30 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

أليخاندرو غونزاليس إناريتو

محمود هدهود

7 تموز 2023

العدد الرابع
يعاني إتاريتو ازدواجاً عنيفاً في الهوية، فهو الجنوبي الذي لم يعد جنوبياً

«أحب صناعة الأفلام لكن السبب الوحيد في أنني أنفّذها هو أنني موسيقي سيئ جداً».

إناريتو

 

مخرج إعلانات مكسيكي كان سابقاً مذيع راديو. لم يدرس السينما قط لكنه يقرر في مطلع الألفية أن يدخل عالمها. بعد نحو عقد ونصف يحوز جائزتي أوسكار متتاليتين «أفضل مخرج» في 2014 و2015. بقدر ما تبدو تلك قصة واعدة عن سينمائي مبدع، بقدر ما تثير الارتياب في نوع السينما الذي يمكن أن يقدّمه شخص بتلك الخلفية: أفلام ويسترن تقدّم الأكشن في الصحاري الأميركية، أو أفلام نوار (films noirs) تقدّم الأكشن أيضاً في ضواحي ميكسيكو سيتي وعوالم الجريمة المكسيكية.

أطلق إناريتو قبل أشهر فيلم السيرة الذاتية السُّريالية الذي وضعه عن نفسه: Bardo, False Chronicle of a Handful of Truths [باردو، سجلّ كاذب لحفنة من الحقائق]. إناريتو كما يبدو في شخصية البطل سيلفريو غاما شخص يعاني ازدواجاً عنيفاً في الهوية، فهو المكسيكي الذي نجح ويعيش في الولايات المتحدة وحاز هناك جوائزها وتقديرها، تماماً كما ينتظر غاما جائزة الجمعية الأمريكية للصحافيين في الولايات المتحدة. لذلك لدى إناريتو شعور عميق بالذنب يتجلى في الفِلم كلما حاول تصوير معاناة اللاجئين، فهو الجنوبي الذي لم يعد جنوبياً، وغدا تلمّسه معاناتهم أشبه بمحاولة مستشرق أبيض طيّب القلب غسل يديه من معاناة الجنوبي عبر إبداء تعاطفه معها، وهو تعاطف لا يكلّفه شيئاً، بل ربما ينال الجوائز عليه.

في مشهد المقابلة التي كان يفترض به أن يجريها مع صديقه المذيع لويس، تنكشف هواجس الشخصية الداخلية وتناقضاتها. إناريتو هو مخرج الإعلانات الذي يقدّم سينما تنتقد عالم الإعلانات الاستهلاكية والثقافة المصنعة، وهو المكسيكي الذي تحتفي به السينما الأميركية كأنّها تغسل بذلك سمعتها من جريمة التنكيل بالمهاجرين المكسيكيين على الحدود. وفي مشهد آخر، لا يحرّك المخرج التقدّمي ساكناً أمام منع المنتجع الذي يقضي فيه إجازته العائلية للخادمة من الدخول.

المذيع لويس يتطلع في تحدٍّ إلى سيلفريو غاما

 

ازدواجية إناريتو كما تبدو في الفِلم تمتد عميقاً في جرح الهوية اللاتينية الذي لا يندمل. اللاتيني اختلط في عروقه دم المستعمر ودم الضحية على نحو لم يعد ممكناً معه أن يتّخذ لنفسه موقفاً جذرياً على إحدى الضفتين، ما يبقيه عالقاً وشاعراً إلى الأبد بمزيج من الذنب والعجز عن المقاومة والانتماء. ثم يتضاعف اللاحسم والشعور بالمراوحة في حالة المهاجر الناجح الذي يحاول أن يقنع ابنه: كم هي جميلة يا بُني تلك البلد التي نشأ فيها أبوك! ويريدك إليها أن تنتمي، بينما يراها الابن كما تبدو له بصدق من الخارج: طبقات من الفقر والخرافة والمعاناة.  يتخيّل إناريتو حواراً مع هرنان كورتيز، الغازي الإسباني الذي قضى على الأزتيك وحكم إسبانيا الجديدة، كما سمّيت المكسيك آنذاك، نيابةً عن الملك. يحاول إناريتو أن يؤكد انتماءه إلى المكسيكي الأصلي، بينما يجيبه كورتيز أنّ المكسيك لم توجد إلا على يديه.

