25 نيسان 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

أمبرتو آكابال

هيلان الماجري

26 كانون الثاني 2023

العدد الثاني
الشاعر الغواتيمالي أمبرتو آكابال (تصميم المراسل)

في المساء الربيعي للسابع والعشرين من آذار/مارس 1973، فوجئ المشاهدون المذهولون بأوّل نقل تلفزيوني مباشر لسهرة جوائز الأوسكار العالمية بغياب مارلون براندو عن حفل إعلان جائزة أفضل ممثل، سينالها عن فيلمه الشهير The Godfather، وإرساله بدلاً عنه الناشطة الحقوقية ذات الأصول الهندية ساشين ليتلفيرز التي نقلت بصوت دافئ وخافت موقفه الاحتجاجي على طريقة معاملة صنّاع السينما الشعوبَ الأميركية الأصلية.

دافع براندو بصدق وأمانة عن هذه القضية طوال مسيرته الفنية. «هذا ما علمتنا إيّاه هوليوود: الهنود يظهرون قذرين متوحشين»، يقول بصوته الأجش في الفيلم الوثائقي عن سيرته الذاتية الصادر عام 2015 بعنوان Listen to me Marlon [استمع إليّ مارلون]. ويضيف: «إنّ كلّ ما تعلمناه عنهم خطأ».

في موقف مشابه عام 2004، سيرفض الشاعر الغواتيمالي أمبرتو آكابال، القادم من أعماق ذاكرة شعب الكيتشي مايا، ومن مدينة مومستينانغو تحديداً، «جائزة ميغيل أنخل أستورياس للآداب» الرسمية في بلاده. كان مردّ الرفض أنّه لا يقبل جائزة باسم أديب كان عنصرياً تجاه شعبه، خاصة في أطروحته «المشكلة الاجتماعية للهندي» التي نشرها سنة 1923. قال: «لا يشرّفني أن أتسلم جائزة باسم شخص أهان الشعب الذي أنتمي إليه».[1]

 

«حين وُلدت

قطّروا دمعاً في عيني

كي يكون بصري

بحجم آلام شعبي».

 

ولادة على هامش الحياة

في 1952، وفي بلد قاب قوسين أو أدنى من انقلاب أرسى لحكم دكتاتوري بقبضة اليميني العسكري كارلوس كاستيلو أرماس وللحرب الأهلية التي ستندلع بعد ثماني سنوات، وُلد أمبرتو آكابال لعائلة تعاني كسائر أفراد شعب الكيتشي مايا خلف هضاب غواتيمالا وأعالي جبالها الشاهقة، أو في المدن التي هاجروا إليها سعياً للرزق والحلم بواقع أفضل.

عمل آكابال في صغره حمّال حطب وراعياً وحائكاً. ورغم فقر والده، لقي دعماً منه للدراسة، وحثّه على تعلّم كتابة اسمه حتى لا يسخر منه حين يكبر أولئك الذين يحطّون من شأنه لأنّه «هندي» أقرب في أسلوب عيشه إلى الطبيعة والبدائية.

 

«جاثية على حصيرةٍ،

منحنية على الحجرِ،

أُمي تغسلُ

تغسلُ

تغسلُ،

أُختي الصُّغرى ملتفةً بأوراقِ الصفصافِ،

ترقُد في سلّة القصبِ،

وأنا جالسٌ على كومة قشٍّ

أتأمّلُ كيف يمْضِي الماءُ

ويظلُّ النهر!».

 

انقطع عن الدراسة مع بلوغه الثانية عشرة، وفي العاشر من تشرين الأول/أكتوبر 1964، حزم قميصين وبنطالين، وودّع والدته مغادراً إلى العاصمة غواتيمالا حيث عمل مع رجل كان والده قد طلب منه أن يشغِّله لديه في بيع السكاكر والعلكة. لكنّ إقامته لم تدم طويلاً، إذ عاد إلى مسقط رأسه في العام التالي ليبدأ العمل في بيع المنسوجات المصنوعة من صوف الماعز مع والده الذي سيرحل بعد سبع سنوات تاركاً له مسؤولية إعالة أسرة بكاملها.

