7 تشرين الأول 2024

× الرئيسة اليومية سياسة أرشيفنا
×

حاسمةً مرّرها إلينا

جايمس تورِل

26 كانون الثاني 2023

العدد الثاني
تصميم المراسل

أكثر من نصف قرن مضى منذ بطولة كأس العالم لكرة القدم في المكسيك عام 1970، وهي لا تزال بعد تلك السنين كلّها تحتلّ لدى كثر مكانة لا مثيل لها في ذاكرتهم الثقافيّة. لكلّ منهم ذكرياته المضيئة عن مباريات تلك الأيام الذهبيّة؛ كانت الأهداف أشدّ وقعاً، والمراوغات أكثر إثارةً فيما ألوان القمصان تتلألأ تحت شمس المكسيك الحارِقة. نستذكر تلك البطولة كأنّها ذروة كرة القدم، وأسمى تعبير عن جمالها.

غدَت المباراة النهائية بين البرازيل وإيطاليا ضرباً من الأساطير. فهي لم تكن مجرّد مباراة، بل معركة تحدّد وجه كرة القدم، نزالاً بين «اللعبة الجميلة» البرازيليّة و«الكاتيناتشو[1]» الإيطالي، بين التفنُّن والبراغماتيّة، بين نظرتَيْن للحياة، إحداهما رومنسيّة فرديّة والأخرى ترى الناس تروساً في ماكينة الحداثة. أو ربّما فرِح الناس آنذاك لمشاهدة بطولة كأس العالم على التلفاز بالألوان للمرّة الأولى في تاريخ كرة القدم.

لحظات فارِقة عدّة أعطتنا إيّاها بطولة 1970: تصدّي الحارس الإنكليزي غوردون بانكس لرأسيّة بيلي الأسطوريّة (قال بيلي بعد المباراة: سجّلتُ هدفاً اليوم، لكن بانكس صدّه!)؛ والبطاقة الصفراء الأولى، التي رفعها الحكم في وجه لاعب المنتخب السوفياتي يفغيني لوفتشيف؛ والاستخدام الأخير لكأس جول ريميه أيضاً قبل اعتماد الشكل الحالي.

لكن يبقى الهدف الذي أحرزه البرازيلي كارلوس ألبيرتو اللحظة الأعظم على الإطلاق – آية في الجمال. كان ذلك الهدف الأوّل في بطولات كأس العالم الذي تسبقه تسع تمريرات، وقد صنّفه حديثاً برنامج مباراة اليوم: العشرة الأوائل (Match of the Day: Top 10) على شبكة «بي بي سي» على أنّه من أعظم أهداف البطولة على الإطلاق.

لا يخفى السبب على أحد: فقد استعاد منتخب البرازيل الكرة في ثلثه الدفاعي من الملعب بواسطة المهاجِم توستاو، قبل أن يناوِر كولدوالدو أربعة لاعبين إيطاليّين، وتصل الكرة إلى بيلي بعد سلسلة من التمريرات والمراوغات. عندها، وبشيء من اللامبالاة ورباطة الجأش والأناقة في آنِ معاً، مرّر بيلي الكرة إلى ألبيرتو المُندفِع من جهة اليمين، ليُسدِّد الأخير هدفه الشهير في الزاوية السفلى من المرمى، بركلة قويّة لم يتوقّف لها. لحظة رائعة من لحظات كرة القدم، التي توقف لبُرهةٍ قلب الشغوفين عن النبض، قبل أن يقفزوا من مقاعدهم ابتهاجاً حتى إن لم يستوعبوا بعد ما وقع.

لكن عند مشاهدة الهدف في يومنا هذا، لا يسع المرء إلا أن يشعر بأنّ فيه شيء من الغرابة... قد لا يُلاحظ المُشاهِد ما الغريب فيه بدايةً، لأنّ التكتيك يبدو مألوفاً وغير مألوف في الوقت نفسه. عند التمعُّن في الهدف، سرعان ما ننتبه إلى أنّ اللاعبين البرازيليّين يستحوذون على الكرة لوقت طويل، وسط غياب تام للضغط من الجانب الإيطالي.

