10 كانون الأول 2024
26 كانون الثاني 2023
العدد الثاني
المكان: هناك، بكلّ مواصفات الـ هنا الغارق في العتمة.
بجرأة وثبات وإصرار تحدّق محاولةً استقاء شحنةٍ تسري ماءً في فيضِ جسدها من عينين أربكتهما الأنفاس اللاهثة وحرارة الصدر الشاهق وقد بات على مسافة ومضةٍ من وجه شريكها الراقص يطوق بذراعه خصراً استكان لبرهةٍ قبل أن يبدأ استدارته مبتعداً على إيقاعٍ يوازن كعب حذائها المرتفع. شهيق طويل تعبّه فيتضاءل الأوكسجين في الفضاء المحيط وتُحبس أنفاس الحاضرين. بقعة الضوء تنسكبُ حلماً مضيئاً وسط عتمة حالكة محاولةً تتبع الخطوات الدائرية لجسد يوشك على السقوط بثباتِ الواثق من يدٍ ستمتدّ من الغيب لالتقاطه. بخفّة يعود الجسد بدورانه العكسي مرجعاً معه الزمن إلى الوراء متشبثاً بالذراع الممدودة للراقص ينتظره عند الضفة الأخرى بعينين هائمتين كأنما أدركتا أنّ ملوحة الدمع فيهما ستتلاشى حين تطغى عليها ملوحة البحر المتوسط فيما الجسد يغرق ساقطاً من زورق مطاطي فشلت مرونته بمواجهة الأمواج العاتية. وحدها الراقصة تدور حول نفسها عائدةً بذراعين مطلقتين في الهواء بحثاً عن حبل نجاة فيما العيون المرهقة عاجزةً تخترق العتمة لتقع على جسدٍ تومض مساحاته العارية أملاً تحت الثوب الأسود القصير.
كفّ بأصابع طويلة تتلقّف الذراع المرسلة على امتدادها، قبل أن تهوي، جاذبةً إياها نحو راقص انبثق من العتمة مندفعاً بجسدٍ ممشوق صلب نحو طراوةٍ تعد بخفّة الحياة بعيداً عن وطأة الموت المحيط. توّاقاً يستدير جسد الراقصة ملتفاً على الذراع الممدودة وقد تشابكت أصابع الكفين قبل أن يهدأ الجسدان ملتحمين وقد أطلقت الراقصة ساقها في الفضاء مرتكزةً إلى الأخرى وقد تحوّلت مع ساقي الراقص إلى قاعدةٍ صلبة تحمل فوقها كتلةً ملتهبةً من حياةٍ تشي بأبدية لها رائحة تماثيل عصر النهضة. بغتةً، كمن يبحث عن حريّةٍ فيها الخلاص، ينزلق جسد الراقصة واقعاً للوراء وقد انحسر الثوب عن الفخذين، غير أن ذراع الراقص القوية تعيده حالاً جاذبة إياه نحو اتحادٍ جديد مع جسدٍ سيتلاشى بعد برهةٍ وقد حولته القذائف إلى أشلاء لتعاود الراقصة دورانها وحيدةً، أشبه بدرويش يدور حول نفسه بحثاً عن الإله في ذاته. الإيقاع يتصاعد، كعبا الحذاء يوقّعان على الخشبة ضربات قلبٍ واجف، الأنفاس المحيطة تصير حشرجةً، من بعيد يعلن صوتٌ عن مقتل فتاةٍ مطعونةً بسكينِ حبيبها أمام بوابة جامعتها في مدينة المنصورة المصرية. يترنح جسد الراقصة وقد تلألأت قطرات العرق فوق جلدها الشفيف فتتلقفه ذراعان قويتان ترفعانه ملوحتان به مفرود الذراعين ممتدّ الجذع والساقين كفراشةٍ تسعى نحو ضوءٍ لا تدرك أنه حتفها، قبل أن يهوي منزلقاً على جسد الراقص يلتف عليه التفاف الأفعى على جذع شجرةٍ راسخة في المكان ستغدو هباءً حين يفنى الجسد إثر رصاصة من بندقية حربية تصيب قلبه ويختلف الرواة إن كانت صناعةً روسية أو أميركية. على الخشبة يتلوّى جسد الراقصة وحيداً تطوقه حشرجات الأنفاس المنهكة ينسلّ عبرها صوت أنينٍ يعلن مقتل شابةٍ في أربيل، في كردستان العراق، على يد شقيقها وعمّها. تخفق الأضواء المنسكبة من الأعلى عن مواكبة التواءات الجسد لكنها تفضح آثار دماء تضرّج شفافيته بأحمر ورديّ.
تصمت الموسيقا. جسد الراقصة يتلوى. حشرجة الأنفاس تصير إيقاعاً. بقعة الضوء تائهة عن الجسد. الخشبة تئن على وقع خطوات تقترب من بعيد هادرةً. حشد من الراقصين يدنو. أجساد شابة يافعة قوية يهدر خطوها في سعيها نحو الراقصة. العتمة تلفّ الأجساد محولة إياها ظلالاً. ينهار جزء من الخشبة ويعلن صوتٌ يائس من البعيد مقتل شابة جرّاء انهيار سقف صفها المدرسي فوق رأسها في مدينة طرابلس اللبنانية. بقعة الضوء عاجزةً تستقر في العمق، في مساحةٍ خاويةٍ، تضيء فراغاً باهتاً. جسد الراقصة يواصل سعيه نحو الضوء فيما أجساد الراقصين باتت حلقةً تحيطها أشبه بحلقات طقوس العبادة عند القبائل الإفريقية. رويداً رويداً تتلاشى أجساد الراقصين بين مهاجرٍ وقتيل وغريق، تغرق الدماء مساحة الخشبة وتحجب العتمة مرآها عن العيون الفاغرة ذعراً ويأساً. تضرب الراقصة الخشبةَ بكفها مبتكرةً إيقاعها الخاص. يعلن صوت مكتوم، يبدو خارجاً من جوف بئر، مقتل شابةٍ سقطت في حفرةٍ للصرف الصحي في مدينة اللاذقية السورية. تصمت الأنفاس المتحشرجة. يتلاشى كلّ صوت. ويبقى جسد الراقصة وحده إيقاعاً يضرب بقايا الخشبة المهترئة مواصلاً سعيه نحو ضوء يوشك أن ينطفئ. تغرق البلاد في العتمة الأشد سواداً. يغمض الجميع عيونهم مرتدين إلى ظلمتهم هرباً من شعور العجز إزاء عتمةٍ فرضت عليهم.
لم يعد ثمّة شريك للراقصة.
وحده الجسد ينبض بإيقاعه الذي عجز الدمار عن إسكاته.
الدم النازف يزداد لزوجة.
الذراعان تمتدان للتشبث بالغيم.
الحكاية تروى عن راقصة نبت لها جناحان فحلّقت مبتعدة عن بلاد مهترئة تحتضر، وأكّد كثيرون أنّ ضوءً انهمر من صدرها وساقيها فغمر مدنهم نورٌ شفيفٌ بلون الغروب فرضته قطرات دم بقيت عالقةً بالجسد.
كاتب ومترجم من سوريا، صدر له في الرواية: قبعة بيتهوفن (2021)؛ حيوات ناقصة (2018)؛ رقصة الظل الأخيرة (2014)؛ وفي القصة: امرأة عند النافذة (2022)؛ قبل أن تبرد القهوة (2015)؛ الخاتم (2008).