مخرج مكسيكي في شكل كتلة من التناقضات يبدو أحياناً تجارياً مبتذلاً، وأحياناً سينمائياً وجودياً عميقاً وناقداً لاذعاً للرأسمالية المتأخرة التي يعمل هو نفسه في إنتاج إعلاناتها. ربما هي خيانة المثقف التي علينا ألا نصفّق له عندما يعترف بها ويحاول أن يكتفي بهذا الاعتراف للتطهّر منها. لكن حتى لا نقع أيضاً في خطيئة الكبر والجهل، نظل في حاجة إلى الانطلاق مما انطلق منه إناريتو نفسه في أعماله: ذلك الوعي العميق بالمأساة وعدم إمكانية الإفلات منها، أو بتعبير أقرب إلى الفلسفة: وعي بالوضعية التاريخية للوجود البشري.

 

ضباب على حدود الموت

«لست شخصاً كئيباً على الإطلاق، لكنّني أفكر كثيراً في حياتي، وفي الحياة عموماً، من منظور الموت».

إناريتو

 

بدأ الرجل مسيرته السينمائية بـ Death Trilogy [ثلاثية الموت]. كان نتاج تعاون المكسيكي مع الكاتب غيليرمو أرياغا سيناريوات تقوم على السرد التشابكي الذي يجمع خطوطاً درامية متوازية ومتقاطعة في نقطة ارتكاز أو أكثر مع بطولة جماعية. تشبه حكايات الأفلام الثلاثة عالم اليوم بانفتاحه وتلاشي حدوده وارتباطاته اللامتناهية، فلا مركز، ولا مسرح للأحداث لأنّ الأرض كلها قد تتسع لتكون مسرحها، ولا بطل، وإنّما بنية تتحدد فيها الشخصيات بعلاقاتها ببعضها بعضاً، بل حتى بالكائنات والأشياء، كالكلاب في الفِلم الأول Amores perros الذي يمكن أن نعرِّبه بـ «حب الكلاب». في ذلك الوجود العلائقي، تنكشف هشاشة الوجود الإنساني، فندرك أنّ حياتنا مشاهد من حيوات الآخرين، وأنّ الذات إنّما هي ابنة تلك الكليّة الكونية. أمام الهشاشة تلك تدفعنا «ثلاثية الموت» إلى إعادة التفكير في الموت وعلاقته بالوجود الإنساني.

يتقدّم إناريتو وأرياغا، عبر الأعمال الثلاثة، ببطء في اكتشاف تلك العلائقية. فيتخذ العمل الأول Amores perros شكل فصول ثلاثة كثلاثة خطوط متقاطعة عند حادث سيارة يشكل نقطة ارتكاز السرد في الفِلم. تتجلى الهشاشة ليس في تقاطع المصائر عبر حادث السيارة فقط، وإنّما في الهشاشة الكامنة في كل فصل من الفصول الثلاثة: أوكتافيو وسوزانا اللذان يعيشان حياة الفقر والجريمة والتهميش في حي عشوائي تتعلق مصائرهما فيه بملابسات جرائمية تهمشهما تماماً. دانييل وفاليريا حيث هشاشة حياة الإعلام والإعلانات الذي تنتهي فيه حياة العارضة بسبب حادث عارض يكشف لنا هشاشة وجودها وما يحيط بها من اهتمام. إل تشيفو ومارو الأب الذي هجر ابنته من أجل النضال الثوري ليتحوّل إلى قاتل أجير ومشرّد بعد عشرين عاماً في السجن نكتشف أنّها كفيلة أن تعيد خلق الإنسان. في كل فصل من الفصول الثلاثة، تلعب حوادث خاصة بالكلاب التي يقتنيها كل من الشخصيات الرئيسية دوراً محورياً في تعريف مصائرهم إمعاناً في كشف هشاشة وجودهم.