في بداية عشريناته العسيرة تلك، صارت تجبِره حملات التجنيد الإجباري التي فرضها استعار الحرب الأهلية على مشقة السفر مراراً إلى العاصمة لنيل إعفاء بسبب إصابة في إحدى ساقيه. «كثيراً ما توجّب عليّ الذهاب إلى مركز القيادة، فقد كنتُ أضطر إلى إنزال سروالي وإثبات إصابتي كلّ مرّة. لقد عشتُ الإذلال في أعماقي. وكان عليّ أن أتجرّع مرارة الإحساس بالعجز أمام جبروت القادة العسكريين»، يقول.

كلّ مرّة كان يغادر فيها بيته نحو ذلك المركز، كانت نظرة الحزن على وجه أمه تشيّعه في الصباحات الباكرة، وتلوّح له مودعةً من خلف الجسر وداعها الأخير. «في كلّ مرّة كنتُ أغادر، كانت النظرةُ على وجه أمي ليلة الرحيل تبدو كصلاة كما لو كان وداعاً أخيراً... عندما كنتُ أعبرُ الجسر المكوّن من جذعي شجرة، كانت أمي تقف على حافةٍ حبيسةَ الأنفاس، وما إن أعبرُه حتى تودِّعني بكلمات أخيرة فأمضي لركوب الحافلة».

كانت احتمالات الموت كثيرة في مثل هذه الرحلة إلى العاصمة في أوج الحرب الأهلية، وهي قد تستحيل رحلة بلا عودة في أيّ لحظة. الجميع في الحافلة غرباء وإن بدا ما داخلهم عكس ذلك، فلم يكن الواحد منهم يُظهر معرفةً بالجالس إلى جانبه لأنّ النكران والتزام الصمت في تلك المرحلة من الحرب الأهلية كان يعني الفوز بدقائق إضافية من الحياة.

مليء الطريق بين ضفتي الجحيم بمشاهد لن تغادر ذاكرة آكابال سنوات طويلة. يروي في واحدة من يوميّاته أنّه رأى ذات مرّة نحو عشرين جثة قُطِّعت أوصالها، ومرّة أخرى جاء كلب من الوادي حاملاً بين فكّيه ذراعاً بشرية. ذاكرته الفتية لم تمرّ مرور الكرام على هذه الشروخ التي مزّقت حاضره، بل جعلتها مادة شعرية ومصدراً للإلهام، وانعكس في أشعاره شعور الخوف والحزن اللذين لازماه طوال تلك المرحلة.

 

«النَّارُ جَاثِيّة

تطفئ حُزنَ الحَطَبِ

تُنشِدهُ غِناءَها الحَماسِيّ،

الحطبُ متّقداً

يَستمعُ بِشغفٍ

حَتّى ينسى أنّهُ كان شَجراً...»

 

الكتب مصادفات في حياته

يقول الكاتب الأميركي هنري ميلر في كتابه لـBooks in my Life  [الكتب في حياتي]، الذي تحدّث فيه، في شبه سيرة ذاتية، عن أهم الأعمال التي ساهمت في تشكيل ذاته الأدبية، «إنّ الكتب التي يقرؤها المرء تحدِّدها شخصية المرء نفسه»، غير أنّ الأمر لم يكن كذلك لآكابال، فقد لاقته الكتب كمصادفات القدر في طريقه نحو الحياة.

تسترجع ذاكرته التفاصيل البصرية لأوّل كتاب غير مدرسي صادفه في حياته بعمر الثماني. كان غلافه بلون التراب عليه رسم بالأسود لطفلين. دون تردّد أو تفسير واضح لحالة الانجذاب الغريب نحو هذا الشيء العائد إلى أحد معلّميه في المدرسة الابتدائية، شرع في تصفّحه واكتشاف كثير من الصور داخله، ثم سرقه وأخفاه في محفظته المدرسية.

«كذلك كانت رحلتي الطويلة الأولى مع حياة الموسيقار الألماني يوهان سباستيان باخ التي يرويها الكتاب. لقد عانيتُ من أجل إخفائه، فلو وقع في يد أبي، لنلتُ نصيبي من العقاب. أما المعلّم، فلم يعرف أنّني الشخص الذي سرق».