بعد تمرير جارزينيو الكرة إلى الأمام لبيلي، وقبل أن يقوم الأخير بتمريرته الممتازة لكارلوس ألبيرتو، يستحوذ على الكرة لوقت طويل نسبياً. فبعدما تصله، يثبّتها بلمستَيْن، ويوقِف تقدّمه، لا بل يتوقّف عن الحركة تماماً، ويحرّك الكرة مرّة ثالثة قبل تمريرها إلى الأمام، وطوال ذلك الوقت يبقى أقرب لاعب إيطالي منه على بعد نصف متر على الأقلّ. لذا، عند مشاهدة هذا الهدف من منظورنا الحالي في عام 2023، قد تبدو تلك الثواني الخمسين من اللحظات الأعظم في تاريخ كرة القدم.

 

 

كرة تقدّمية

بعد 52 عاماً، ولأنّ نمط لعب يمكن تسميته بـ«كرة القدم التقدّمية» ساد لدى الكثير من المنتخبات، حملت بطولة كأس العالم في قطر سلسلة من المفاجآت، على غرار فوز السعودية على الأرجنتين وميسي، وفوز اليابان على المنتخب الألماني المنهَك، وقهر المغرب لبلجيكا وإسبانيا والبرتغال، محقِّقاً أحد أعظم الإنجازات في تاريخ البطولة.

لعلّ «كرة القدم التقدّمية» تسمية إيديولوجيّة، فكيف نُحدّد ما هو تقدّمي في السياق الكروي؟

من الواضح أنّ المدرّبين صاروا أكثر ميلاً إلى تطبيق مفاهيم بيب غوارديولا بدلاً من نمط «الكاتيناتشو» ما بعد الحداثي لجوزي مورينيو، أو دييغو سيميوني. فالإسباني يبقى بلا شك الشخصيّة الأكثر تأثيراً في عالم كرة القدم في القرن الحادي والعشرين. إن لم يقرّر أن يغدو مدرّباً في عام 2007، لكانت كرة القدم اليوم مختلفة تماماً. قد يجادل البعض بأنّ اللعبة كانت ستتّجه في الحالتَيْن نحو أسلوب الاستحواذ الشديد والضغط وإنهاك الخصم، لكنّ تلميذ الأسطورة الكروية، الهولندي يوهان كرويف، يبقى هو المُدافِع الأوّل والأكثر شراسةً ونجاحاً عن هذا النهج الذي سيتقنه ويطوّره لاحقاً.

حين ننظر إلى تاريخ كرة القدم، يمكن تقسيمه إلى ثلاث مراحل أساسيّة: قبل ابتكار أساليب الضغط، وبعد ابتكارها، وبعد غوارديولا. فمشاهدة أيّ نادٍ أو منتخبٍ عالمي قبل أواخر الستينيات أشبه بمشاهدة الأفلام قبل إضافة الصوت إليها عام 1927. كانت كُرة القدم في تلك الحقبة تنتمي إلى سياق مختلف، لا بل إلى واقع مغاير تماماً. كانت اللعبة رتيبة، والمساحات الفارغة بين اللاعبين كثيرة، والثغرات في طول الملعب وعرضه هائلة، كما أنّ كلّ لاعب كان يتحرّك كأنّه في عالم خاص. غير أنّ ابتكار السوفياتي فيكتور ماسلوف لأسلوب الضغط في الستينيات سيغيّر كرة القدم إلى الأبد، إذ باتت اللعبة ترتكز على الأنظمة، والهيكليات، وإنتاج أنماط هندسية تعتبر المساحات حول اللاعب بالأهميّة نفسها كما الكرة بين قدميه.

على نحو مشابه، تغيّرت كرة القدم بعد غوارديولا في نواحٍ عدّة، لكن مع الأخذ بالاعتبار أنّ النجاح الذي حقّقه يعود في بعض وجوهه إلى عوامل خارجة عنه، ولو أنّه دخل إلى الساحة قبل عشرين سنة، لعجِز ربّما عن الفوز بأيّ كأس. فرغم أنّ الفِرق مارست الضغط قبل زمنه بنحو نصف قرن، لكن لم يسمح مستوى اللياقة للاعبين آنذاك بتنفيذه سوى لفترات قصيرة، وبالتأكيد ليس طوال 90 دقيقة. ومع تطوّر علوم الرياضة والتدريب، باتت أندية معاصرة مثل ليفربول مع مدرّبه يورغن كلوب، – وهو كان إلى وقت قريب أفضل نادٍ على الإطلاق من حيث الضغط – قادرة عملياً على أن تضغط على الخصم بشدّة من الدقيقة الأولى حتى الدقيقة التسعين.