تقدّم الفصول الثلاثة في اجتماعها صورة لمكسيكو سيتي ليس في خصوصيتها، فلسنا أمام فيلم شخصي رومانسي يعود فيه المخرج إلى ذكرياته أو يقدم إلينا مدينته عبر عدسته على غرار أعمال المخرج الإيطالي باولو سورينتينو مثلاً الذي قدّم روما ونابولي بعينه الخاصة في La grande bellezza [الجمال العظيم] و È stata la mano di Dio [يد الرب]. مكسيكو سيتي في Amores perros مجرّد رمز للمدينة الحديثة المنقسمة على نحو صارخ بين أحياء عشوائية يعمرها الفقر والجريمة، وشوارع واسعة ذات حدائق ومقاهٍ وإعلانات وشقق فارهة. ميزة Amores perros أنّه لا يقف هنا عند حد استعراض التناقض، ولا يكتفي بإبراز الصلة العرضية بين العالمين عبر حادث سيارة، وإنّما يعود عبر الفصل الثالث ليركّب العالمين اللذين يتصلان بخيوط الفساد والجريمة، وتتجلى بشاعتها في التهام المثقف (شخصية إل تشيفو التي يؤديها إيميليو إتشفاريا) وخيانة ضمير المجتمع لنفسه قبل مجتمعه. يقول لنا Amores perros بطريقته إنّ مكسيكو سيتي الجديدة، أو بالأحرى مدينة الرأسمالية المتأخرة، ما هي إلا حلبة واسعة لمصارعة الكلاب.

إل تشيفو يضع صورته بين صورة زوجِه وابنته

 

في عملهما الثاني 21 Grams [21 غراماً]، يتجاوز إناريتو وأرياغا فصول Amores perros، ونرى بذور تمرّد إناريتو على السينما الروائية وحلمه بسينما شعرية لا تبذل معانيها للمشاهد، وإنّما تطالبه بنوع من التورّط العاطفي. يتحرك إناريتو في سرده جيئة وذهاباً بين الأحداث على نحو متمرّد على التتابع الزمني محاولاً خلق زمن وجودي خاص هو زمن التجربة الوجودية العصيبة التي تحياها الشخصيات الرئيسية الثلاث، مذكراً إيّانا بسينما الموجة الجديدة وأوروبا الشرقية. فعوضاً عن أن يكون الموت هنا ابناً لمجتمع العنف والجريمة نراه بوصفه شرط الوجود الإنساني، أي بما هو وجود نحو الموت كما يعرّفه هيدغر. إنسان على حافة الموت لكنّه يعيش لأنّ إنساناً آخر قتل إنساناً ثالثاً ليمنح بموته حياةً للأول، لكنّ الأول ذاته لا يلبث أن يجد نفسه مرة أخرى حيال الموت بالمرض نفسه فيتساءل: «كم حياة نحيا؟ كم مرّة نموت؟ إنّهم يقولون إننا جميعاً نفقد 21 غراماً في لحظة الموت بالضبط. كلنا»، كأنّ بول ريفرز (شون بين) يتحدث عن الوحدة الأصلية للبشر، وعن دوران الأرض حتى تجمعهم من جديد كما تقول قصيدة أوجينيو مونتيو التي يقتبسها ريفرز في الفِلم.

تلك الوحدة الأصلية للبشر تختفي هنا أيضاً وراء التناقضات الاجتماعية. حياة أستاذ الرياضيات والسيدة الغنية وحياة العامل البسيط الذي يتسبب في موت زوجها لا تتحدد وجودياً بالموت والتعالق الإنساني والهشاشة والاغتراب فحسب، وإنّما أيضاً بالوضعية التاريخية والتفاوت الطبقي الذي يعطي لمعاناة كل شخصية ومأساتها ميزتها وأبعادها الخاصة. جاك جاكسون (بينيشيو ديل تورو) وكريستينا بيك (ناعومي واتس) يعانيان إدمان المخدرات والكحول لكنّ شكل معاناتهما وشكل الدعم الذي يحصلان عليه يختلف باختلاف موقعيهما الاجتماعيين.

