10 كانون الأول 2024
19 نيسان 2023
العدد الثالث
في الحي غير البعيد، حي نازحي الحرب التي انتهت منذ عقود، تعلم كيف يكون حارس مرمى يعارك وحيداً على الخط الأخير. كبر أمام قائميْن وعارضة إلى أن صار حريفاً: إذا شب للكرة يشب بتوق، وإذا رماها فبإتقان كسيناريست يفتح اللعبة على أكثر من احتمال.
هناك، جلس يفكر في مباراة اعتزاله قريباً. يحدق إلى العلبة التي اختارها بعناية ليضب قفازيه إلى الأبد. يشرد، ثم يقلِّب رواية أعادوا نشرها لصحافية تروي الرجوع إلى جزيرتها بعد منفى طويل. راح يتأمل مروية تحكيها عن بحَّار لم يكل وهو يبحر نحو أفق أزرق لن يبلغه؛ هناك في الجزيرة حيث «يجهل الأجانب أن كنائسنا الكثيرة ما هي سوى قرابين لبحارة ازدراهم البحر».
كان في حاجة إلى البحر، إلى سكينة تروِّض القلق الذي يستعِر كلما أيقن للمرة الألف أن خطَّي حياته المتوازيين شارفا على الالتقاء. عندما يبعِده عمر الأربعين عن هوايته، ويحل يوم تغلق جريدته الأبواب لمرة أخيرة. هكذا يكوِّره الحزن كلما باغته هذا القلق جاعلاً كل شيء كأنه معدٌّ لرحيل، فإذ به يبكي بعدما ذهلت عيناه ببياض ينسلُّ من الكتاب، أنصع بما لا يضاهى من أي خطٍّ أبيض حرسه.
كعجيبة تتحقق، رآه يتشكل على هيئة جنين يهادن بكفَّين ضئيلتين أول الضوء، وعلِم في الحال أنه هو الذي رآه في منام بقي بلا تفسير، محمولاً على ظهر حمار يشق الدرب في الوعر. فانحنى مثل حارس عتيق يرفع الكرة بعطف، ليحمله إلى العلبة ويهرع إلى الجريدة.
توهمه خبراً، قائلاً بحدس صحافي: كذلك يكون بالفعل إذا ولِد. كان واثقاً ثقة تامة أنه لا يعاني انفلاتاً ذهنياً يتجاوز الحدود التي ألفها إلى الهذيان. فغالباً ما ينقلب العالم مرناً ليِّناً طيِّعاً، بل قابلاً لإعادة التشكيل لحظةَ يغيِّر الاضطراب النفسي مزاجه، فيجرفه من حزن بالغ إلى نوبات انتشاء. غير أنه واثق!
صار كلما اقترب من الجريدة، ترسخ يقينه بأن كل شيء سيتغيَّر، بعد قليل فقط. فجعل يستحِث الخطى للحاق بهيئة التحرير، رغم الذكريات التي أخذت تسيل سيلاً لا ينضب. تذكر والده يدخل بيتهم الذي سكنوه أياماً معدودات لم تنتهِ، حاملاً كتاب تفسير المنام الذي لا يزال يحتفظ به ككتاب مقدس، بعدما رمم غلافه الكرتوني الداكن. بأنامل ذلك الطفل الصغير، لا يزال يرجع إليه باحثاً عما يقولون في رؤاه.
بينما هو يخطو عتبة الغرفة حيث وجدهم متحلقين حول الطاولة ذات النتوء المربع المخصص لمقعد الرئيس وهره الدائم الوجود، تذكر كيف كان طفلاً يرتمي خلف الكرة في ملعب حيهم الترابي.
بصوت بدا أنه لم يُسمع صاح «أنا الآتي من ذلك الحنين». فلا شيء سواه يحيي الذكريات لتمثلَ كواقع على مسافة خطوة واحدة.
بدوا كسالى خاملين فيما حرب جديدة تندلع والجريدة تدنو من يومها الأخير. رأى في عيونهم خيبة مهاجم يهدر فرصاً لا تضيع، فراح يُخرِج بنعومة ما أعلن أنه أجمل خبر يراه. حلمَ بأن يكون خبره العجائبي كفيلاً بتغيير مسار مشترك بلغ نهايته، أو عساه يطلي بلونه الأبيض الأفق الحالك فيستحيل وهماً لا وجود له.
هو من نوع الحالمين ذوي القدرة الهائلة على تحويل الواقع عالماً موازياً. فدوماً صقلت الأحلام شخصيته: حلم حيِّه، وآخر إلى حياة ظلت تجهله، وثالث ولِد مع كل ارتماء إلى الكرة. لكنه وقف باهتاً يراقبهم منغمسين في ملهاتهم، ذائقاً مرارة خيبات أمثاله.
فقال بصوتٍ نديٍّ راحت تشكِّله حنجرة تغدو كجوزة جفَّفت الشمس ثناياها: «لم أكن أريد هذا الألم، فالحلم هو ما تحرسه منذ أوله».
عندئذ، أيقن أن ما يحمله هو خبر لحلم من نوع آخر. وبعذوبة خاطفة، سرت عروقه، رآها الأحلامَ تعبر ككرة بطرفة عين، ودهناً يسيل، وماضي هذه القلعة يمرُّ كشريط سريع بانت أمه في آخره تتلو عليه القصة الأولى، عن طفل ذهب إلى حقول بعيدة ليعانق القمر.
بتريُّثٍ غادر، يحمل بكفَّين مخضرمتين رحيلَه كخبر لا يموت.
إلى صحافي رحل
محرِّر موقع المراسل. عمل في الصحافة المكتوبة في جريدتي السفير والأخبار اللبنانيتين وفي وكالة الصحافة الفرنسية.