فضلاً عن ذلك، لا ينفكّ مستوى إتقان اللاعبين للتقنيّات يتقدّم منذ منتصف العقد الأوّل من الألفيّة، وبات اللاعبون أكثر قدرة على اللعب بوتيرة متسارعة والتمرير بخفّة وعجلة. لكن لا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أنّه عند مشاهدة مباريات من القرن العشرين جرت في أشهر مختلفة من السنة، مثل تشرين الأول/أكتوبر وشباط/فبراير، يُلاحَظ اختلاف جليّ في جودة أرضيّة الملعب. فكانت ملاعب كرة القدم آنذاك جزءاً من الطبيعة، تتغيّر مثلها مثل أيّ رقعة من العشب مع تبدُّل الفصول: فهي خضراء وملساء في بداية تشرين الأول/أكتوبر، وأشبه بأرض معركة موحلة في الشتاء. أمّا في يومنا، فباتت الملاعب، خصوصاً تلك التابعة إلى الأندية الرفيعة المستوى، تتمتّع بظروف مثالية طوال العام، ما يسمح بلعب كرة القدم بأسلوب قائم على التمريرات الدقيقة لم يكن ممكناً من قبل.

تلك التغيّرات كلّها هي ما سمح لغوارديولا بجعل نادي برشلونة، في بداية مسيرته، من الأنجح على الإطلاق في تاريخ الكرة. تمكّن الرجل هناك، في «كاتدرائية كرويف»، من إعادة تصوّر كرة القدم لتتلاءم مع تغيّرات سرعان ما سيؤجِّجها بنفسه فاتحاً الباب أمام هذه الكرة التقدّمية، التي تقوم في أساسها على الاستحواذ والمبادرة بدلاً من ردّ الفعل، وتتعامل بحرية أكبر مع مساحات المستطيل الأخضر.

السوفياتي فيكتور ماسلوف، مبتكر أسلوب الضغط في الستينيات

 

مثالان من قطر

لم يسبق لمنتخب الولايات المتحدة لكرة القدم أن نافس على مستوى النخبة في بطولة كأس العالم. ففي الجولات العشر التي تأهّل إليها، لم يفُز سوى بمباراة واحدة في مرحلة خروج المغلوب، عندما فاز على المكسيك بنتيجة 2-0 في عام 2002. حتى أنّه فشل في التأهّل إلى البطولة طوال 36 سنة متتالية (1954 - 1990).

ورغم أدائه السيء أمام هولندا في دور الـ16، حقّق منتخب الولايات المتحدة أداءً تكتيكياً اعتُبِر من الأفضل في هذه البطولة. ففي مواجهة خصمه الأبرز، أي إنكلترا، ورغم التعادل بنتيجة 0-0، أحرز المنتخب أداءً ممتازاً، وأفشل محاولات إنكلترا للفوز بالمباراة. فقد تمكّن من ردع خصم قوي لا من خلال الاصطفاف بوضعيّة دفاعيّة 0-5-5 متراجعة نحو منطقة الجزاء وتمرير كرات طويلة نحو الثلث الهجومي من الملعب، بل من خلال منظومة ضغط فعّالة بدا من الواضح أنّه تدرّب عليها جيداً.

اعتمد الفريق الأميركي تشكيلة 4-4-2 مرِنة، ومارس الضغط بمجموعات من ثلاثة لاعبين في الثلث الهجومي من الملعب، تألّفت من المهاجمَيْن وأحد لاعبي الوسط، في أغلب الأحيان تايلر أدامز، الذي تدرّب وفق مبادئ المدرسة الألمانية الحديثة في نادي آر بي لايبزيغ. سمح ذلك للفريق بإفشال تكتيكات لاعبي الدفاع الإنكليزي، الذين اكتفوا غالباً بتمريرات جانبيّة لا طائل منها عاجزين عن اجتياز الصفوف ونقل الكرة إلى الوسط فالهجوم. ببساطة، بدا اللاعبون الأميركيون مخضرمين، ولعبوا بهذا الأسلوب التقدّمي.