رغم أنّ Babel [بابل] هو المتمم لـ«ثلاثية الموت» فإنّه أقرب إلى همزة الوصل بين العملين الأولين والعمل الرابع لإناريتو. بابل اسم مستعار من القصة التوراتية التي ترمز إلى الوحدة الأصلية للبشر وتفرقهم اللاحق بسبب ألسنتهم. تتداخل في الفِلم مصائر البشر بين المكسيك والولايات المتحدة والمغرب واليابان، ونرى تعالق الوجود الإنساني على صعيد كوني. لكنّ تلك المصائر تتغير أيضاً بحسب الموقع، فبينما ينجو الأطفال الأميركيون ويعودون إلى المدرسة، وتنجو الطفلة اليابانية (تشيكو المصابة بالصمم) ويحتضنها والدها، يُقتل الطفل المغربي على يد الشرطة، وبينما تُنقَذ الأم الأميركية، تُرحّل المربية المكسيكية. إنّ تعالق الحيوات وتشارك الأسر بين القارات الثلاث في المآسي لا يلغي تفاوت المصائر بناء على خطوط الانقسام الاقتصادي والسياسي العالمية.

في عمله الرابع Biutiful [جميل]، يحاول إناريتو دون أرياغا هذه المرّة أن يعقد جدلاً مع بابل، فيقول إنّ الشمال لا يمكن أن ينجو دون الجنوب، فأطفال الإسباني أوكسبال المصاب بالسرطان والسائر نحو الموت لا يمكن أن ينجوا حال تخلت عنهم اللاجئة الأفريقية إيجي وقررت العودة إلى بلدها، ولا يمكن أن ينجو ضمير أوكسبال عندما يموت عشرات اللاجئين الصينيين بسبب المدافئ الرديئة التي خنقهم احتراقها الناقص بصمت. إنّ الشمالي كما يؤكد «جميل» وكما ظهر في «بابل» ليس مستثنى من الشرط الإنساني، فهو يعاني الهشاشة الإنسانية نفسها أمام المرض (سرطان أوكسبال وصمم تشيكو اليابنية في «بابل») والفقر وخسارة الأحباب (الأب في «جميل» والأم في حالة تشيكو والابن في حالة ريتشارد وسوزان في «بابل»).

 

التحليق فوق الزيف

«لست فيلسوفاً، وإنّما صانع أفلام، لكنّني أتصوّر أنّ أمامنا طريقاً طويلاً قبل أن نفهم اللاوعي تماماً. مشكلتي مع الأفلام أنّ الناس يفهمونها الآن كأنّها تمثيل دقيق للواقع. لست مهتماً بالواقع في السينما بقدر ما أستكشف الطريقة التي نختبر بها حقاً الحياة، وهي بعيدة جداً عن الواقع».

إناريتو

 

«بالفن، يسيطر الإنسان على الواقع عبر التجربة الذاتية... الفنان يعبّر عن هذه الأشياء بخلق الصورة الكاشفة عن الجوهري، عن المطلق. بالصورة، يتعزّز الوعي باللامتناهي: السرمدي ضمن النهائي، والروحاني ضمن المادة، واللامحدود يكتسب شكلاً».

أندريه تاركوفسكي

 

كاميرا يبدو من حركتها العفوية أنّها محمولة باليد وتتحرك سريعاً كأنّها تركض خلف الممثلين، ونقرات درام بلا نغمة، ولا قطع كأنّ الشريط السينمائي لم يخضع للمونتاج. مسرح الأحداث هو مسرح وغرف للملابس وللممثلين بينها دهاليز ضيقة حيث الحوارات مقتضبة وانفعالية ومبتورة.

بعد أربع سنوات من التوقف قدّم إناريتو عمله الجديد Birdman [بيردمان] أو [الرجل الطير] بنمط من السرد لا هو تتابعي ولا شبكي، وإنّما يبدو كل شيء متزامناً رغم مرور الأحداث، فالزمن مضغوط بين حوارات الشخصيات مع بعضهم بعضاً وحوارات ريغان تومسون (مايك كيتون) مع ذاته وتجربة وعيه التي يرى فيها نفسه جالساً على الهواء ومحركاً الأشياء بالإشارة. مع ذلك تجعل الخبرة البصرية لـ «بيردمان» سينما إناريتو تكشف عن نفسها أكثر فأكثر: «ترجمة اللاوعي إلى صورة»، على حد وصف الناقد الأميركي جيم هيمفيل للتعاون بين إناريتو والمصوّر السينمائي تشيفو.