لتلك المصافحة الأولى مع عالم الكتب بالغ الأثر في نحت فعل القراءة لديه، وكذلك مسيرته الشعرية والأدبية. ففي مرحلة لاحقة من حياته، وكان عمره نحو ثلاثة عشر، اكتشف أثناء بيعه السكاكر جوّالاً في شوارع العاصمة مكتبة اسمها «السلسلة الذهبية»، لكنّه لم يملك طوال ثلاثة أشهر شجاعة دخولها وسؤال صاحبها عن ثمن كتاب شدّه بصورة وجه مرعب على الغلاف وولّد لديه الرغبة في معرفة عمّ يتحدث: هل كان متعلِّقاً بمجنون، أو بالموتى والساحرات؟

رغم أنّ مهمّة توفير سعره البالغ «كويتزان وخمسون سنتاً» لم تكن سهلة على طفل يبيع حلمه (إنْ كانت أحلام الأطفال قطعة حلوى، على قول نجيب محفوظ)، فإنّه نجح في شرائه. سيصير كتاب أوسكار وايلد The Picture of Dorian Gray [صورة دوريان غراي] رفيقه لأيام طويلة يتعرّف خلالها إلى معالم حياة الكاتب الإبداعية، ومنها سينطلق في رحلة النبش في الإرث الأدبي لكبار الكتّاب العالميين كدوستويفسكي وستيفان زفايغ وجورج أورويل.

«لقد غذّت قراءة تلك الكتب، التي عدتُ إليها في مناسبات أخرى، اللاشعور عندي، وربما كانت السببَ في ذلك الحلم الذي رأيتُني فيه أؤلف كتاباً. عندما استيقظتُ قرّرتُ أن أنفِّذ ما جاء في الحلم، فكتبتُ أبياتاً من الشعر على قصاصات من الورق جمعتُها إلى بعضها وخِطتها بنفسي. حملتُ ما أسمّيه كتابي من مكان إلى آخر إلى أن ضاع، فانتهت اللعبة».

 

الكتابة وسؤال الهوية

حين كانت الحرب تثير الرعب والحقد في البلاد، كانت الكتب صديقته في ليالي الرصاص والدم، وكانت قراءتها تمثّل ضرباً من الهرب من واقع بائس، وصلاة خشوع في وجه جاف متشقّق بملح الدمع على بلد كلّ ما فيه يدعو إلى البكاء والعويل.

في تلك الأيام بالتحديد، كان الواجب، ولا يدري هل هو الوطني أم العاطفي المقيّد بحنين إلى طفولة لم يعشها، يدفعه إلى البدء في كتابة الشعر بصورة جدية ومسؤولة، وقد تُرجِمت هذه الجدية بنشره سنة 1990 أولى مجموعاته الشعرية بعنوان القطيع، ثم مجموعته الثانية حارس الشلال سنة 1993، وكبة حرير سنة 2001، وأوراق... أوراق فقط سنة 2002.

كتب في القصة القصيرة أيضاً، فنشر أولى مجموعاته الصراخ في العتمة سنة 2001، وتبعتها على هذا الجانب من الجسر في 2006، فيما نشر العديد من المقالات ولعلّ من أبرزها «صليب المايا»[2]، و«تقاليد المايا»[3].

غير أنّ المتأمل في المختارات من شعر آكابال المترجمة إلى اللغة العربية يلاحظ أنّ نصّه الشعري يتمحور أساساً حول الهوية والطبيعة الاجتماعية لحياة المايا. نص تتكثّف فيه ذاكرة أسلافه، خاصة عبر استحضاره روح جدّه توماس آكابال الذي علّمه العزف على آلة «الماريمبا»، وقراءة لغة الطير، ووشوشات النهر، وقياس قوّة الريح، وقراءة البرق لمعرفة مواعيد المطر.

 

«لكلّ شيءٍ طعمُ الأحزَان

وحتّى الطائِر يَختنِقُ بغنائهِ،

وأنتِ وَحيدةٌ فِي المَدينةِ

لا نَرى لكِ ظِلاًّ

وَما مِن أحدٍ يَعرفُ اسمكِ

رأيتِ فرَاشة تطيرُ

_ذلِكَ فألٌ سيءٌ_

تذكَّرتِ قريَتكِ

فأجهشتِ بالبكاءِ».

 

هو سرد توثيقي شعري لثقافة الكيتشي مايا بتقاليدها الشفاهية التي استقاها من حكايات والدته في الصغر، وبمكتسباتها الإثنوغرافية من المرجعيات المكانية والزمانية والمعتقدات والأساطير والأغاني والموسيقا والنظام العددي للتقويم المايوي: «من الطين ينبع شعري، من الحياة الريفية، من خطاب الهنود المقموع، من أنّات النساء عند الولادة أو حين يقمن بطحن الذرة».