غير أنّ المفاجأة الأبرز في هذه البطولة سجّلها طبعاً المنتخب المغربي، الذي حبس أنفاس المشجّعين طويلاً، بقيادة مدربه الجدير وليد الركراكي الذي عرّف عن نفسه قبيل البطولة حين قال: «أنا معجبٌ بغوارديولا، وسيميوني، وأنشلوتي، لكن لي أيضاً أسلوبي الخاص الذي يتيح لي مواءمة الفريق طبقاً لخصائص اللاعبين المتوافرين».

شبّه كثيرون أداء المغرب بالمنتخب اليوناني عند فوزه ببطولة أمم أوروبا لعام 2004 على عكس الترجيحات، محقّقاً أحد أبرز الإنجازات في تاريخ الرياضة. إلا أنّ هذا التشبيه لا يعطي المغرب حقّه. ففي عام 2004، اعتمد المنتخب اليوناني أسلوباً دفاعياً، بتشكيلة 4-4-2 صلبة، تحوّلت إلى 5-3-2 ضيّقة للغاية مع انتقال ثيودوروس زاغوراكيس إلى قلب الدفاع لصدّ هجمات الخصم. بعبارة أخرى، أفشل اليونانيون الهجمات عبر اعتماد أسلوب الدفاع المتراجِع الشديد، ما أجبر الخصم على الاستحواذ على الكرة لوقت طويل لكن دون توفّر مساحات واسعة له للتحرّك. واعتمدوا بالتوازي مع ذلك على الهجمات المرتدّة، مُستخدِمين الركلات البعيدة كطريقة بدائية إنما فعّالة للانتقال إلى الهجوم.

جدير بالإشارة هنا أنّ عام 2004 ينتمي إلى حقبة جوزي مورينيو ورافا بينيتيز، وهي المرحلة الأخيرة في كرة القدم التي سيلقى خلالها الدفاع البراغماتي نجاحاً قبل الثورة التي سيحدثها غوارديولا منذ عام 2008. فبين العامَيْن 2003 و2008، فاز مورينيو وبينيتيز بأربعة ألقاب في الدوري، وخمس كؤوس وطنيّة، وكأسين في الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، وبدوري أبطال أوروبا مرّتَيْن. وقد اتّبعت فرقهما أسلوب لعب منظّم للغاية، يرتكز على إنشاء حاجز دفاعي لا يمكن اجتيازه، ما أفسح المجال أمام هجمات مرتدّة شديدة للخصم وقاتلة. غير أنّ الجانب الأهم هو أنّ هذه الفرق انتقلت من الدفاع إلى الهجوم لا عبر الاستحواذ على الكرة في الثلث الهجومي، بل عبر جذب الخصم إلى الثلث الدفاعي ثم الاندفاع إلى الأمام، أي أنّ أسلوبها ارتكز على ردّ الفعل، لا على المبادرة.

وفي حين أنّ المغرب خسر في نهاية المطاف أمام فرنسا في نصف النهائي، تُعدّ جولته في بطولة كأس العالم لهذا العام إنجازاً باهراً. لا شكّ أنّه اعتمد أسلوب الهجمات المرتدّة لا بالاستناد إلى الدفاع المُتراجِع، بل باتّباع نهج «الضغط المتوسّط» الحديث نسبياً. يقوم هذا النهج بشكل أساسي على تكتيكات تضييق المساحات عند الجانب الدفاعي، ولكن في مواقع متقدّمة أكثر مما هو مُعتاد تقليدياً. وقد سمح هذا التعديل البسيط للمغرب بممارسة الضغط على لاعبي الوسط لدى الخصم والهجوم عندما تسنح الفرصة، الأمر الذي مكّنه من الانتقال إلى الهجوم بطريقتَيْن: أولاً من خلال الهجمات المرتدّة عند استحواذه على الكرة في الثلث الدفاعي ثم الاندفاع إلى الأمام بسرعة، وثانياً من خلال ترك المجال مفتوحاً أمام ممارسة الضغط والاستحواذ على الكرة في مناطق غير بعيدة عن منطقة جزاء الخصم.