إذا كانت الأفلام الأربعة الأولى تضع الوجود الإنساني بين قوسين محاولةً اكتشاف شروطه ومحدوديته، فإنّ «بيردمان» على النقيض؛ هو حلم بالإفلات من محدودية الوجود الإنساني، أو بطريقة أخرى: البحث عن الوجود الإنساني الأصيل. يحدّد عنوان الفِلم شرط تلك الأصالة، فـ«الميزة غير المتوقعة للتجاهل» كما يقول عنوان الفِلم هو أنّه يحرر الإنسان من ذلك الوجود المزيّف الذي يسيطر عليه، الوجود الذي يتوسل به إعجاب الآخرين.

شخصبة البطل الخارق «بيردمان» التي جلبت إلى ريغان الشهرة والإعجاب تسيطر عليه وتطارده، وتحاول أن تبقيه في دوامة توسل الإعجاب. يحاول ريغان طوال الفِلم الهرب لكنّه يبقى في شراكها لأنّه ما زال مهجوساً بنيل إعجاب الآخرين.

ريغان (مايك كيتون) يتطلع في المرآة إلى بوستر شخصية «بيردمان»

 

«ليس لديهم أي شيء مما أردتَه».

بطاقة أرسلتها سام، ابنة ريغان تومسون (إيما ستون)، إلى أبيها

 

تُمثّل سام نوعاً من التروما لوالدها. إنّها الواقعي الذي يستعصي على الترميز بلغة لاكان. بالنسبة إلى لاكان، تترجم البنية النفسية خبرتها (المتخيّل) عبر منظومة رمزية تعيد تعريف كل خبرة حدثت في حياة الإنسان. يبقى شيء ما عصياً على الترميز ولا يجد موقعه في سردية «الأنا» عن نفسها، وتكشف عجزها عن امتلاك نفسها على نحو كامل ووجودها العلائقي أو هشاشتها. هذا الفائض عن الترميز هو الواقعي الذي تمثل المواجهة معه، بتعبير لاكان، تروما تفتح لـ«الأنا» باباً لإعادة النظر في عملية الترميز بأسرها. في حالة ريغان، يعيد الأخير اكتشاف نفسه وتحريرها من «بيردمان». في لحظة المواجهة، وبينما يتحدث ريغان عن المسرحية كمحاولة منه لإنتاج فن حقيقي، تصرخ به سام: «دعنا نواجه الحقيقة. إنّها ليست من أجل الفن، وإنّما لأنّك تودّ أن تشعر بأنّك مهم مرة أخرى».

لكنّ الوجود الأصيل في الفِلم لا يعني العزلة عن الآخرين، وإنّما نوع جديد من العلاقة معهم: الحب لا الإعجاب، هو طريق الإنسان إلى وجود أصيل ومتصل بالآخرين لكنّه لا يحاول نيل رضاهم. تخبره زوجه السابقة سيلفيا (أمي ريان): «أتعرف، كوني لم تعجبني الكوميديا التافهة بينك وبين غولدي هون، هذا لا يعني أنني لا أحبك. هذا ما تفعله دوماً: تخلط الحب بالإعجاب».

ينتج ريغان في الفِلم مسرحية مبنية على قصة قصيرة للكاتب الأميركي ريمون كارفر بعنوان: «ما الذي نتحدث عنه حين نتحدث عن الحب». في القصة: يتناقش ثنائيان حول طاولة عشاء عمّا هو الحب، لتخبر إحداهنّ عن زوجها السابق الذي كاد يقتلها لأنّه يحبها وانتهت به الحال بعد هجرها له وتهديدها وزوجها الجديد الحاضر بالقتل إلى الانتحار. سيلفيا وريغان كذلك انفصلا بعدما صوّب الأخير سكينة المطبخ على سيلفيا ليخبرها بعدها بساعة أنّه يحبها. كأنّ «بيردمان» يريد أن يقول لنا إنّ هذا ليس الحب الذي يمنحنا الوجود الأصيل، فهو أقرب إلى الرغبة في الامتلاك والتغذي على المحبوب، وإنّما الحب المطلوب هو الذي يجعلنا مستعدين للعطاء. لذلك يفتتح الفِلم باقتباس من ريمون كارفر نفسه في شكل حوار:

- وهل حصلت على ما أردته من هذه الحياة، رغم ذلك؟

- نعم.