لكن آكابال وجد نفسه في مسيرته وجهاً لوجه مع واحد من أكبر مآزق الكتابة، أي حين يضطر كاتب تعرّضت لغته الأم إلى الإقصاء من عالم الأدب والنشر بدافع عنصري إلى التخلي عنها واللجوء إلى وساطة لغة المهيمِن كي يعبّر عن ذاته بكلّ ما يحمل من شعور عميق بالاغتراب.

كان يحاول في إطار رد الفعل على العنف الرمزي الذي تعانيه لغته الأصلية تطويعَ لغة المستعمِر كي يجعلها قادرة على استيعاب مفردات لغة شعبه ومعانيها، وليجعلها مرآة لإظهار تقاسيم تجربته الشعرية والثقافية والاجتماعية. تعمّد من أجل ذلك تضمين تمثّلات القيم الثقافية الأصلية لشعب الكيتشي مايا عبر أساليب تجلب الانتباه إلى لغته الأم، كذكره في قصائد أسماء الطيور بلغته، أو تضمين النص الإسباني مفردات من لغة الكيتشي مايا دون أن تكون مترجمة دائماً، أو بتكثيف حضور المعتقدات والأساطير والتصوّرات الكونية الهندية.

«أطلب الكلام وأريده بلغتي الأم»، كذلك كان إمبرتو آكابال يمارس شعائر الكتابة، فيفكّر بلغته الأم، الكيتشي مايا، ثم يترجمها بنفسه إلى الإسبانية في محاولة لتحقيق التواصل مع العالم الخارجي الذي لا يفهم لغة أجداده، ورفضاً لأيّ تأويل قد يهاجم تجربته الشعرية ويحصرها في إطار التعالي على الانفتاح نحو ثقافات أخرى تحقق التواصل اللغوي والثقافي، حتى إن كان هذا التواصل لا يتحقق إلا عبر المرور من بوابة لغة المستعمِر.

 

«عِندنَا،

نَحنُ الهُنودُ الحمر،

تَنتهِي السّماءُ

حيثُ يبْدأُ الميكابال[4]».

 

أما خياره في الكتابة عن أبناء شعبه فنابع من سلكه طريق البساطة الشعرية التي لا تتطلب قراءة تأويلية معمّقة وتجنيداً للقدرات والمكتسبات النقدية الأكاديمية حتى تُفهم، إذ كانت كتابته صافية تجسّد إيمانه بأن «يكون بسيطاً كشجرة، بل كلوح من الخشب»، وهي بساطة جمع فيها الإيمان بعدالة قضيته، وبأن يكون صوتاً شعرياً عالمياً يدافع عن قضايا شعبه الاجتماعية والثقافية، بشاعرية لا تتكلم إلا اعتزازاً بالانتماء إلى تراث يمتدّ أكثر من ألفي سنة.

«أكتب بضمير المتكلم لأنّني لستُ في موقع من يتحدث باسم الآخرين. لكنني أشعرُ بتأثّر عميق حين يأتي أناسٌ من شعبي إليّ قائلين إنّهم يشعرون بأنّ كتاباتي المتواضعة تمثّلهم. أنا على يقين أنّ شعري لا يمثّل ثورة في الأدب الغواتيمالي أو العالمي، لكنّني أعي أيضاً أنني لستُ نبتاً شيطانياً يظهر ليلاً ويختفي مع الصباح. أكتبُ وأتحدثُ دون ضغينة أو مرارة. وكلّ ما أفعله، أفعله من قلبي».

 


[1] من مقدمة كتاب أمبرتو أكابال، طردت اسمك من بالي، ترجمة وتقديم وليد السويركي. دار أزمنة، 2009. ومنه كافة الاقتباسات.

[2] Ak’abal, Humberto. La Cruz Maya. Cosmogonía. Artesano Mogotoán, 2015.

[3] Ak’abal, Humberto. Las ceremonias mayas. Origen. Artesano Mogotoán, 2014.

[4] حزام جلدي يستخدمه الحمّالون في غواتيمالا لحزم أثقالهم.

هيلان الماجري

كاتبة تونسية.

×