإنترنت يقرؤون المدوّنات الالكترونية. فالمدوّنات ومنشورات التواصل الاجتماعي شكل جديد من القراءة والنشر. إذاً علينا أن نفكر كما يفكر العصر، وأن نتأقلم. لنبدأ من الآن: كُتبت هذه المقالة بالتعاون مع ثلاث آلات ذكاء اصطناعي...

ما موقفنا من ذلك؟ حسناً، دعونا نقول إنني أرش القليل من التفاؤل فقط على هذه الرواية المالحة كما ترون، فلقد تعاونت مع ثلاث آلات للذكاء الاصطناعي لكتابة هذه المقالة. أوه نعم! لقد قرأتم بشكل صحيح. إنّه عالم جديد شجاع، يا أصدقائي!... أو هل حقاً فعلت ذلك؟ ربما، كتب الذكاء الاصطناعي كلّ شيء؟

 

راسلوني على ali@alizaraket.com كي نتحدث أكثر عن ذلك.

علي زراقط

كاتب لبناني يعيش حالياً في كندا، ينشط منذ 2002 في الكتابة لمنشورات لبنانية وعربية، وفي إنتاج الأفلام والمواد الاعلامية للتلفزيونات والشركات.

×