- وماذا أردت؟

- أن أدعو نفسي محبوباً، وأن أشعر بأنّني محبوب على الأرض.

لكن مرة أخرى، وكما رأينا في ثلاثية الموت، لا ينفصل سؤال الوجود الأصيل في العالم عن الوضعية التاريخية للوجود الإنساني. إنّ ريغان يعاني في سعيه الحثيث نحو هذا الوجود لأنّه ابن عالم الرأسمالية المتأخرة والثقافة المصنعة في سينما الكوميك والشخصيات الخارقة التي تعطي المشاهدين متعة سريعة وجاهزة لا تحتاج إلى صبر أو تأمل، والإعلانات التي تخلق للذات عالماً استهلاكياً موازياً يصعب عليها أن تنسحب منه. هكذا نرى في أحد المشاهد اقتباساً من رولان بارت: «العمل الثقافي الذي كان يفعله في الماضي الآلهة والأناشيد الملحمية تفعله الآن إعلانات المنظفات التجارية وشخصيات الكوميك».

 

سينما جديدة في هوليوود

«يحتاج الفِلم إلى تأمّل أكثر، وقليل من الصبر، وأن يكون أكثر غموضاً إلى حد ما، وأكثر تمنعاً، وأقرب إلى الشعر، وأقرب إلى النفس».

إناريتو

 

تناقضات إناريتو لا تتوقف عند هويته وموقعه وشخصه بل تمتد إلى سينماه، إذ يمكننا أن نصفه بأنّه ذلك الذي يحاول أن ينتج سينما أوروبية في هوليوود الأميركية في وقت خفوت وهج تلك السينما الأوروبية نفسها. لا تخفي تصريحات إناريتو المتحفظة إعجابه الكامن بفيلّيني وغودار، فـ«باردو» مثلاً سار بوضوح على خطا Huit et demi [ثمانية ونصف]، ويمكننا أن نجد في تصريحات إناريتو شبهاً واضحاً بفلسفة تاركوفسكي السينمائية التي شرحها في كتابه Sculpting in Time [نحت الزمن].

السينما عند إناريتو، كما لتاركوفسكي، ليست رواية مصوّرة، وإنّما محاولة لترجمة التجربة الوجودية للإنسان عبر الصورة، ولذلك إنّ زمن السرد السينمائي يشبه الزمن الوجودي لهيدغر أكثر مما يشبه زمن الفيزياء: لا تتابع ولا أجزاء، وإنّما توتر مضغوط يظهر في الكاميرا وترتيب مسرح التصوير وانفعالات الممثلين. تتحوّل السينما بهذا الشكل إلى قصيدة شعرية أو دعوة للتأمل الفلسفي الذي لا يقطع مع الواقع أو لا يرفض تمثيله تعالياً عليه، وإنّما يحاول أن يصل وراءه إلى أساس تشكل هذا الواقع عبر التجربة الوجودية للإنسان نفسها.

حتى عندما يخرج إناريتو إلى سردية تقليدية في «العائد»، فإنّه يهمّش السردية ليركّز عبر تجربة بصرية فريدة على علاقة الإنسان بالطبيعة وصراعه ضدها من أجل إثبات وجوده وحمايته والتعالي على شروطها في سبيل أحلامه الخاصة غير الخاضعة لقوانين الطبيعة بالضرورة.

لا تنبع نقدية تلك السينما من هجوم مباشر على الشروط التاريخية للوجود الإنساني، وإنّما كشف تلك الشروط في تحديدها للتجربة الوجودية للشخصيات في العمل، ولذلك هي ليست سينما سياسية بالمعنى المباشر الذي نعرفه للكلمة لكنّها سياسية إذا عنت السياسةُ الظرفَ التاريخي الذي يجد الإنسان نفسه يحيا داخله ويحقق وجوده به.

تلك هي راهنية إناريتو التي لا تحجبها تناقضاته بقدر ما تبرزه، فهو ليس مخرجاً يقدّم أعمالاً سينمائية جيدة فحسب، وإنّما مخرج يحاول أن يعيد إلينا سينما شعرية ونقدية انقطعت صلتنا بها منذ أمد بعيد.

محمود هدهود

كاتب مصري مختص بالفلسفة السياسية.

×