7 تشرين الأول 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

فمي يبتلع المدينة

سارة أبو غزال

7 تموز 2023

العدد الرابع
(الصورة لسنان عيسى)

رأيتُ عصفوراً يقف في منتصف السماء لا يتحرّك. كان الترامواي يقطع أمام بيتي كعادته مُتسارعاً بين العشب الأخضر والأوراق التي تساقطت من الأرض إلى السماء. كانت الثعالب التي تعيش في المدينة تولد من ظَهْر الشجر، وتركض إلى أكياس النفايات تشمّها وتضحك.

رأيت حزناً يجتاح العالم، وصارت المارات ينهرن من البكاء ويذبن على الطريق، وكان الرجال ينامون على الأرصفة كأصنام مفزوعة، وظهر صدى لضحكات أطفال تشي بأنّها لن تعود. علمت عندئذ أنّ المدى تلاشى، وصار منسوب الحزن يرتفع، فذبلت النباتات من على الشرفات، وألقت بنفسها على الطرقات وأضحى اللون الأخضر يختفي. صار كل شيء بارداً مثل جبال مهجورة.

كان ذلك ما رأيت حين أمسكت امرأة جسدي لأشفى. كانت المرأة في الأصل شجرة عملاقة ثنت ركبتيها ومددتني على فخذيها، وكانت يداها تهزّاني كأني مولودة من جديد. لم أكن نائمة. رأيتني أهدهد على فخذيها ذهاباً وإياباً. كان هناك رماد يخرج منّي ويتناثر. كان الرماد يبتلع العالم، والسواد العظيم قد حلّ ليلاً يبتلع عالماً كنت شيئاً ما فيه: فكرة تقفز من حُجر الشجرة إلى الليْل العظيم. أتلاشى لأجد نفسي مجدداً بين ذراعي امرأة أمسكتني لأشفى. رأيت زجاجاً محطماً، وشبحاً يضرب نوافذ البيوت والسيارات، ويدور في حلقة مفرغة، شبحاً لا يمكن إصلاحه في دائرة مفرغة من الجدوى، فأكملت طريقي مسرعة نحو البحر.

رأيت فَمي يبتلع مدينة. كنت البحر تهزّني شجرة عملاقة، فوصل فمي إلى عين المريسة ونما عندي جوع قديم. كنت العدم وكان كل شيء شهيّاً، ففتحت فمي وقضمت الكورنيش فكرة وذكريات. كنت البحر ولم أرِد أن أحنو على الصيادين في موجي، ولم أرِد أن أكون ساكناً. هكذا مضى الكورنيش من الصور والذكريات، ولم يعد يعرف أحد اسم المياه التي كانت تطمئن المدينة إلى أنّها برّ.

رأيت رجلاً يبحث عن شيء ما فقده للتو، ويفتش في جيب سرواله من دون توقف، وتبحث ابنته في حقيبتها بين أقلام الحُمرة وأوراق الشوكولا المأكولة في السرّ. فاحت رائحة الغيظ منها. لم يعرفا أنّهما فقدا البحر لكنّي لم أشبع فأكملت في ابتلاع ما كان أمامي: كل النخيل المُستورد وأسماء الشوارع الوهمية، وأسوار المباني المقفلة. جئت بموجي إلى الشارع العام مقابل «أنكل ديك» وتسرّبت داخل المطاعم وبين السيارات حتى الشرفات، ولم أكن أشبع. بدأ أنفي يولد من شوق صغير لدي لرائحة شجرة فتنة أسقطت مرّة وردة على رأسي عندما كنت في السابعة وأنا أنتظر أبي أمام بوابة المدرسة السوداء المُقفلة. كان الشارع قد خلى إلا من رجل مسلح ومواء قُطة كنت قد خبئتها في حقيبة ظهري. صار أنفي يسحب كل الروائح من المدينة وأنا أبحث عن رائحة الفتنة لأول مرّة، فضاعت الطباخات وهن يقطّعن البصل والثوم. غدَونا كالكلاب يشمّنّ رائحة مطابخهن وفروجهن وعرق أحبائهن ورائحة الدماء التي تغلي في ركوة القهوة، فلا يجدن شيئاً سوى شوارع اختفت منها رائحة البول، ولم يعد هناك ما يُنذر أين يكون الرجال الشاردون.

رأيت أنفي يكبر ويسحب من المدينة كل الروائح، فصارت الحرائق لا تُشم، ولا تُعرف إلا من أصوات الضحايا التي تحترق أمام الكاميرات في بث مباشر لا يشاهده أحد لكنّها تصوّر بحكم العادة.

كنت البحر وأردت أن تكون لدي أذنان لأبحث عن صوت جارتنا التي كان تغني وهي تستحم، فصرت أستمع للأصوات في المدينة كي أكتمها، فاختفى مواء القطط وحشرجة نفس الرّجال الدائمي الاستمناء في المواصلات العامة والاجتماعات السياسية، وأصبحت العركات بينهم تختفي وتظهر وتختفي على طريق من دون أي جلبة. أخذت كل الأصوات إلى أذني وظهر صوت المذيعة التي مرّة ضحكت بصوت عالٍ فانزعج أبي وأطفأ الراديو.