يُثبِت أداء المنتخبَيْن الأميركي والمغربي التأثير الواسع النطاق لغوارديولا على تكتيكات كرة القدم. فعندما هيمنت منظومة «الكاتيناتشو» على كرة القدم الإيطالية في الستينيات، اعتُبِرَت بادئ الأمر «حقّ الضعيف» في اعتماد تكتيكات دفاعيّة في مواجهة خصم قوي. لكن بعد اعتماد ناديي مدينة ميلان لهذا الأسلوب في الستينيات، وفوزهما بكؤوس عدّة، صار يُنظَر إليها على أنّها تكتيك مشروع لأندية النخبة أيضاً. استمرّ هذا النهج في كرة القدم العالميّة لعقود بشكل أو بآخر، من خلال إقامة منتخبات البلدان الصغيرة سدّاً منيعاً أمام هجمات المنتخبات التي تحظى بالتمويل والقوّة واللاعبين المتمرّسين. هذا حقّ مشروع لها، لكن ما أثبتته بطولة هذا العام هو أنّ منتخبات كالولايات المتّحدة والمغرب واليابان قادرة على اعتماد تكتيكات النخبة التقدّمية والفوز.

 

حين تلعب ضدّ التاريخ

تظهر لنا التجارب التاريخيّة أنّ كرة القدم لعبة معقّدة للغاية وقلّما تنصاع إلى السرديّات المنهجيّة التي تُستعرَض في المقالات التكتيكية الطويلة. لكن ستبقى أصداء نهائي بطولة كأس العالم لعام 2022 مدوّية لسنين وسنين؛ فالمباراة احتوت على عناصر دراميّة بامتياز – الرومنسيّة والمأساة، والقدر والإنجاز، وختم حقبة بكاملها. إنّه ببساطة النهائي الأعظم في بطولة كأس العالم للقرن الحادي والعشرين، ولعلّه الأعظم على الإطلاق، إذا استثنينا فوز الأرجنتين عام 1986، أو ربما ألمانيا الغربية عام 1954.

ما كان لافتاً تكتيكياً في المباراة هو اتباع كلّ من المنتخبَيْن أسلوب الضغط الشديد في مراحل مختلفة. فقد حقّقت الأرجنتين أداءً مبهراً منذ الدقيقة الأولى، وضغطت على فرنسا في طول الملعب وعرضه، واستحوذت على الكرة بشكل بالغ الفعالية بفضل براعة أنخيل دي ماريا غير المسبوقة وعبقرية ميسي. أمّا فرنسا فكانت أشبه بإيطاليا في نهائي 1970، إذ لم تضغط للاستحواذ على الكرة، واكتفت في أوقات كثيرة بمشاهدة المباراة تتبلور أمامها، خاصة قبل تحقيقها التعادل بظرف 97 ثانية.

تبدّل أداء فرنسا بعد التعادل، حتى أنها كادت تفوز بالمباراة عبر اتّباع تكتيك الضغط حين باءت الأساليب الأخرى بالفشل. يمكن القول إنّ فرنسا اتّبعت رؤية غوارديولا لإنقاذ نفسها، فيما الأرجنتين بدأت مباراتها انطلاقاً من هذه الرؤية للفوز.

رغم ذلك، ربما لم ترتكز هذه المباراة على الأنظمة، أو الفلسفة، أو العبقريّة التكتيكيّة، بقدر ارتكازها على تألّق لاعبَيْن اثنَيْن هما ميسي ومبابي، اللذين حدّدا هويّة منتخبيهما، لا بل هويّة البطولة بأكملها. لكنّ ميسي هو من كُتِب له في نهاية المطاف رفع ذاك الكأس الذهبي الساحِر عالياً. فحين تلعب ضدّ التاريخ، لن تُغيِّر قدرك مهما مارست من ضغط.

 


[1] هو أسلوب لعب يهدف في جوهره إلى تنظيم الفريق على قاعدة دفاعية صلبة، وتعني المفردة القفلَ في الإيطالية. يقول المنظّر في الفكر السياسي الإيطالي أنطونيو نيغري: «كان (الصحافي الرياضي والروائي الشهير) جياني بريرا يقول إنّ الكاتيناتشو على صلة بطبائع الإيطاليين (...) ولد في إقليم فينيتو (شمالي البلاد)، الأرض التي كان الناس مجبرين في الخمسينيات على هجرها لأنّهم كانوا لا يملكون ما يقتاتون به (...) الكاتيناتشو يتوافق وطبيعة مناطق الشمال هذه، طبيعة مهاجرين أشداء، قساة لأنّهم كانوا جوعى».

جايمس تورِل

صحافي رياضي بريطاني. يكتب للمراسل.

×