16 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

كانت الرحلة الخطأ

محمود مروّة

26 كانون الثاني 2023

العدد الثاني
سماء بيروت صباح الأوّل من كانون الثاني/يناير 2023 (سنان عيسى)

افتتاحية المجلة في عددها الثاني

مرّ شهر أو أكثر على هبوط الطائرة بهدوء في مطار إسطنبول. صار لا بدّ من محطة في هذه المدينة، أو في القاهرة، للسفر بين تونس وبيروت بعدما أوقف الوباء رحلةَ الساعات الثلاث، ومنع استئنافها خلافٌ لم تُعلَن طبيعته بين شركتي النقل الجوي في البلدين.

علِمنا في ذاك المساء أنّ بطلاً جديداً وُلِد ونحن محلّقون. يولدون في مخيّلاتنا وأوهامنا، لكن ماذا يُرتجى أكثر من بطل؟ هناك أبطال عرفتهما هاتان المدينتان؛ بعضهم نحتَت صورهم نضالات سنوات خلت، وآخرون ولِدوا بالخطأ، يجثمون فوقهما كقدر أسود.

تتشابه تونس وبيروت مع اشتداد الأزمات. ولقد شاءت المصادفات أن يتزامن اندلاع احتجاجات 17 تشرين الأوّل/أكتوبر 2019 التي رافقت بداية الانهيار في لبنان مع تولي قيس سعيّد الرئاسة في الثالث والعشرين من الشهر نفسه، في ولاية ستُدخِل تونس في مخاض لن ينتهي قريباً، أو لا يزال في بداياته.

غريبة هذه العلاقة. كانت الشؤون اللبنانية حاضرةً في المتابعات اليومية لفئات كثيرة أيام بن علي، وهو ما سيتقلّص بشدّة منذ نشوء حياة سياسية مفتوحة في أعقاب كانون الثاني/يناير 2011. وما انفكّت السياسة التونسية تتلبنن بعد ذلك، سواء لناحية هيمنة ثقافة التفاهمات لتوزيع السلطة بين الحاكمين، أو دخول المال بصفة مهولة إلى الحياتين السياسية والإعلامية، وولادة فئة السياسي/السمسار على وجه الخصوص.

غدت كلتاهما تبحث منذ 2019 عن جمهورية جديدة، فيما لم يتوقف تشظّي السلطة، مع وتيرة أسرع بكثير في لبنان لاختلاف طبيعة الفاعلين السياسيين على وجه الخصوص. لكن ثمّة فارق جوهري هو أنّ تونس غنية بالتجارب الاحتجاجية خاصة بعد 2011، وبالنضال السياسي منذ قبل ذلك العام، فيما لم تعرف بيروت في السنوات الثلاثين بعد الحرب الأهلية هذا المعنى للفعلين الاحتجاجي والنضالي الذي خَبِره التونسيون.

لعلّ أكثر ما يثير الدهشة في تونس الآن ضمور هذين الفعلين. قد يكون مجرّد انطباع، أو تخمين، اعتقاد أنّ نخبة جديدة هيمنت في العاصمة، ولها تصوّرات أخرى للاحتجاج والنضال. ليس غريباً أن يكون هذا الجو غير المتجانس والمفترض قد ارتضى في الفعل الاحتجاجي سقوفَ نشاطات المجتمع المدني الذي صار مع السنوات «قوّةً تشغيلية» كحاله في بيروت، وهي نشاطات تكون غالباً محدّدة الهدف ومناسباتية.

نعم، «تغيّرت المقاسات»، ينبِّه صديق مستعيداً «خيّاطَ» جورج برنارد شو المفضّل: «الرجل الوحيد الذي كان يتصرّف بعقلانية هو خيّاطي: يأخذ مقاساتي من جديد في كلّ مرّة يراني، بينما يواصل الباقون بمقاساتهم القديمة ويتوقعون أن تلائمني».

«خطأ» هنا وآخر هناك «أوصلنا إلى ما نحن عليه»، يتردد على الألسن في المدينتين. لكن الأكيد أنّ خطأ بسيطاً في حساب السفر حرمنا متعةَ تلك الدراما الكروية التي ستنتهي بتتويج الرقم عشرة الأجمل في العقود الأخيرة. والمبدِعون ذوو الأرقام عشرة كميسي ومارادونا وبيلي هم في كرة القدم كغسقَي تونس وبيروت، يثيرون الحنينَ.

محمود مروّة

محرِّر موقع المراسل. عمل في الصحافة المكتوبة في جريدتي السفير والأخبار اللبنانيتين وفي وكالة الصحافة الفرنسية.

×