كان بكاء امرأة تبحث عن صوت عشيقتها التي اختفت مرّة واحدة يطفو في أذني، فأخذت من المدينة كل الأصوات لتطغى عليها، فصارت تخرج المظاهرات مكتومة لا تستطيع أن تتحرك لأني ابتلعت أسماء الشوارع واتجاه البحر وكل المعالم التي سقطت من الخرائط.

 رأيت أنّه نمت لي أذنان امتصتا تحليق الطيران الإسرائيلي، فلم يعد أحد ينظر إلى السماء حيث بدأت تتشكل ملامح صورتي من طيور تنظم نفسها للرحيل.

حين اكتملت ملامح وجهي في السماء نفخت هواء جمّد المدينة كلها. كانت الشمس قد غابت منذ خمس دقائق، وبقي ضوء السيارات الواقفة وإشارات السير تومض. عندئذ خرجت من البحر وكان عمري إحدى وعشرين سنة وثلاثاً وثلاثين سنة وتسع سنوات، ومشينا بين الأحياء والأموات، ووجدت طريقي إلى أعلى بُرج المرّ، وانتظرت القمر ليظهر، ونفخت في أهل المدينة أن يزحفوا إليّ. فأتوا كأنّهم استيقظوا للتو وكان العمر قد انقضى، ولم يتبقَّ إلا الندم والنكران، فعدت البحر وابتلعتهم جميعاً وذابوا في موجي عدا الغرباء المنبوذين الذين أبصرت لهم اثني عشر براً وأرسلتهم إلى لارنكا ومنها إلى أوروبا، والذين تركوا لي في أكياس لبنة معلّقة على أبواب بيوتهم جميع ذكرياتهم، فالتهمتها.

من بعدها، تذكرت أني ابتلعت أمي وأبي وأخواتي لأني لم أسمع أصواتهم ولم أشم رائحتهم، ولم أعرف ملامحهم بين الجموع. رأيت ونحن في أعلى بُرج المُرّ أنّه لم يبقَ شيء سوى بضعة كلاب حراسة وقطط صغيرة احتلت القصر الجمهوري، وحمام بنى له عشّاً كبيراً في مجلس النواب، فتشظّى بسبب بيضة ظلّت تكبر فدمّرت السقف.

كنت البحر ومن موجي جعلت حدوداً لا تطمئن، فوقف الناس في ضواحي المدينة يندبون ويصرخون ويعدّون أسماء أحبائهم وأعدائهم وأسماء القتلى وأسماء القاتلين، ومن ثم بنوا تذكاراً من فخّار ونقشوا عليه كلمات مريبة عن كيف لن ينسوا أحداً، لكنّي كنت الغياب، وجعلت كل الأيام ما وراء الحدود أيام الأربعاء في موسم الحصاد، فانشغل الناس، ووسوست لهم قبلاً أنّ القمح لا يكفي للجميع، ولا يوجد كهرباء تكفي المفقودين إن عادوا، فلم يعد أحد يسأل عن الناجين، وتهيأ للجميع أنّ الحدود كانت منذ الأزل، وضحكوا من التذكار والنقوش، وأوحيت لهم أنّها من صنع الآباء الأقدمين. كنت العدم ومنه خرّجت بحراً يرتطم بالمدينة ويعود ليرتطم بأحشائي، وصارت السيدة الشجرة تمسّد لي شعري، فصرت العدم: كلما وقعت عيني على شيء، اختفى.

التهمت كل شيء من المدينة التي رأيتها فيني، فالتهمت الكلمات بنهم شديد ثم خلقت منّي سبعين عدماً. أكلنا ملفات الأغاني وصور الأفلام وكل التهاني والعزاءات، ومحونا كل الصور. بدأ الأمر بنقطة سوداء تكبر فأصبحت هوّةً وقعت فيها كل الإيميلات والرسائل والنميمة وأشجار العائلة والعثمانيين والانتداب الفرنسي والوصاية والحروب الصغيرة والكبيرة واسم جدي ورائحة ستّي وحكم المصرف والعهد القوي وشركة الكهرباء والخط الأخضر والنواب التغييريين وتجار الأمل والإصلاح السياسي... وأخذت النكبة وصنعت منها سنَّ ذهب ليبقى معي تذكاراً.

رأيت أنّي العدم، والتهمت ما وجد وتركت شجرة فتنة ظلّت قرب مدرستي تسقِط ورداً على الأرض، وتركت صوت جارتي، وهي تغني، يتنقل بين البيوت التي التهمت سكانها، فيخفت ويظهر، وصوت أبي أمام الشجرة يطلب مني الصعود إلى السيارة بسرعة، ويتكرر، وأبقيت على المتحف الوطني وبرج حمّود ومخيم شاتيلا ومار إلياس وبيت داهش وفرن اختشيان، وتركت المرفأ مشتعلاً ووقفت على بُرج المرّ أنتظر القمر لأرى كيف يبدو ما تبقى.

رأيت، ومن هول ما رأيت، أنّي أخرج من العدم إلى البحر إلى حضن السيدة تسألني عن شيء ما اختفى داخلي، فلم أعلم. كان هناك بحر وموج فقط.

سارة أبو غزال

كاتبة فلسطينية نسوية، صدرت لها المتتالية القصصية «احلمي يا سيدي» عن خان الجنوب، وتنشر مقالات رأي ومحتوى نسوياً في مواقع عربية شتى. تدوّن في: badiya.blog.

×